الدولية

صور نمطية حول الولايات المتحدة الأمريكية

حسن الطالب

لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية ذلك البلد المثير للجدل على جميع المستويات، فهي تارة جمركي العالم الذي يتدخل في شتى أنحاء المعمور ليفرِضَ وجهة نظره وسياسته في كل صغيرة وكبيرة، كما أنها مصدر مهم من مَصادر آخر صيحات التطورات العلمية والتكنولوجية، كما أنها البلد الوحيد الذي يعلن الولاء المطلق لإسرائيل بغضِّ النظر عن كل المذابح والجرائم التي يقترفُها هذا الكيَان في حقّ الشعب الفلسطيني الأعزل، وباعتراف كل دول العالم تقريبا، وهي أخيرا البلد الذي يتحكّم في مصادر الثّروة العالمية والاقتصاد العالمي من خلال التدخل المباشر أو غير المباشر في سياسات الدول المنتجة لتلك الثروات. فمن تكون في الأخير هذه «الأمريكا» وكيف ينظر الناس إليها؟ وما هي الصور والرؤى والأفكار التي نسجوها حول شعبها وساساتها؟ ولماذا يتلهف غالبية النّاس في العالم العربي والغربي للحصول على البطاقة الخضراء لدخول هذا البلد والاستقرار به. أسئلة يجيب عنها هذا الكتاب من خلال استقراء جيد للواقع الأمريكي وجرد للصور النمطية والكليشيهات يخالف الحقيقة التي راكمها جمهور ممن قرؤوا أو سمعوا عن بلاد «العم سام» فتكونت لديهم معتقدات خاصة، ليست دائما، وبالضرورة، مما يعبر عن واقع الحال. وعلى طول الصيف سنختار ثلاثين فكرة شائعة عن هذا البلد حتى يتمكن القارئ الكريم من الإلمام بمعطيات عنه كانت تبدو حتى الأمس القريب بمثابة ثوابت وقناعات روجت لها بعض المصادر ووسائل الإعلام المختلفة وجعلت منها أحكاما مسبقة غير قابلة للنقاش.

عديدةٌ هي الصُّور المنمطة (Stéreotypes) التي تكوَّنت حول الولايات المتحدة الأمريكية. لكن ينبغي أن نعلم أولا عن ماهية الولايات المتحدة الأمريكية التي نتَحدَّث. هل هي الولايات المتحدة الأمريكية الحضَرية أم الريفية؟ الليبيرالية أم المحافظة؟ الفقيرة أم الغنية؟ البيضاء أم السوداء؟ المؤمِنة أم الملْحِدة؟ الجمهورية أم الديمقراطية؟ إذ ليس ثمة ولاية متحدة أمريكية واحدة بل «ولايات متحدة». والحقيقة أن هناك صعُوبة في فهم هذا البلد في مجموعه والنظر إليه فيما وراء الأفكار الشائعة والاختزالية. آية هذه الصّعوبة تكمُن في أن مجموع هذه الأحكام المسْبقَة الشّائعة التي تكوّنت حول الولايات المتحدة الأمريكية مرتبطة بكل الأشياء وأضدادها أعني بالوجه السلبي والإيجابي في الوقت ذاته. فثمّة سياسة خارجية انعزالية وتدخلية في آن، ونظام تعليمي عاجز، لكنّه، في المقابل، أثمر، ولا يزال، أفضل الجامعات في العالم، ثم هناك نقصّ في الثقافة وهيمنة ثقافية في المقابل… وتُظهر هذه المفارقات العديدة أن الولايات المتحدة الأمريكية أبعد ما تكون عن أن تشكل تكتلا واحدا وموحدا. زد على ذلك أن هذا البلد كان دائما في تحول مستمر وخضع لقوى متناقضة تفاوتت هيمنتها عليه حسب الحقب التاريخية.
وقد أتاح التوافُق، باعتبَاره أحد الأسُس التي يرتكز عليها هذا البَلد، تثبيت دعائم الوحدة داخله، رغم تنوع طوائفه وشرائحه. والواقع أن الخوف من سلطة سياسية قوية قد أفضى بالأمريكيين إلى توافق مزدوج. فالتّوافق الأول تمّ بين الولايات التي سبقت نشوء الأمة الأمريكية والتي كانت تغار من ميزاتها التاريخية وبين دولة فيدرالية ضرورية لضمان التلاحم الوطني. أما التوافق الثاني فيتجلى في التقسيم السياسي للسُّلط مع نظام شديد للمحاسبة يمنع المشرع والمنفذ، والقاضي من ممارسة استبداده وطغيانه.
وقد يكون للأحكام والأفكار الشّائعة المسبقة عمق حقيقي حتى وإن تبيَّن، في معظم الأحيان، أنها مغلوطة. من تمّ بدا لنا من المفيد العودة إلى الأسُس المرتبطة بماهية الولايات المتحدة الأمريكية. فلئن أمكن لتاريخ هذه الولايات أن يبدو، في نظر الأوروبيين، تاريخا موجزا فإنه يتضح ضروريا لفهم الولايات المتحدة الأمريكية اليوم. وجه المفارقة في الولايات المتحدة بالضبط يكمن في أن تاريخها حديث؛ لكن وزنها وتأثيرها كبيران جدا. وتظل ذهنية أولئك الذين نسميهم «الآباء المؤسسون» أعني أولئك الذين حرروا ووقعوا على وثيقة إعلان الاستقلال ووطَّدوا دعائم المؤسسات الأولى للديمقراطية الأمريكية الفتية ومن أشهرهم ألكساندر هاميلتون وجون أدامز وبنيامين فرانكلين وجيمس ماديسون، تظل مرجعيات غير قابلة للتجاوز. ومن هذه الذهنية نشأت اتجاهات وازنة وميثات مؤسِّسَة عرفتها الولايات المتحدة خلال القرنين الأخيرين.
هناك في المقام الأول الاستثنائية (l’exceptionnalisme). إذ سرعان ما نُظر إلى المستوطنين الأوائل الذين هجروا إلى الولايات المتحدة باعتبارهم شعبا «خاصا» مهيأ ومكلفا بمهمة سماوية المصدر. لقد اعتبرت الولايات المتحدة نفسها منارة للعالم منذ الآباء الحُجَّاج الذين حجوا إليها كمستوطنين على متن سفينة مايفلوير (Mayflower) عام 1620 (والتي ما زالت مدينة ثانكس كيفن (Thanksgiving) حتى اليوم تحتفل كل سنة بذكراها). حيث قاموا بإنشاء أول مستوطنة مؤسسة على ديمقراطية محلية تحترم معتقدات كل شخص على حدة.
ثمة ميثٌ آخر من الميثات المؤسسة للولايات المتحدة ونعني به فكرة المهمة الحضارية (mission civilisatrice) التي تفسر توسع الولايات المتحدة وقيمها الليبرالية، في القارة الأمريكية أوَّل الأمر، ثم في جُزر الكراييبي، وبعد ذلك، في بقية أنحاء العالم. ولم تكن الأسس الدينية للولايات المتحدة غريبة عن هذه القيم. وكان الهدف من التوسع المذكور نشر الحرية والديموقراطية في جميع أنحاء العالم.
ويُظهر ميث الحدود، مقترنا بالعقلية الاستيطانية، التأثير الذي مارسه غزو الغرب الأمريكي في بناء الولايات المتحدة. وأخيرا هناك ميث الحلم الأمريكي الذي يقوم على فكرة أن بإمكان أيٍّ كان أن ينجح بفضل عمله وشجاعته وإصراره. ويعد الميث الأخير بالأساس المحرك الرئيسي لحركة الهجرة نحو الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعيدا عن طابع هذه الميثات الوحدوي فإنها تشكل، بحق، مفاتيح حقيقية من أجل فهم الأمة الأمريكية وسياستها. وبنزوع مؤلفنا هذا إلى البحث في الثقافة الأمريكية وتاريخها وسياستها، بل وفي بحثه عن الأرقام والإحصائيات فإنه يأمل أن يزود القراء بمفاتيح من أجل فهم أفضل للولايات المتحدة كما تبدو عليه صورتها اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى