مصطفى خُلَالْ
كلما زرت طنجة برفقة أسرتي أو مع أصدقاء أو استجابة لدعوة تخص نشاطا ثقافيا ما، كلما استثقلت لحظة مغادرتها. مدينة تفتن الهوى، تخلب العقل وتعتقل العواطف. تستضيفك للسفر في حاضرها المبهج بفضل مفاتنها. وإذا ما استفردت بنفسك لوقت تستقصي معالمها الأسطورية، ورحت تقلب في ماضيها متعارض المشارب والمسارات، متعدد المآلات، متجاذب المصائر، غَنِمَ الفكر لديك ما يسقي عطش الروح ويشبع نهم التقصي.
هاهنا الشيء في جماله منغمس والأشياء في فتنتها غاصة. فإذا الإحساس منتبذ في كون خاص لن تستشعره سوى في طنجة. هاهنا قارتان تكادان تتماسان. تفصلهما عن بعضهما مياه المتوسط ومحيط الأطلسي. ويختلفان. يختلفان لأن لكلِ ماؤُه ولكل حركته، ولكلِ لونُه ولكل ريحه، ولكل دفئه ولكل برودته. ويفترقان. يفترقان وهما المتماسان. يفترقان بحدود لكنها حدود تسيل لأنها من ماء. فتَأمل. ولا تتعبن نفسك فلن تجد في الأرض مشهدا مثيلا. تلك الحدود السائلة إن حَكَمتْها ريح تهب من الشرق ولَى النظرُ نفسَه جهة صخرة جبل طارق أنَى تبزغ للعين أرضُ الإسبان حيث القارة الشمالية، أو إن هي هبت من الغرب ترامت لك (كاديسُ) البرتغال حيث ذات القارة. ولأن كل أمرئ يجد دائما في التاريخ مرتعا لإعمال العقل، فلن يتحرر مهما كانت ميوله من تأثير الأسماء التي لطنجة عليها أفضال إما كنقطة انطلاق كما فعل طارق المحارب أو ابن بطوطة الرحالة، أو نقطة استقبال كما تحكي أسطورة هرقل النصف – إله.
كنت في ما مضى إن وُجِدْتُ في طنجة أفيد حقا من زيارة المعلمة الثقافية البارزة، مكتبة العلامة الأديب الراحل عبد الله كنون والتي كانت خزانتها الضخمة في ملكه، وهي تتوفر على عدد باهر من المخطوطات والمؤلفات والكتب والتي أهداها قبل وفاته لطنجة موصيا بوقفها حبسا على الراغبين في المعرفة والعلم والبحث وعلى عموم القراء من أي جنسية كانوا.
من حب طنجة العظيم كان هذا الوقف الذي هو في طبيعته نادر. وللعلامة الأديب كل الفخر الذي يمنح طنجة حق أن تباهي به كبريات المدن المغاربية جميعا. وإني لأذكر سنة كنت فيها ضيفا على صديقي بيير غريمو، واستُدعيت للمساهمة في ندوة عُقدت بمركز الأديب الفرنسي الشهير فرانسوا مورياك بـ(مالا غار)، مركز «أوقفه» هو الآخر على جماعة (سانت – ميكسان) بمنطقة (لاجيراوند) بفرنسا. وهي في الأصل ضيعة كروم من أربعة هكتارات، وبيت فاخر. في نهاية أشغال تلك الندوة راح القائمون على المركز يتجولون بالزوار في مرافق البيت الضخم قصد التعرف على مختلف محتوياته والأركان التي كان مورياك يستلهم فيها أعماله الروائية أو يقضي فيها أوقاته. وفي لحظة بعد نهاية الزيارة فاجأني أحد مستضيفينا يسألني: هل يوجد عندكم في المغرب ما يماثل مؤسستنا الثقافية «الوقفية» هذه. تذكرت مؤسسة كنون ورحت أحكي كما لو كنت أنا صاحبها. ولأننا نحن المغاربة نتفرد بأننا شديدو الفخر ببلدنا ونحن خارجه، شديدو نقده ونحن داخله، لم أقل لسائلي الأجنبي إن جماعة طنجة ضعيفة الاهتمام بالمركز الثقافي لعبد الله كنون على النحو الذي تمارسه جماعة (سانت – ميكسان) إزاء مركز فرانسوا مورياك.
لطنجة أن تعتز وهي في هذا الاعتزاز محقة. فلن يذكرها الذاكر إلا وهو يصف جمالها واستثنائية موقعها في العالم كله وميلها الثقافي الذي تبدو وكأنها جبلت عليه. ولن يذكرها الذاكر إلا مصحوبة بفضائها الذي اتخذه روائيون وشعراء وفنانون منهلا لرواياتهم… حتى أن طنجة هي التي كتبت رواية (الخبز الحافي) لمحمد شكري المعلَقةِ صُوَرُهُ – جانب صديقه وراعيه الأدبي محمد برادة – في بعض معالمها السياحية والثقافية وليس شكري… وحتى أن صديق طنجة الكبير، بل كاتبها الشهير الأمريكي، بول باولز تبناها مدينة له مثلما تبنته هي ابنا بارا لها. ولقد قرأت نصوصا أدبية اتَخَذَتْ من فضاءات وأزمنة طنجة مسارح لها لا قدرة لي على استعادتها في هذا المقال. لكني أذكر آخرها التي اتخذت من طنجة فضاء بل وزمنا لها… وأقصد هنا رواية (جِيرْتْرودْ) للشاعر والروائي حسن نجمي. اختار فتنة الشمال المغربي، طنجة، ليسكب فيها عمله الفني الأخاذ حقا. ومن عجب أنه توسل لمدينة الفتنة والحلم بحكاية من أشد الحكايات مدرارا للغرائبية الأدبية. ذلك أن (جيرتروند) ليست شخصية خيالية، بل هي المناضلة النسائية والشاعرة والكاتبة الأمريكية الشهيرة، (جيرترود ستاين) التي جعل منها الروائي الشخصية الرئيسية في البناء الروائي جعل من تعدد عناصر المكان الروائية مكان طنجة كفضاء محوري في الرواية. ولكم طالت بي الشهور قبل أن أحصل على نسختي من هذه الرواية، ولولا مبادرة صديقي الكبير الذي اشتكيت له أمري، الشاعر المبدع محمد بوجبيري، ما كنت استمتعت بقراءتها.
طنجة، أيتها الساحرة، لا حررني الزمن من عقالك.