شوف تشوف

الرئيسية

فيكتور يتذكر أيامه الأولى بنيويورك وهكذا عادت والدته للصويرة وتركته مع جديه في حي المهاجرين

في سنة 1925 تغيرت حياة فيكتور المالح. ورغم أن علاقة والديه لم تكن على ما يرام، إلا أنه كان يخص والده بنوع خاص من الحب.
فيكتور المالح، الذي نعاه كبار رجال الأعمال عند وفاته سنة 2014، قيل عنه في ركن خاص استجوبت فيه “النيويورك تايمز” و”الواشنطن بوست” وكبريات صحف الاقتصاد عددا من المؤثرين السياسيين والاقتصاديين، إنه كان متحفظا عندما يتعلق الأمر بالعائلة، وتحدث في اجتماعات مع مهندسي ومدراء شركاته الكبرى العقارية بإعجاب كبير عن جده الذي قضى معه طفولته الأمريكية الأولى عندما جاء إلى نيويورك لأول مرة من الصويرة خلال منتصف العشرينيات (25 يونيو 1925). لكنه كان يتحفظ عن الحديث عن والده.

مشاكل عائلية؟
عندما كانت والدة فيكتور المالح حاملا بآخر أبنائها وفضلت أن تذهب إلى نيويورك لكي تضع مولودها هناك، كانت في الحقيقة تهرب إلى أمها من مشاكلها الزوجية مع والد فيكتور المالح. لم يذكر أي معلومات عن جده لوالده، لكن لا بد أن قساوة الحياة في الصويرة خلال سنوات الطفولة التي قضاها بها، منذ ميلاده إلى يوم الرحيل، وعمره لا يتعدى ثمان سنوات، كانت كافية لتجعله ينبهر بحياة نيويورك، ويفضل البقاء مع جدته الصويرية في نيويورك ويحفظ منها أهازيج أجداده ويتعلم من جده لأمه الذي كان من أصول مختلطة تعاليم الديانة اليهودية.
لكن فيكتور المالح صرّح لـ«Old New Yorker Stories» أنه لم يكن متدينا بالمعنى الكامل للالتزام الديني. وفسّر الأمر بأنه كان مرتبطا بالتحول الكبير الذي عرفته حياته، من طفل يافع في المدينة القديمة للصويرة، إلى شاب مندفع وسط نيويورك، خصوصا أحياء المهاجرين الذين يشكلون مزيجا من آسيا وإفريقيا وأوربا الشرقية. لقد كان فيكتور المالح منبهرا إلى الحد الذي نسي معه رحيل والدته وعودتها إلى كنف والده، زوجها، في الصويرة، ليبقى هو مع جديه ويحاول الالتحاق بالمدرسة. قال أيضا إنه كان يتوصل من والده بعدد من الرسائل التي كان يحاول فيها أن يطمئن على طفله الصغير في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، حيث إنه لم يكن موافقا على بقائه هناك. وهذا أمر اعترف به فيكتور المالح أثناء الحوار المطول الذي أجري معه أشهرا قبل وفاته، حيث أضاف: «والدي لم يكن معجبا بأمريكا. وحتى عندما زارني هنا وأنا طفل، حاول إقناعي بالعودة إلى موكادور. لكنه في الأخير عاد وأوصاني بالاهتمام بدروسي وأن أحافظ على وفائي للدين اليهودي ولأصولي».

أطلال من الصويرة
لم يكن فيكتور المالح بأصوله المغربية، دخيلا على ثقافة نيويورك أثناء طفولته. فقد اعتاد منذ أن فتح عينيه في الصويرة سنة 1918، أن يرى جنسيات كثيرة في المدينة. وفي الأحياء التي كانت مخصصة ليهود الصويرة، كان يقطن دبلوماسيون أجانب على مرمى حجر منها. أي أن فيكتور المالح كان متآلفا مع وجود جنسيات كثيرة حوله. ففي الصويرة كان يستقر دبلوماسيون وتجار من هولندا وفرنسا وبريطانيا وحتى من الشرق، رغم أنهم كانوا قلة. وقد تطرقت عدد عن البحوث والدراسات الجامعية والأكاديمية إلى نقطة الجنسيات التي شكلت ماضي الصويرة، كيف تحولت بنايات كانت في الأصل قنصليات، إلى بنايات مهجورة أو جرى ترميمها للتحول إما إلى دور ضيافة أو إلى مطاعم أيضا.
الأطلال التي يحفظها فيكتور المالح عن الصويرة، لم تكن كثيرة..، حيث تحدث باقتضاب عن المرسى الشهير للمدينة حيث يصطف الصيادون في الصباح والمساء مستعرضين محصولهم من السمك الذي تجود به أعماق بحر الصويرة المتلاطم. المدينة بالنسبة له رياح عاتية وأصوات لاعبي «الهجهوج» على طريقة «كناوة». ولا شك أن هذا الموروث الثقافي الغني ساهم في صناعة الشخصية الفنية لفيكتور المالح. فكما سوف نرى في هذه الحلقات، فإن المالح انشغل خلال حياته بمصادقة الفنانين، ومشاهير السينما العالميين الذين كانوا يقتنون منه الفيلات والإقامات الفاخرة في قمة نجاحه في عالم المال والأعمال. والمثير في الموضوع أكثر، أنه تفرغ في مرحلة من حياته، وهو في قمة ثرائه، لكي يصبح فنانا تشكيليا، وكانت بصمة الصويرة حاضرة في لوحاته وفي اختياراته للألوان. حتى أن بعض لوحاته، إن لم تكن جميعها، بيعت بملايين الدولارات، قيد حياته وبعد رحيله أيضا.
أطلال الصويرة كانت حاضرة في روح الطفل فيكتور المالح، رغم أن وعيه تشكل في نيويورك، لكن لا بد أن رسائل والده إليه في تلك المرحلة، كانت أكثر ما يشده إلى أصوله المغربية.
الوازع الديني أيضا كان حاضرا لدى فيكتور المالح. والمعروف في التاريخ المغربي أن الصويرة كانت مركزا للتدين اليهودي، وحج إليها رجال دين يهود. «الحزان» و«الحاخام» و«الربي» كانوا جميعا يعيشون في الصويرة لكي ينظموا الحياة الدينية لليهود التجار الذين تحولوا إلى أثرياء أوكلت لهم الدولة المغربية مسؤولية الرفع من أداء الاقتصاد المغربي ووضعت ميناء الصويرة منذ تأسيسه قبل ثلاثة قرون تقريبا، رهن إشارتهم لكي يشرفوا على التجارة مع جنسيات مختلفة حول العالم. أسرة المالح كانت من بين هذه الأسر التي حجت إلى الصويرة لبدء حياة التجارة والمال والأعمال. لكن بدا واضحا أن حظ والده كان متعثرا في التجارة، لكنه في الجانب الروحي، كان يهوديا محافظا، وحاول جاهدا نقل تعاليم الدين اليهودي إلى ولده فيكتور، رغم أنه رحل إلى نيويورك للعيش مع جده، الذي كان أيضا رجل دين، لكنه لم يكن مغربيا.

مغربي في نيويورك
بدأ فيكتور المالح حياة أخرى في نيويورك. كان عليه في ربيع سنة 1926 أن يودع والدته التي جاءت به إلى تلك الأرض. أعجبته المدينة، ورجت جدته والدته أن تتركه في كنفها، فاستجابت لرغبة أمها رغم إدراكها أن متاعب كبيرة سوف تنتظرها في المغرب، أو الصويرة لكي نكون أكثر تحديدا، مع والده الذي رفض منذ البداية فكرة استقراره مع جدته.
استقروا في البداية في منزل للكراء بـ: التقاطع 66، في منطقة الشارع 20.
ثم بعد مدة، استطاع جده شراء منزل للعائلة في منطقة «بنسن هارست».
كانت أمه تحمل رضيعها بين يديها، وتهم بالصعود إلى السفينة، تاركة خلفها ابنها الصغير فيكتور المالح الذي كان بالكاد قد بدأ يميز الأحاسيس البريئة في هذه الحياة الجديدة والصاخبة في نيويورك. لم يكن يتحدث الإنجليزية. كان يتحدث الدارجة المغربية بطلاقة، والعِبرية بطبيعة الحال التي تعلمها وسط أحياء الصويرة ودور العبادة بها عندما يتلو الصلوات يوميا مع والده وجدته.
عادت الوالدة إلى المغرب على متن سفينة شحن كان عليها أن تتوقف في أوربا، ثم تحول وجهتها صوب المغرب عبر الأطلسي. كان فيكتور وهو يراقب أمه تحاول صعود الدرج وبين يديها رضيع ملفوف في القماش، يتساءل عن مستقبله في مدينة تعلو فيها ناطحات السحاب فوق الجميع. ترى كيف ستكون حياته في نيويورك؟ وهل سيصبح يوما واحدا من هؤلاء الذين يجرون خلف الحياة بمعاطفهم الثقيلة؟ أم أنه سوف ينخرط في تجمعات المهاجرين الجدد الذين كانوا يفترشون الأرض ليلعبوا موسيقاهم المحلية التي تحكي عن أصولهم وقصص نزوحهم النهائي إلى أرض «الحلم الأمريكي». لقد كان فيكتور المالح صغيرا، لكنه كان بتأملات كبيرة.
يقول مستحضرا تلك المرحلة من حياته في تصريح صحافي في آخر أيام حياته: «كنت دائما أشعر أنني جديد على نيويورك خلال الأشهر الأولى رغم أن جدي كان يشجعني على الانخراط في الحياة الجديدة وربط علاقات صداقة مع الأطفال في مثل سني. ربما كان الحي الذي يقطنه جدي عاملا مهما في تعرفي على الحياة في نيويورك. عليّ أن أعترف، لم تكن الأمور سهلة في البداية. هذه هي الحقيقة».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى