شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

قصص مشاريع بناء السدود المغربية

بدأها الفرنسيون وراقبها الأمريكيون وحاول السوفيات اقتحامها

الصور الأخيرة التي تناولتها الصحافة الدولية، وأكدتها وزارة التجهيز المغربية هذه الأيام، والتي تتعلق بتراجع مخزون السدود المغربية، تعيد إلى الواجهة أهميتها في خريطة المنطقة ودورها التاريخي في توفير المخزون المائي لبلد بحجم المغرب ومكانته في مجال الصادرات الفلاحية في السوق العالمية.

بدأ إنشاء السدود في المغرب منذ النصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي، وتحول بناؤها إلى مسلسل مشوق يجمع بين تجسس الاستخبارات الأجنبية على المغرب، والصراعات السياسية المحلية التي كلفت البلاد تأخرا في مجال بناء السدود.

يونس جنوحي

يونس جنوحي:

 

الصراع السياسي بعد الاستقلال أخّر مشاريع بناء السدود

عندما ألقى الملك الراحل الحسن الثاني خطابه الشهير سنة 1966، والذي خصصه لإعلان تصوره وطريقه تدبيره لتوزيع الأراضي المُسترجعة، كانت آذان الفلاحين المغاربة وأفئدتهم مشدودة إلى العبارات والجمل التي شرح فيها الملك الراحل بالأرقام، مساحات الأراضي التي يُراد توزيعها واستغلالها، بعد أن غادرها المعمرون الفرنسيون. والخبراء وقتها كانوا يُدركون أن المشكل لم يكن يكمن في المساحات المراد توزيعها، ولكن في طريقة تدبير كميات المياه اللازمة لضمان استغلالها.

كان المغرب في ذلك التاريخ بالكاد يتعرف على السياسة الجديدة التي أطلقها الملك الراحل. وبالإضافة إلى سد بين الويدان الموروث عن الاستعمار الفرنسي، وفر الملك الراحل سدا آخر، كان أول سد يُبنى في عهده، وهو سد مولاي يوسف الذي بوشر استغلاله سنة 1965.

لماذا استغرق الأمر عشر سنوات لكي تتحقق مشاريع السدود المغربية، رغم أن البلاد وقتها كانت في حاجة ماسة إلى مشاريع من هذا النوع؟

مرد هذا التأخر، هو الصراع السياسي على الحقائب الوزارية، خصوصا وزارة الفلاحة ووزارة التجهيز.

في حكومة البكاي الأولى التي انطلقت سنة 1955، لم يكن هناك وجود لأي مشروع بناء سد تشرف عليه الوزارة المعنية. لكن مع مجيء حكومة بلا فريج الأولى سنة 1958، والتي نُصبت على أنقاض حكومة البكاي الثانية، أُسندت وزارة الفلاحة إلى عبد الرحيم بوعبيد الذي كان يوافق كلا من المهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم في أغلب تصوراتهما ومواقفهما السياسية من قرارات حكومة بلافريج، القطب الاستقلالي. بينما أسندت وزارة التجهيز إلى الاستقلالي محمد الدويري.

ورغم أن هذه الأسماء كلها في حكومة بلافريج كانت في البداية تنتمي إلى نفس التيار السياسي، جناح كفاءات حزب الاستقلال، إلا أن التباين في الأفكار بين مكوناتها كان واضحا، وهو ما عرقل العمل الحكومي، سيما بعد انفجار الوضع وافتراق السبل، حيث ذهب عبد الرحيم بوعبيد مع عبد الله إبراهيم والمهدي بن بركة -هذا الأخير لم يكن وزيرا، لكنه كان مؤثرا جدا في كل أطر الحزب وكفاءاته- وأسسوا حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بينما بقي الدويري، وزير التجهيز، وفيا لحزب الاستقلال وبقي من أبرز قادة الحزب، رغم انتهاء ولاية حكومة بلافريج، والتي جاءت محلها حكومة عبد الله إبراهيم والتي بدأت أشغالها مع بداية سنة 1959.

هذا الانشقاق تلاه اختلاف كبير في فلسفة تدبير ملفات الوزارتين -الفلاحة والتجهيز- وهكذا فقد أسندت وزارة الفلاحة إلى وزير اسمه التهامي عمار، ولم تعد مرتبطة بعبد الرحيم بوعبيد الذي كان يشرف على الفلاحة، لأنها مكون اقتصادي أساسي، بينما تولى وزير آخر لا علاقة له بدائرة هذه الأسماء القيادية وزارة التجهيز.

هذا «الانقلاب» كلف المغرب الكثير، إذ إن بعض المشاريع المتعلقة بتصور إنشاء سدود، لم تر النور بسبب هذه الصراعات.

ومع نهاية حكومة عبد الله إبراهيم التي لم تعمر طويلا ولم تتجاوز السنة، جاء عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وبدأت أولى علامات تناول المشاريع الكبرى التي تأجلت، بسبب صراعات التجارب الحكومية المتقلبة منذ 1955.

وهكذا بدأ الملك الراحل الحسن الثاني منذ 1963 أول مشاريع إنشاء سدود مغربية مائة بالمائة، وهو ما كان يراقبه الأمريكيون، والسوفيات، والفرنسيون طبعا! وبكثير من الحذر.

 

لماذا يراقب الأمريكيون سدود المغرب؟

أثارت قراءة صور الأقمار الصناعية الأخيرة التي تناولتها وكالة الفضاء الأمريكية، والتي كانت قناة «BBC» البريطانية سباقة إلى نشر مضامينها، قبل أيام، موضوع حقينة السدود المغربية، وأعادته إلى الواجهة.

لماذا هذا الاهتمام الأمريكي بالسدود المغربية؟

في الحقيقة إن الأمر يتعلق باهتمام قديم جديد، يعود إلى ستينيات القرن الماضي.

وبعيدا عن الأرقام والمعطيات التقنية التي تناولها التقرير، فإن الأمريكيين كانوا دائما مهتمين بالسدود المغربية، على اعتبار أنها صمام أمان للاستقرار الفلاحي وضمان لاستمرار الحياة في المنطقة.

تبقى السدود المغربية واحدة من أهم الخزانات المائية للمياه في المنطقة المغاربية، خصوصا أن مشاريع إنشاء السدود، كما سوف نرى في هذا الملف، تعود إلى النصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي، أي قبل قرن من الآن.

السفارة الأمريكية في الرباط، ومن خلال مراجعة مراسلاتها التي رفعت عنها السرية، سبق أن تناولت مشاريع إنشاء السدود المغربية منذ 1966، السنة التي حقق فيها الملك الراحل الحسن الثاني تصوره لأول مشروع سد مغربي يعزز قدرة المغرب على تخزين المياه.

وحسب المراسلات الأمريكية لوزارة الخارجية التي توصلت بها واشنطن من سفارة أمريكا في الرباط، فإن المغرب شكل في تلك السنة، هدفا للاتحاد السوفياتي لكي يستحوذ الروس على مشاريع إنشاء السدود، بعد أن علموا أن الملك الحسن الثاني ينوي إطلاق سياسة مائية «ثورية» في إفريقيا.

الأمريكيون نقلوا تخوفهم من إمكانية فوز الروس بصفقة «ما» لإنشاء سد في المغرب، بمواصفات روسية. لكن لم توص سفارة الرباط بتقديم مساعدات إلى المغرب في هذا الباب، لكن اكتفت باقتراح توفير إعانات فلاحية للمغرب، لكي تتجاوز البلاد مخاوف نفاد المخزون الفلاحي في حال استنزاف مخزون السدود الحالية، وبالتالي تأخير التفكير في ضرورة إطلاق مشاريع بناء سدود أخرى.

لم تكن الموارد المحلية للمغرب وقتها تكفي لبناء مشاريع سدود متزامنة، خصوصا في النصف الثاني لستينيات القرن الماضي، وهو ما شكل محفزا للروس، كما سوف نرى في هذا الملف، لكن الأمريكيين، رغم هذا كله، لم يقدموا توصيات بدعم إنشاء سدود في المغرب، ورجحوا كفة تقديم مساعدات فلاحية، سيما في عهد الرئيس كينيدي.

انزعج الروس من الزيارة التاريخية للملك الحسن الثاني إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والاستقبال «الأسطوري» الذي خصصه له الرئيس كينيدي، وحجم التغطية الإعلامية التي وفرتها الصحافة الأمريكية لتلك الزيارة، لكن انزعاجهم ازداد عندما لم يُبد الملك الراحل أي استعداد للاستفادة من تجارب الروس في مجال السدود، خصوصا وأن الاتحاد السوفياتي دعم فعلا مشاريع مماثلة في كل من مصر وسوريا والعراق. لكن أعين الأمريكيين ظلت تراقب مشاريع إنشاء السدود، والتي كانت في أوجها خلال السبعينيات، بعد نجاح أول مشروعين في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي. ثم جاءت بعد ذلك مشاريع أخرى في تسعينيات القرن الماضي، واستؤنفت المشاريع مجددا خلال بداية عهد الملك محمد السادس، خصوصا في الفترة ما بين سنتي 2000 و2003، حيث نُفذت مشاريع سدود كانت حاسمة في توفير مخزون مائي مهم.

سد بني ملال المنسي.. قصة المهندس الفرنسي الذي حقق المشروع سنة 1927

العهدة هنا على الكاتب البريطاني برنارد نيومان، الذي زار المغرب وأصدر كتابا سنة 1952 يحكي فيه عن تجربة زيارة كل جهات المغرب شمالا وجنوبا، وهي الرحلة التي استمرت لأسابيع طويلة التقى خلالها الكاتب مسؤولين وعسكريين فرنسيين، وسياسيين مغاربة، كما أنه نقل مشاكل وهموم الطبقات الشعبية وتخوفاتها من الاستعمار وسياسة الإدارة الفرنسية في المغرب.

اهتم نيومان كثيرا بمسألة السدود المغربية، وأفرد لها حيزا مهما في كتابه الذي جاء بعنوان «Morocco Today»، وتناولها من منظور فرنسي وآخر مغربي.

ننقل هنا مقطعا من الكتاب، الذي جاء باللغة الإنجليزية وسبق أن قدمنا له ترجمة كاملة على حلقات في صفحات «الأخبار».

يقول: «خلال رحلاتي، التقيتُ بمجموعات متنوعة من الموظفين في مجال الفلاحة، من خبراء زراعيين ومهندسين في مجال الري.

لقد أفادوني بشكل كبير، لكن الأمر استغرق مني مجهودا كبيرا، ونادرا ما كان هؤلاء الخبراء المتحمسون يفكرون في الإرهاق الذي يحتمل أن يصيب «ضحيتهم».

في منطقة قصبة تادلة، لاحظتُ وجود سد صغير، أسفل قنطرة عشوائية، كان الناس يُسمونها «برتغالية» بالخطأ. كان السد بسيطا ومتواضعا فعلا. ولم يتم القيام بأي محاولة لوقف الوحل المتدفق إليه مع مياه وادي أم الربيع، وتم الاكتفاء بمجرد تحويل جزء من تلك المياه إلى قناة للري. لكني اكتشفتُ أن تلك القناة كانت بداية لاكتشاف خطة ري عجيبة.

في سنة 1927، قام مهندس فرنسي بتجربة بناء سد لتحويل جزء من مياه النهر إليه. لم تكن آفاق المشروع مشرقة. كانت المياه مالحة قليلا. أرض السهل لم تكن جيدة لتنفيذ المشروع، كما أنه لم يكن لديه مال!

ومع ذلك، فقد كانت تجاربه الأولى مواتية بما يكفي لجذب انتباه سكان المناطق العُليا. استمرت التنمية المحلية بوتيرة متواضعة، ولكن في العام 1941 أنشئت إدارة خاصة لكي تتكلف بعملية الري في المنطقة.

استمرت التنمية المحلية بوتيرة متواضعة، ولكن في العام 1941 أنشئت إدارة خاصة لكي تتكلف بعملية السقي في منطقة بني ملال وقصبة تادلة.

وبدل أن يتم استغلال تلك المياه محليا، فقد أصبح معظمها يمر عبر القناة إلى السهل الشمالي، وصولا إلى منطقة «بني عمر»، وهناك يتم توزيعها. في البداية عبر مسالك أرضية، ثم أصبحت المياه تُنقل عبر قنوات إسمنتية اقتصادية.

عبرت الأرض التي يقع فوقها المشروع بسيارتي الـ«جيب»، وعاينتُ بنفسي سير العمل».

لم تكن هذه التجربة الوحيدة للسيد «نيومان» بخصوص السدود المغربية، فقد تطرق أيضا إلى سد بين الويدان الذي يعتبر أحد أهم السدود التي أنشأتها فرنسا في القارة الإفريقية كاملة، وليس المغرب فقط. وحتى بعد الاستقلال فقد بقي هذا السد الذي وُضع تصوره الأول نهاية أربعينيات القرن الماضي -جاء في الأرشيف أن الأشغال انطلقت فعليا في سنة 1948- أحد أهم السدود في المنطقة، ولعب دورا كبيرا في توفير الاحتياط المائي، قبل بناء سد مولاي يوسف مع بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وبعده جاءت مشاريع سدود أخرى.

من خلال العمل التوثيقي الذي أنجزه الرحالة والمستكشف البريطاني «برنارد نيومان»، في هذا الكتاب، اتضح بما لا يدع مجالا للشك أن المغرب كان في أمس الحاجة إلى إطلاق مشاريع بناء السدود، لضمان عدم تكرار مآسي المجاعات وفترات الجفاف، وهو ما انتبه إليه المغاربة أيضا بعد الاستقلال.

كيف إذن جاءت تجربة سد بين الويدان؟ يقول برنارد نيومان إن هذا المشروع فكر فيه الفرنسيون جيدا، قبل أن يبدؤوا أشغال إعداده، فقد كانت هناك مساع، بحسب الكاتب دائما، لإنتاج الطاقة الكهربائية ونقلها إلى الجزائر! وليس هذا فحسب، بل كانت من وراء إنشائه أهداف استعمارية خالصة، من بينها توفير تحفيز كاف للفلاحين الفرنسيين، لكي يشرعوا في الاستثمار الفلاحي داخل المغرب.

 

 

فرنسا فكرت في إنشاء سدود بالمغرب لتصدير الكهرباء إلى الجزائر

يقول برنارد نيومان في كتابه «Morocco Today»:

«توغلتُ بسيارة الـ«جيب» إلى قلب الأطلس المتوسط، لكي أجد مشهدا لمُعسكر بُني حديثا، لكي يستقر به المُنقبون. لقد تم فعلا نصب جدار خرساني شاهق. ولحسن الحظ، فإن الوادي يجري في منطقة «بين الويدان»، بين مضايق صخرية. وعندما يُنشر هذا الكتاب فإن العمل على هذا المُعسكر سوف يكتمل.

صعدتُ إلى قمة المنطقة الجبلية لكي أرى السد من الأعلى، ولكي أدقق النظر في الوادي الذي حُكم عليه بالفناء.

رأيتُ منطقة قاحلة، لا يقطن بها سوى بضع مئات من الفلاحين الذين يعيشون على الرعي. سوف يتعين عليهم الرحيل، بطبيعة الحال. لكنهم سوف يحصلون على نصيبهم من المنح الأولى للأراضي المجهزة بتقنية السقي حديثا، في السهول.

في شهر أكتوبر 1952، سوف ينتهي العمل على السد، وسوف تتجمع مياه الوديان الجبلية خلفه، لكي تشكل بُحيرة عميقة.

لا أحد يعلم كم سوف تستغرق هذه العملية، لأن المهندسين لا يستطيعون حساب كميات الأمطار المتوقع هطولها في المغرب.

إذا حلّ موسم أمطار جيد بشكل يفوق التوقعات، فإن السد قد يمتلئ خلال سنة. أما إذا توالت سنوات من الجفاف، فإن الفترة المطلوبة قد تطول، وقد تصل إلى خمس عشرة سنة.

وقبل هذه الفترة، بمدة طويلة، سوف يكون نظام الري، قيد الاستعمال.

لقد تم التخطيط للبدء في العمل به في ربيع سنة 1954. على بُعد كيلومترات فقط أسفل السد، يتم بناء نفق لكي يقود إلى قلب جبل «تازركونت»، وهو أحد مرتفعات الأطلس المتوسط.

ذهبتُ مع تقنيي النفق إلى المكان على متن عربة كهربائية تسير فوق سكة حديدية. وجدتُ أنهم قد أنهوا العمل على 17 كيلومترا من إجمالي المسافة التي يتعين عليهم حفرها لإنهاء النفق. ولم تتبق لهم إلا ثلاثة كيلومترات أخرى لإنهائه.

وبحلول الوقت الذي سوف ينتهي فيه العمل، سوف تتراكم كميات مياه كافية خلف الحاجز لبدء العمل بنظام الري.

في الواقع، سوف يتم تحويل مجرى وادي «العبيد» إلى واد آخر مواز له، على بُعد مسافة عشرة كيلومترات، بواسطة نفق يبلغ طوله عشرة أقدام، مخترقا عقبة جبلية هائلة. وهذا الأمر سوف يكون إنجازا هائلا بالتأكيد.

ومع ذلك، سوف يكون الجهد المبذول لاستكمال العمل مضاعفا، قبل أن تبدأ المياه في ري سهل منطقة بني موسى.

وخلال جريان المياه عبر التوربينات المثبتة في جدار السد، فإنه سوف يتم توليد التيار الكهربائي.

وبعد ذلك، بمجرد وصول المياه إلى الجانب الشمالي من الجبال، بعد مرورها بمحاذاة المنحدر الخفيف المؤدي إلى النفق، سوف يتم توجيهها مباشرة إلى أنابيب عملاقة، لكي تسقط بقوة في محطة توليد كهربائية أخرى في منطقة «آيت وارداغ أفورار».

المحطتان معا سوف تتحدان لإنتاج ما مقداره 550 مليون كيلوواط في الساعة من الكهرباء سنويا.

ومع الموارد المتوفرة، فإنها لن تسد حاجة المغرب فقط من الطاقة الكهربائية، بل سوف يتم تصدير الكهرباء إلى الجزائر!

وعند الانتهاء من العمل على الجانب الصناعي، سوف يتحول استعمال المياه إلى الزراعة.

لقد تم بالفعل حفر قناتين رئيسيتين للري.

سوف تتم إضافة الفروع، ليشملها هذا النظام، وفق تسلسل مناسب. وفي غضون السنوات القليلة المقبلة، سوف تصبح المساحة الكبيرة البالغة 90 ألف هكتار (أي حوالي 350 ميلا مربعا)، مزودة بنظام الري.

سيجد الفلاحون النازحون من الوادي الذي حُكم عليه أن يصب في السد، حقولا جديدة في انتظارهم، وقد حُرثت وزُرعت مسبقا.

كل ما سوف يتوجب عليهم القيام به، انتظار محصولهم الزراعي الأول».

تحققت فعلا نبوءة نيومان، إذ إن أشغال بناء السد انتهت قبل الموعد المحدد، وشُرع في استغلاله سنة 1953، حيث دشن في احتفال رسمي فرنسي، استعرضت فيه الإدارة الفرنسية قُدرات أطرها.

هكذا وُضعت مشاريع بناء سدود مغرب الحسن الثاني رغم «المعارضة»

كان معروفا أن مشروع إنشاء طريق الوحدة لتربط بين مغرب الحماية الفرنسية ومغرب النفوذ الإسباني سابقا، سنة 1957، اشتغل عليه المهدي بن بركة، وكان مشرفا على أشغاله. وحتى في المرات التي تفقد فيها ولي العهد الأمير مولاي الحسن المشروع في ظل وجود حكومة مغربية يُفترض وقتها أن يؤول المشروع إلى وزارة التجهيز، فقد كان المهدي بن بركة عمليا يشرف على المشروع ميدانيا.

طريق الوحدة كانت التحدي الأول لمغرب الاستقلال في مجال تنفيذ المشاريع والإشراف على الأشغال. وحدث هذا في ظل وجود أطر فرنسية في أغلب الإدارات المغربية.

تقول بعض المصادر إن المهدي بن بركة كان أيضا يحمل مشروع سد مغربي، عرضه على الملك الراحل محمد الخامس في العام 1958، وكانت وقتها حكومة بلافريج تمسك بزمام الأمور، إلا أن المشكل كان يتعلق بالسيولة اللازمة لتنفيذ المشروع.

ولم يكن المغرب يتوفر وقتها سوى على سد بين الويدان الذي كان يعتبر سدا بالمعايير الدولية وقتها، وكان السياق التاريخي وقتها يفرض إنشاء سد بمواصفات تفوق السد الذي أشرفت عليه الإدارة الفرنسية، في عز فترة الحماية.

على الأرض، كان المغرب يتوفر عمليا على عشرات الأطر المكونة جيدا في أرقى المعاهد الفرنسية في مجال الهندسة، بالإضافة إلى فوج من الخريجين المميزين في المجال التقني الفلاحي، لكن المشكلة بالأساس كانت مشكلة تمويل، فتأجل المشروع.

لكن مع بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني، خصوصا في سنة 1963، بدأت بوادر الإعداد لإنشاء سدود مغربية، لتعزيز قدرة التخزين المائي لمواجهة أزمات الجفاف المتلاحقة التي ضربت المغرب في ذلك الوقت.

سد مولاي يوسف، الموجود بين مراكش ودمنات، والذي دُشن سنة 1965، كان يعتبر حدثا استثنائيا بكل المقاييس، وأول إنجازات الملك الراحل الحسن الثاني على الأرض. إلى درجة أن المشروع «أقلق» الروس، واعُتبر إنجازا غير مسبوق في المنطقة بالنسبة إلى دولة لم تمض سوى عشر سنوات على استقلالها.

تجربة إقامة هذا السد، والذي اعتبر وقتها ذا قدرة تخزين مهمة، مهدت لإتمام مشروع سد محمد الخامس الذي انتهت أشغال إعداده سنة 1967. وما يكشف أهمية المشروعين، أن مشاريع إقامة سدود أخرى لم تر النور إلا في فترة السبعينيات.

أشاعت المعارضة وقتها، والصحف الاشتراكية الفرنسية أيضا، أن سياسة إنشاء السدود من شأنها أن تستنزف موارد الدولة، بل واتُهمت بعض الشخصيات السياسية وكبار الموظفين وقتها باختلاس أموال إنشاء هذه السدود.

لكن ما حملته السنوات اللاحقة للمغرب، أكد بما لا يدع مجالا للشك أن سياسة إنشاء السدود أنقذت المغرب فعلا من كوارث اقتصادية محققة.

فترة السبعينيات كانت أوج سياسة إنشاء السدود، ومنذ 1973 إلى حدود 1979، ورغم المشاكل السياسية، انتهت أشغال إنشاء أهم أربعة سدود أخرى في المغرب، بقدرة تخزين مهمة وصلت إلى ملايين الأمتار المكعبة، وبقي سد المسيرة الذي كان الهدف منه تخزين مياه وادي أم الربيع، أهم تلك المشاريع على الإطلاق.

السوفيات نظروا إلى سياسة بناء «السدود» بقلق

في العام 1967، كان أحد تقنيي الاتحاد السوفياتي، بالإضافة إلى مهندس شاب يحمل الجنسية نفسها، في زيارة عمل إلى المغرب. المهمة، بحسب وثائق الأرشيف التي تعود إلى اتصالات ومراسلات سفارة الاتحاد السوفياتي في الرباط، كانت تفقد أنظمة عمل أهم اثنين من السدود المغربية، والعمل على إعداد مشروع مقترح بناء سد بمواصفات علمية وضعها مهندسون سوفيات.

جاء في مراسلة تحمل تاريخ السادس من يونيو 1966، وتحمل ترقيم A-1190/66، أن هذا الفريق الروسي المكون من رجلين، جاء لتعزيز مخطط الاتحاد السوفياتي للفوز باحتكار إعداد البنيات التحتية في عدد من الدول العربية، من بينها سوريا والعراق. وكانت أعين السوفيات موضوعة على المغرب، للفوز بصفقات إنجاز سدود لتخزين المياه، باستعمال تقنيات هندسية كان الروس سباقين إلى وضع أسسها في الأيام الذهبية للاتحاد السوفياتي.

لم يستمر مقام الروسيين طويلا في المغرب، إذ إن الجولة لم تتجاوز ثلاثة أسابيع، قضى الفريق الثنائي معظم ساعاتها في التقاط صور لسد بين الويدان، الذي يعود إلى فترة الحماية الفرنسية، وسد مولاي يوسف الذي يعود بناؤه وإصلاحه إلى منتصف ستينيات القرن الماضي، وأخذا عينات من الأتربة المحيطة ببعض الوديان، سيما في نواحي الدار البيضاء والرباط.

جاء في التقرير الذي رفعه المهندس، أن بعض المناطق تصلح لإقامة سدود بـ«قدرة تخزين هائلة بالنظر إلى الموقع الجغرافي للأماكن المناسبة للبناء، والتي تتموقع بالقرب من أقوى تيار مائي بمحاذاة المصب، وقد تستعمل هذه السدود للري وأيضا لأغراض تقنية».

هذه العبارة التي ذُيل بها التقرير، سبقتها فقرة أخرى توقع فيها الروس إمكانية بناء أزيد من عشرين سدا عصريا، وبأحجام تخزين متوسطة، من شأنها جميعا أن تقلب موازين القطاع الفلاحي في المغرب، وتحول الغطاء النباتي في أغلب جهات المغرب وتساعد على ترشيد عمليات السقي.

لم يفت هذا المهندس الروسي، الإشارة إلى أن معظم مشاريع السدود المغربية التي توجد على رف وزارة التجهيز، على خلفية زيارة له إلى مقر الوزارة في الرباط في نفس فترة زيارته إلى المغرب، وضعها إما تقنيون فرنسيون، أو مغاربة من خريجي المدارس الفرنسية. وهذا ما جعل المهندس الروسي يشير في تقريره إلى أن المغاربة يفضلون التعامل مع الفرنسيين، بحسب رأيه، نظرا إلى العلاقة الوطيدة بين المغاربة والأطر الفرنسية، وأيضا بحكم أن فرنسا تتوفر على بيانات دقيقة لجغرافية المغرب وخريطته الطبيعية، وأيضا على إدراك تام بإمكانيات البلاد التقنية وحاجياتها أيضا.

ورغم أن زيارة المهندس الروسي إلى الإدارات الرسمية كانت بهدف لقاء مهندسين فرنسيين كانوا وقتها لا يزالون يعملون في الوزارة، قبل مغربة الأطر بالكامل، إلا أن الهدف الحقيقي بحسب ما كشف عنه التقرير، كان محاولة استشفاف مستقبل صفقات إنشاء السدود المغربية، خصوصا وأن الروس، بحسب التقرير دائما، كانت لديهم معلومات دقيقة جمعوها من مكتبهم في الرباط والجزائر، مفادها أن الملك الحسن الثاني أولى اهتماما كبيرا منذ سنة 1965 لإنشاء السدود، حتى لا تكرر مآسي الجفاف التي عرفتها البلاد خلال فترة الحماية والسنوات الأولى التي تلت استقلال البلاد.

بدا واضحا أن المهندس الروسي لم يحصل على معلومات تشفي الغليل بشأن المشاريع المستقبلية، وكل ما حصل عليه «دردشة» مع بعض الأطر المغربية والمكاتب الجهوية في الأقاليم التي شملتها دراسة الروس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى