شوف تشوف

الرأيالرئيسية

كيف ولد كتابي الطب محراب للإيمان

بقلم: خالص جلبي

 

هل أنت جاد فعلا؟ هكذا قال لي صديقي بدر الدين باش إمام، زميلي في كلية الطب، حين صارحته بأنني مقبل على كتابة «الطب محراب للإيمان»، وليس بيننا وبين الفحص الأخير لنيل الدكتوراه في الطب سوى شهرين!

قال معترضا: انته أولا من الفحص العام الأخير الذي بموجبه ستصبح طبيبا .. يا خالص اسمع!… ثم تفرغ وليس أمامك شيء لكتابة كتابك.

قلت له:هذا صحيح، ولكن ولادة الأشياء والأشخاص والكتب لها لحظاتها التاريخية، ويروى عن لينين ذلك الحس التاريخي أيام ولادة الثورة البلشفية.. تابعت إنها لحظة ولادة هذا الكتاب فإذا لم أكتبه الآن لن يكتب قط، ولن يولد ابني (غير البيولوجي) الجديد.

إن فرحتي بولادة أحد كتبي هي مثل فرحتي بولادة طفل لي؛ فكلاهما استمرار لي في وجه الفناء؛ الأولاد بيولوجيا فهم استمرار للنوع مقابل فناء الأفراد، والكتب تخلد صاحبها، بعد أن ينطفئ عقل صاحبها وينقطع عن أي امتداد.

جاء في الحديث شيء من هذا القبيل، أن عمل الإنسان في الدنيا ينقطع إلا من ثلاث الامتداد البيولوجي بالولد الصالح، والامتداد الفكري بعلم نافع، أو ما يجمع بين الاثنين من صدقة جارية.

هز صديقي رأسه ولم يفهم.. أما أنا فبدأت خطتي في وضع الكتاب؛ أولا رفعت كل كتب الطب من وجهي، إلا التي أحتاجها في التأليف من كتبي المعتمدة في الكلية، أو من مصادر خارجية، ولو كانت من الشرطة الجنائية (مثل بحث البصمات)، أو أبحاث الدماغ مثل جون بفايفر عن الدماغ البشري.

لم يتبق أمامي للفحص النهائي سوى شهرين، فقلت في نفسي: شهر للكتاب وشهر للاستعداد للامتحان الأخير والنهائي، الذي سيقرر مستقبلي المهني.

وكان عجيبا حقا، لأنني مع التأليف تألق عقلي ونشط، فنجحت بعدها بأفضل علامة حققتها خلال كل رحلة الطب، أما الجراحة التي ستكون اختصاصي فأخذت فيها مائة من مائة، قال لي الدكتور الشامي من اللجنة الفاحصة: أعطيناك العلامة الكاملة لمناقشتك التحليلية المنطقية، أكثر منها دقة المحفوظات. فكان الكتاب بركة منذ أول لحظة.

وخلال ثلاثين يوما عكفت على هذا الكتاب الذي ألفته تأليفا غريبا كما يقول ابن خلدون، جمعت فيه بين الأدب والعلم والطب والفلسفة ممزوجة بروح القرآن والسبع المثاني.

وضعت ثلاث نسخ من ورق بلون سماوي بينها ورق الكربون؛ فلم يكن ثمة كمبيوتر وكي بورد وما شابه، ما زلت أتذكرها جيدا، وقبل أيام قال لي صديقي الدكتور معاذ الحفار: ما زلت أحتفظ بإحدى تلك النسخ الخالدات.

وتنزل وحي الكتابة على رأسي عجيبا؛ فكنت أكتب في كل يوم عشر صفحات تنزل مثل الوحي بدون بروفة وتغييرـ أكتبها دفعة واحدة على نحو عجيب، وكأن واحدا يمليها علي، حتى اكتمل الكتاب في 300 صفحة.

ثم عمدت إلى اختيار عشرين صورة ملونة وعادية تنير فكرة الكتاب.

أخيرا، ذهبت إلى الدكتور فايز المط، من أجل وضع مقدمة للكتاب، ففعل بعد تردد، ذلك أن الكتاب كان مشروع التقدم لنيل لقب دكتور في الطب، أو هكذا أوهمونا، لأننا عرفنا لاحقا أن هذا لا يمنح لقب الدكتوراه، بل بكالوريوس في الطب.

ثم ذهبت إلى جودت سعيد الذي أعتبره أستاذي في قضايا الفكر، وكانت أخته ليلى سعيد زوجتي معي في كل رحلة التأليف دعما وتصحيحا وتشجيعا، فكتب لي مقدمة فكرية.

ثم جاء دور طباعة الكتاب، وكنت أعرف دارا للنشر في بيروت، تحدثت مع العامل فيها فشجع وقال: هات الكتاب ننشره لك.

حملت الكتاب وذهبت إلى بيروت وهناك كانت الصدمة في انتظاري، قال لي الرجل بعد أن تصفح الكتاب: عفوا لا أستطيع نشر الكتاب.

حملت الكتاب ورجعت إلى صديقي العبسي الحموي المضياف، وهناك أخذت قيلولة قبل عودتي إلى دمشق، ونفسي منقبضة من فشل المشروع.

ما هي إلا ساعة حتى حط فوق رأسي رجل عملاق لا أعرفه، قال: أنت خالص جلبي، صاحب الكتاب؟ قلت: نعم. قال: أنا رضوان دعبول، سوف أنشر لك الكتاب، وأنا مدير دار النشر، ولقد سألت عنك أخي موفق دعبول فأثنى عليك خيرا. ثم توقف وأخذ نفسا وقال: أريد أن أقول لك شيئا: إن الكُتّاب العظام لم يكونوا منذ البداية كذلك قبل أن يعرفهم الناس، لقد بدؤوا وهم صغار الحجم، ثم كبروا، وأنا سوف أغامر لأنه أول كتاب لك وأطبعه، فإن لاقى رواجا كان أمرا حسنا، وإلا فسوف أتحمل طباعة الكتاب وما فيه.

وفعلا قام بمغامرته، ولكن الكتاب لاقى من الانتشار ما لم نتوقعه كلانا، فقد طبع وطبع، ثم طبع، ثم سرق أكثر من مرة. لقد اتصل بي أخ من ليبيا ونشر بعض فقراته في مجلته، وأنا في ألمانيا. واتصل بي يوما رئيس نقابة الأطباء المصريين وطلب طباعته طبعة شعبية، وفي يوم في الأردن قابلت رئيس الاستخبارات الأردنية، فرحب بي وقال: لقد وزعت كتابك على القساوسة والكهنة المسيحيين، وفي السعودية قبَّل الدكتور شميمري رأٍسي، حين عرف أنني صاحب كتاب المحراب. وعم الكتاب من العراق إلى المغرب، وتمنيت أن يلاقي الترجمة إذا لكان شيئا مختلفا، وما زلت أتمنى أن ينتقل الكتاب في ترجمة إلى بلاد الأتراك.

وحين زرت عمان عام 1976م رحبوا بي كثيرا وطلبوا مني محاضرة عن الكتاب، فأبيت وقلت: بل محاضرة في النقد الذاتي، وبدورها هذه المحاضرة فقد كانت ملهمة كتابي الثاني في النقد الذاتي وضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية، الذي لم يقابل بنفس حماس الأول، بل بمحاصرة ومعارضة ومراقبة، لأن محراب الإيمان يطبب على ظهور المسلمين، أما هذا فهو مزعج، أي كتاب النقد الذاتي. وهكذا فقد خدمتُ الفكر الإسلامي بثلاثة مؤلفات أو هكذا أزعم، «الطب محراب للإيمان» ـ «في النقد الذاتي» ـ «سيكولوجية العنف واستراتيجية العمل السلمي».

وأخيرا، ونحن بعد ولادة الكتاب قبل أكثر من نصف قرن (ولد عام 1971)، تضخم المشروع حتى أصبح موسوعة تزيد على خمسة آلاف صفحة، بدأت دار العبيكان بطباعة الجزء الأول منه، وهو مشروع حياتي آمل أن ينجح. وقد صدر الجزء الأول، ولكنه لم يكتمل إلا عندي في الكمبيوتر الشخصي.

وحاليا وبعد مرور كل هذا الوقت، حين أتذكر تلك الأيام الجميلة وأنا منكب على أول مشروع فكري لي، وأرى عدد كتبي التي صدرت قد تجاوزت الثلاثين، وما هو موجود لم يطبع يزيد على الثلاثين، أقول لقد كان كتابا مباركا وولدا صالحا يدعو لي.

بقي أن أذكر قصة غريبة في تاريخ الكتاب، وهي أنني عرضته قبل نشره على اثنين ممن يعملون في اللغة العربية، من أجل اكتشاف أخطاء نحوية، فأما الأول فأعاده أحمر، وكان كله تصحيحا. وقال: يحتاج الكتاب إلى إعادة الكتابة كلية.

وأما الثاني فضحك حتى وقع على ظهره، وقال: ماذا أصلح لك كله أخطاء؟ عرفت في نفسي أنه الحسد من زملاء فوجئوا بتأليفي كتابا من 300 صفحة في شهر، بقوة غير عادية لشاب في العشرين.. وأنا سامحتهم في قلبي، وقلت اركض يا خالص ولا تلتفت.

 

نافذة:

تنزل وحي الكتابة على رأسي عجيبا فكنت أكتب في كل يوم عشر صفحات تنزل مثل الوحي بدون بروفة وتغيير أكتبها دفعة واحدة على نحو عجيب وكأن واحدا يمليها علي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى