شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

ما هي الحداثة؟

يظن الكثير أنها كمبيوتر وطائرة وإنترنت وصاروخ وتقنية النانو، ومعرفة الكود الوراثي، وبناء اللبتونات في الذرة وتفتيت الزمن للفيمتو ثانية، والذكاء الصناعي.

ومن يتأمل العالم العربي يرى برجا في دبي أعلى من برج بابل وصفته مجلة «دير شبيغل» الألمانية بالجنون الأعظم، والجندي العربي يستخدم الدبابة والصاروخ، وإيران أنتجت السلاح النووي أو كادت، وقريبا سوف نسمع دوي الجبال من الانفجار العظيم بأقوى من 8 ريختر قريبا من قم وباميان وبحر قزوين وأصفهان. والطبيب يستخدم جراحة المناظير والنوتس والستنت، والقنوات الفضائية تنقل حوارات «الجزيرة» بمهاوشات الاتجاه المعاكس والمخالف والمشاكس. فهل دخلنا الحداثة، أم أن هناك شيئا أبعد من هذا؟ والجواب أن الحداثة أمر أعظم من الأشياء، والفلسفة هي تكوين العقل المتمرد على المسلمات، إنها وسط ومناخ من حرية الفكر لإنتاج العلم وأدواته. وحاليا نقلت أدوات الحداثة من أماكن غريبة بأسماء مشابهة، ولكنها في الغرب بنى حية وعندنا ديكور كما في مجالس القرود، عفوا مجالس الشعب والشورى السوري والخليجي وسواه، مع التوقف السياسي في مرحلة المماليك البرجية أيام سعيد جقمق وبرقوق، ولذا فنحن أمم مستهلكة غير منتجة، ولم تدخل بعد الماراثون الحضاري باحتساب الجهد والزمن، وحين لا يدخل الزمن في الحساب، لن نكون قد دخلنا الوسط الحضاري. وليس لنا مستقبل.. إنها أجراس إنذار لقوم صم بكم عمي فهم لا يفقهون…

والأمة في مركب مخيف من الاستعصاء لا تملك منه فكاكا وخروجا، بين مواطن أعمى، ومثقف مدجن، وصحافة مرتزقة، وفقيه غائب عن العصر، وسياسي كذاب ومسؤول أطرش. وإذا عقدت المؤتمرات فهي للمؤامرات، وإذا نصبت الاجتماعات فمن أجل أن لا يجتمعوا، وأما الحديث باسم الشعب فهو ضد الشعب، وإذا حصلت الانتخابات فهي مهزلة مفيدة للضحك بأرقام لا يخجلون من نشرها مثل نشر الفضائح، كما نرى في انتخابات دول عربية شتى أو الاقتتال في السودان بكل سواد، وكما هو متوقع من نمو كائنات الهيبريد من الجملوكيات في العالم العربي، كما يفعل علماء المخابر من دمج جينات الفئران مع البغال، لإنتاج كائنات جديدة كلها عوج غير قابلة لاستمرار الحياة.

نحن كائنات عجيبة، كرات هائلة تخرج منها أصابع وأيادي نانو، بعد تضخم الحاكم إلى كرة عملاقة، وكائن من هذا النوع ليس أمامه إلا أن يتدحرج فلا توقفه إلا عطالة الوزن.. هكذا جرت المقادير في العالم العربي الحزين.. وبذلك فالعالم العربي يتسمم على مدار الساعة بين الأفكار الميتة والقاتلة، فما هي الأفكار الميتة والقاتلة، وما الفرق بينهما؟

إننا في الواقع نعيش هذا الجدل المؤسف بين الأفكار الميتة والقاتلة، والفرق بينهما يذكرني كطبيب، في محاولة لنقل مفاهيم البيولوجيا إلى علم الاجتماع، كما فعل هربرت سبنسر. وأقرب شبه لها هي وحدة الدم التي تنقل للمريض حين الحاجة، ويجب توفر شرطين أساسيين فيها، أولا صلاحية الزمرة وتطابقها مع زمرة دم المريض (O, A,B.AB)، وثانيا زمن صلاحيتها، وأي خلل في هذين الشرطين يحول الدواء إلى سم والدم إلى علقم. كذلك عالم الأفكار؛ فإما تم نقل الأفكار الفعالة في موطنها بغير شروط نقلها، كما هو الحال في مجالس الشعب والمجالس النيابية ومجالس الشورى؛ فهي فعالة حيث أخذت في الدنمارك وكندا ونيوزيلندا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ولكنها عندنا مجالس قرود للطرب والتصفيق والموافقة العمياء، وتغيير الدستور بما يوافق عمر الحكام الصبيان؛ عفوا من التعبير.. إننا مضحكة ولكنها مبكاة، أليس كذلك؟ أما الأفكار الميتة فهي أدهى وأمر لأفكار انتهى زمن فعاليتها، كما في الأدوية المحرم استعمالها، بعد انتهاء زمن صلاحيتها. هي تلك الأفكار التي كانت يوما ما فعالة، وانتهت فترة صلاحيتها، ولكن ما هي؟ وأين توجد؟ ثم من الذي يتجرأ فيقول هذه أفكار ميتة بطلت صلاحيتها؟ وأن تفسير ابن كثير مثلا انتهت صلاحيته، وتاريخ ابن كثير لا يزيد على الاستئناس، وعارضة الأحوذي خسرت عارضتها، ولو بعث ابن كثير لأنكر كتابه، وبدأ في كتابة تفسير جديد وتاريخ جديد، فلا يمكن فتح جمجمة مريض اليوم، بأدوات من زمن الفراعنة، كما لا يمكن معالجة أمهات الدم بطرق الزهراوي، فهذه نسلم بها فلا يذهب مريض إلى طبيب عربي يعالجه بالفصادة والحجامة والعلق معلقا على الجلد. أما في الاتجاه الآخر، فنمشي مقلوبي الرؤوس، وهو يعني أنه كلما رجعنا في الزمن إلى الخلف كان الكتاب أفضل مثل الخمر المعتقة الفرنسية في القبو، هنا المعركة الكبرى.

وكما كان لكل قرية مقبرة لدفن الجثث بخشوع مع كل احترام، كذلك يجب أن نعد العدة لبناء جبانة لدفن هذه الأفكار الميتة، ولنا الويل إذا لمسنا هذه الجثث. فهذا هو وضع العالم العربي، والحداثة المزعومة، ممزقين عضين بين حداثة وحداثيين مارقين، وبين أصوليين يريدون تقليد لباس عمر بن الخطاب ولحية البحتري، مما يجعل عمر رضي الله عنه يضحك في قبره ويخرج عليهم بالدرة! ويهجوهم البحتري بقصيدة سينية جديدة، جاء في القصيدة:

حضرت رحلي الهموم فوجهت إلى أبيض المدائن عنسي

أتسلى عن الحظوظ وآسى من آل ساسان درس!

لقد فشلت التجربة القومية، وبارت الانقلابات البعثية العبثية، وماتت الشيوعية، وهلكت حركات العجل الناصري، وحصدت الحركات الإسلامية فشلا بقدر جبل قاف..

أين إذن المخرج؟

 

نافذة:

كما كان لكل قرية مقبرة لدفن الجثث بخشوع مع كل احترام كذلك يجب أن نعد العدة لبناء جبانة لدفن هذه الأفكار الميتة ولنا الويل إذا لمسنا هذه الجثث

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى