الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

محمد الشرقاوي.. من ذكريات الاستعمار السوداء إلى وزارتي الدفاع والخارجية 

وفاة صهر الملك الحسن الثاني وعلبة أسراره عن عمر يناهز 101 سنة

«محمد الشرقاوي، الذي توفي السبت، آخر أيام سنة 2022، استحق فعلا لقب علبة أسرار الملك الراحل الحسن الثاني وأقرب مقربيه، بل وأكثر من عاشوا إلى جانبه. إذ إن الصداقة بينهما تمتد لعقود خلت، وبالضبط إلى المرحلة التي جاء فيها ابن قاضي أبي الجعد إلى الرباط لكي يواصل دراسته في ثانوية مولاي يوسف، حيث حصل على شهادة البكالوريا في بداية أربعينيات القرن الماضي.

مقالات ذات صلة

عن عمر يناهز 101 عام رحل الشرقاوي عن الحياة، حاملا معه أسرارا من العمل الدبلوماسي والحكومي والسياسي أيضا. إذ إن الشرقاوي الذي يحمل إجازة في الحقوق من باريس، كان من أوائل المغاربة الذين أنهوا دراستهم العليا في فرنسا خلال أربعينيات القرن الماضي، وانخرط في العمل السياسي مع بداية الخمسينيات، حيث كان في قلب عملية التعريف بالقضية المغربية، بمباركة من الملك الراحل محمد الخامس.

شارك في محادثات «إيكس ليبان» باسم حزب الشورى والاستقلال، وقبل ذلك انخرط في المقاومة وقاد المظاهرات ضد فرنسا، وكاد أن يُقتل في أكثر من مناسبة بسبب تلك الأنشطة. وبعد الاستقلال تبوأ مناصب حكومية وشارك إلى جانب الملك الراحل الحسن الثاني في عدد من المحطات، قبل أن يغادر الحياة السياسية بعد حرب سنة 1967، احتجاجا على هيمنة الجنرال أوفقير، محتفظا في الوقت نفسه بدفء العلاقة مع الملك الحسن الثاني، ليكون بذلك أكثر من لازم الملك أطول مدة من الزمن..».

 

يونس جنوحي

 

+++++++++++++++++++++++++

 

زوج الأميرة لالة مليكة.. من «إيكس ليبان» إلى أطول مدة في صحبة الملك

في سنة 1955 كان محمد الشرقاوي في باريس، واتصل به وزير الخارجية الفرنسي، «أنطوان بيني»، الذي كانت تجمعه به علاقة صداقة متينة، وطلب منه أن يتصل بالملك الراحل محمد الخامس، عن طريق ولي العهد الذي ربطته به صداقة متينة جدا، ويقترح عليه المجيء إلى باريس لكي تسهل اللقاءات بين الملك الراحل وأعضاء الحكومة الفرنسية، للتفاوض حول تنظيم عودة العائلة الملكية إلى المغرب وتصحيح غلطة «المنفى».

اضطلع محمد الشرقاوي بمهمة إقناع ولي العهد بجدوى انتقال العائلة الملكية من «نيس»، التي نزلوا فيها بداية مباشرة بعد وصولهم من مدغشقر.

هذا التفصيل غُيب لتقزيم الدور الذي لعبه محمد الشرقاوي في عودة الأسرة الملكية من المنفى، والسبب أنه كان ينتمي إلى حزب الشورى والاستقلال الذي مورس عليه إقصاء كبير اعترف به الخصوم السياسيون وحتى غير المنتمين إلى أي حزب سياسي وقتها.

وهكذا فقد دفع الشرقاوي ثمن موقفه السياسي، المتمثل في انتمائه إلى تجربة الزعيم محمد بن الحسن الوزاني، والذي ربطته به صداقة متينة جدا وعاشا معا ذكريات مهمة في معركة الدفاع عن القضية الوطنية أمام المنتظم الدولي، منذ أربعينيات القرن الماضي.

الشرقاوي شارك أيضا في محادثات «إيكس ليبان» باسم حزب الشورى والاستقلال، وهي التجربة التي لم يسلط عليها الضوء. إذ في الوقت الذي كثرت فيه الروايات عن مشاركة تيار حزب الاستقلال بزعامة المهدي بن بركة، لم يتم التوثيق لمشاركة حزب الشورى والاستقلال، رغم أن الشرقاوي لعب دورا كبيرا في ربط الاتصال بين رموز الحركة الوطنية وولي العهد الذي ربطته به صداقة متينة من أيام الرباط وذكريات ثانوية مولاي يوسف، التي درس بها بداية الأربعينيات، قبل أن يتجه إلى باريس لدراسة الحقوق.

كان محمد الشرقاوي أحد مهندسي المظاهرات ضد الحماية الفرنسية في الدار البيضاء بداية الخمسينيات، وبعد الاستقلال اضطلع بمهام وطنية، خصوصا عندما كان وزيرا للخارجية منتصف الستينيات، وهي الفترة الشائكة التي كان فيها المغرب أمام تحديات كبرى من قبيل قضية اختفاء المهدي بن بركة وقضية الصراع العربي الإسرائيلي، حيث تولى مهمة نقل الرسائل بين الملك الراحل الحسن الثاني والملوك والزعماء العرب. إذ بالإضافة إلى أنه أحد قيدومي الحركة الوطنية ومراكمي الخبرة من زمن التفاوض لاستقلال المغرب عن فرنسا، فقد كان أيضا رجل ثقة الملك الراحل الحسن الثاني، سيما بعد زواجه بالأميرة لالة مليكة في غشت سنة 1961.

احتفظ محمد الشرقاوي بعلاقة متينة مع عدد من زعماء الحركة الوطنية على الرغم من الخلافات السياسية، إذ بعد مغادرته الحياة السياسية واعتزال المناصب، ظل الشرقاوي مقربا من الملك الراحل الحسن الثاني إلى أن توفي في يوليوز 1999.

 

الشرقاوي لم يسلم من زمن الرصاص وواجه أوفقير بسبب مقال لعلال الفاسي

رغم أن محمد الشرقاوي من أوائل المغاربة الذين درسوا القانون في فرنسا نهاية أربعينيات القرن الماضي، إلا أنه لم يمارس مهنة المحاماة، ووهب نفسه كليا للعمل السياسي في صفوف الحركة الوطنية، وبالضبط من بوابة حزب الشورى والاستقلال، الذي كان أحد مؤسسي مكتبه السياسي إلى جانب الزعيم الوطني محمد بن الحسن الوزاني.

ولم يسلم الشرقاوي من محاولات النيل منه، سواء قبل الاستقلال أو بعده.

إذ خلال الحماية، خططت منظمة اليد الحمراء الفرنسية المتطرفة القضاء على الشرقاوي، بسبب احتضانه للمقاومين وإشرافه على جنائز الشهداء على يد البوليس الفرنسي. تلك الجنائز التي كانت تتحول إلى مظاهرات منددة بالاستعمار.

وبعد الاستقلال، وبسبب انتمائه إلى حزب الشورى والاستقلال الذي تعرض مناضلوه للاختطاف والاغتيال بعد 1956، نتيجة الحسابات السياسية الضيقة وهيمنة حزب الاستقلال وقدماء المقاومة على المشهد السياسي، عانى محمد الشرقاوي من التضييق رغم أنه كان صهر الملك الراحل الحسن الثاني، وتقلد مناصب من بينها وزير الخارجية في منتصف الستينيات.

أقوى المضايقات التي تعرض لها محمد الشرقاوي، كانت في مواجهة الجنرال أوفقير. حمزة الأمين، واحد من قدماء أعضاء حزب الشورى والاستقلال ومناضليه في الدار البيضاء، يستعيد هذه الذكرى في حوار سابق مع «الأخبار».

يقول في الحوار الذي نُشر في شتنبر 2021 إن الشرقاوي كان آخر أعضاء حزب الشورى والاستقلال، الذين تقلدوا مناصب وزارية. إذ إنه ختم مساره كآخر وزير مدني لوزارة الدفاع، وفي نهاية الستينيات غادر الشرقاوي الحياة السياسية، بسبب صراع مع الجنرال أوفقير.

يحكي حمزة الأمين لـ«الأخبار»: « في سنة 1967، على إثر الحرب بين مصر وإسرائيل، المعروف أن الدول العربية قررت مساعدة مصر في ذلك السياق، وفعلا توجهت القوات المغربية إلى ليبيا لكي تدخل منها إلى مصر.

وما وقع أن إسرائيل قصفت المطار ولم يكن ممكنا للطائرات المصرية أن تُحلق، وبالتالي لم يكن ممكنا وصول الدعم العسكري، وبقيت التجريدة المغربية في ليبيا، حيث حدث تأخر بسبب ارتباك المصريين نتيجة للقصف الجوي المباغت الذي تعرض له المطار وشل الحركة الجوية.

ما وقع أن علال الفاسي احتج وكتب يتساءل عن سبب تأخر التجريدة المغربية في الوصول إلى مصر، لتقديم المعونة العسكرية. وقد أثار تساؤل علال الفاسي هذا أزمة حكومية كبيرة، في يونيو سنة 1967.

إذ إن الجنرال أوفقير طالب باعتقال علال الفاسي والمحجوب بن الصديق، في اجتماع حكومي. وتصدى له سي محمد الشرقاوي داخل الاجتماع الحكومي، وقال له ما معناه إنه لا يقبل أبدا أن يتم اعتقال شخصية وطنية. وبقي كل واحد منهما، أي الجنرال أوفقير من جهة، والوزير محمد الشرقاوي من جهة أخرى، متمسكا بموقفه، وهو ما خلق أزمة كبيرة داخل الحكومة.

وطبعا انتهت هذه الأزمة بانسحاب سي محمد الشرقاوي من الحكومة، احتجاجا على رأي أوفقير.

إذ إن سي الشرقاوي لم يتقبل أن ترفع أصوات تطالب باعتقال الشخصيات الوطنية.

وطبعا بقي سي محمد الشرقاوي مقربا من الملك الحسن الثاني وإحدى الشخصيات الوطنية الكبيرة التي اشتغلت إلى جانبه.

وقد كان موقف سي الشرقاوي يبعث على إحاطته بمزيد من التقدير عندما بلغ الموضوع إلى علم الوطنيين، إذ إن مواجهة الجنرال أوفقير في قمة قوته لم تكن سهلة أبدا.

وطبعا لا أحتاج أن أقول إنه رغم الخلافات السياسية بين حزبي «الشورى» و«الاستقلال»، إلا أن موقف سي الشرقاوي انتصر للوطنية أولا. وطبعا طوي الموضوع ولم يُعتقل علال الفاسي على خلفية مساءلته للحكومة المغربية، عن سبب تأخر التجريدة المغربية في الوصول إلى مصر خلال نكبة 1967».

 

 

قصة ابن القاضي الذي صار محاميا وصديقا لولي العهد

هو ابن قاض شهير في منطقة أبي الجعد. كان منزل الأسرة قبل عشرينيات القرن الماضي قِبلة للقبائل حتى تبتّ في المنازعات، فوالد محمد الشرقاوي كان قاضيا لكنه في الوقت نفسه من الشرفاء، إذ إن نسبه ينحدر من الأشراف أحفاد الخليفة عمر بن الخطاب.

وكأغلب أبناء «شرقاوة»، فقد كان محمد الشرقاوي منذ طفولته مُوجها إلى حفظ القرآن الكريم والدراسة في المسجد، لكن والده كان يرى أن ابنه لا بد أن يلج المدارس العصرية، فقد كان يريد له أن يصير ذا شأن، خصوصا أن التحاق الأبناء بالمدارس الفرنسية كان أمرا غير شائع أبدا، في بداية عشرينيات القرن الماضي.

عندما حلت نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، كان سي محمد الشرقاوي يتجهز لكي يواصل تعليمه بطريقة تخول له إتمام التعليم العصري، وهكذا فقد التحق بثانوية مولاي يوسف في الرباط، ليغادر منطقة «أبي الجعد» ويبدأ مسارا آخر من حياته.

الالتحاق بثانوية مولاي يوسف وقتها كان حدثا استثنائيا، إذ كان الطريق الأكثر ضمانا للحصول على شهادة البكالوريا.

كان محمد الشرقاوي من جيل الشباب الذين عاصروا المولى يوسف، وفتح عينيه في مغرب الحماية الفرنسية، وعاصر وفاة السلطان ومجيء السلطان الشاب محمد بن يوسف سنة 1927. ورغم أن الشرقاوي كان طفلا حينها، إلا أن من عرفوه عن قرب يؤكدون أن هذا الحدث ساهم إلى حد كبير في تشكيل وعيه الوطني المبكر، وشحنه بالحماس لمتابعة التطورات السياسية في المغرب. وهو ما ظهر جليا عندما التحق الشرقاوي بثانوية مولاي يوسف.

صحيح أنه كان ينتمي إلى الجيل الذي سبق ولي العهد الأمير مولاي الحسن إلى الدراسة، لكن صداقة متينة نشأت بينهما في الرباط، عندما التقيا عن طريق أصدقاء مشتركين لأول مرة في الرباط. إذ كان ولي العهد في بداية أربعينيات القرن الماضي حديث العهد بالمدرسة المولوية، بينما كان سي محمد الشرقاوي أحد أشهر طلبة ثانوية مولاي يوسف.

كان الوعي الوطني لمحمد الشرقاوي يزداد مع توالي سنوات الدراسة في مولاي يوسف، إذ إن انضمامه إلى صفوف الحركة الوطنية كان قبل حصوله على شهادة البكالوريا.

وهناك معلومات تؤكد أن الشرقاوي كان يتابع وهو طفل مجريات الاجتماعات الحماسية التي كانت تعقد في دار والده القاضي، بحضور عدد من علماء أبي الجعد ووجهائها، وترجم حماسه إلى إعلان مواقفه في ثانوية مولاي يوسف عن الحماية وسياسة فرنسا في المغرب، وهو ما تسبب له في مشاكل جمة.

مباشرة بعد حصول محمد الشرقاوي على شهادة البكالوريا، اتجه إلى باريس لدراسة الحقوق. وهو ما ترجم اقتداءه بوالده القاضي، لكن بطريقة عصرية. وكما كان متوقعا، فقد عاد الشرقاوي مباشرة بعد حصوله على شهادة الإجازة من باريس إلى المغرب، لكي يبدأ أولى خطواته في العمل السياسي.

إذ كان مناخ باريس مواتيا لكي يتشبع محمد الشرقاوي بأفكار القومية ويتحمس لفكرة القضية الوطنية وضرورة الدفاع عنها دوليا، وهكذا نشأت صداقة متينة بينه وبين محمد بن الحسن الوزاني، مؤسس حزب الشورى والاستقلال، ويلتحق عضوا بالمكتب السياسي للحزب، ويبدأ معركة «تدويل» القضية الوطنية، وهي المبادرة التي كانت تحظى بمباركة السلطان محمد بن يوسف منذ بدايتها مطلع الخمسينيات.

لماذا لم يمارس محمد الشرقاوي مهنة المحاماة؟ بعض المصادر التي تحدثنا إليها تؤكد أن الشرقاوي لم يكن في حاجة إلى المال لكي يبحث عن عمل يؤسس به حياته في الرباط، فقد كانت ثروة العائلة توفر له الاستقرار لكي يتفرغ للقضية الوطنية، ويبدأ «ماراثون» الاتصالات السياسية والانشغال بهموم المكتب السياسي لحزب الشورى والاستقلال منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي، كواحد من مؤسسي الحزب الأوائل، ويراكم ذكريات كثيرة جعلته يحظى بصداقة استثنائية مع الأمير مولاي الحسن، تكللت تلك الصداقة بأن يتزوج الأميرة لالة مليكة سنة 1961. ويراكم تجربة كبيرة باعتباره رجل دولة مر من الوزارات والمناصب السيادية، ورحل الآن حاملا معه أسرارا كثيرة، جعلته يستحق عن جدارة لقب «علبة الأسرار» الخاصة بالملك الراحل الحسن الثاني.

 

وفاة القاضي الشرقاوي تقطع مهمة الابن في «تدويل» القضية المغربية

لا بد أن وفاة والد محمد الشرقاوي سنة 1952، تركت أثرا عميقا في نفسه. إذ إن العلاقة بين الأب والابن كانت متينة للغاية، رغم انشغال محمد الشرقاوي بالعمل السياسي إلى جانب الزعيم الوطني محمد بن الحسن الوزاني.

بدأت الحكاية هكذا، توجه محمد بن الحسن الوزاني سنة 1952 دائما إلى القصر الملكي في الرباط. كان لديه موعد مع الملك الراحل محمد الخامس، وعرض عليه فكرة السفر إلى القاهرة للقاء وزير خارجيتها الذي كان صديقا للوزاني، حيث جمعتهما الدراسة الجامعية في تخصص العلوم السياسية في ثلاثينيات القرن الماضي.

أراد الوزاني أن يستثمر صداقته مع وزير الخارجية المصري الجديد، ويطلب منه أن يثير في كلمته في جمعية الأمم المتحدة القضية المغربية ويساند المغرب ويطالب باستقلاله عن فرنسا، وإلغاء معاهدة الحماية.

بارك الملك الراحل الفكرة، وأوصى الوفد المغربي في تلك المهمة «السرية»، باتخاذ الحيطة والحذر. كان الوفد مكونا من محمد بن الحسن الوزاني، ومحمد الشرقاوي، وأحمد بنسودة (أصبح لاحقا مستشارا للملك الحسن الثاني). وثلاثتهم كانوا من مؤسسي حزب الشورى والاستقلال وأعضاء مكتبه السياسي.

سافر الثلاثة إلى القاهرة، ولم تكن المهمة سهلة أبدا، حيث إن وزير الخارجية المصري وقتها استقبل صديق الدراسة الجامعية، بن الحسن الوزاني، بحفاوة كبيرة، ووعده أن يبذل ما في وسعه لمساعدته في ما يسعى إليه. لكن الملك فاروق الذي كان يحكم مصر، لم يوافق على فكرة إثارة وزير خارجيته للقضية المغربية، أثناء إلقاء كلمته باسم مصر في جمعية الأمم المتحدة بباريس. وحاول الثلاثة البحث عن مخرج من الأزمة، قبل أن يؤكد لهم وزير الخارجية المصري أنه لن يتخلى عن صديقه، وأنه سوف يثير موضوع إلغاء معاهدة الحماية الفرنسية للمغرب، رغم معارضة الملك فاروق للفكرة.

وفي خضم تلك الأحداث الساخنة، والحماس يتملك المغاربة الثلاثة لإنجاح المبادرة التي لا شك وأنها سببت قلقا كبيرا للحماية الفرنسية وأحرجتها أمام أعضاء الأمم المتحدة سنة 1952، ورد اتصال من المغرب لمحمد الشرقاوي يخبره أن والده، قاضي أبي الجعد قد توفي.

لم يملك الشرقاوي بدا من أن يغادر القاهرة، في أول رحلة لكي يتجه إلى المغرب لحضور جنازة والده، ويترك محمد بن الحسن الوزاني وبنسودة معا في القاهرة، لكي يواصلا الرحلة بدونه إلى باريس لمواكبة تطورات إثارة القضية المغربية أمام المجتمع الدولي.

وكانت تلك الواقعة منعطفا كبيرا في القضية المغربية، وسببت غليانا كبيرا في صفوف قادة الحركة الوطنية. إذ إن مبادرة المطالبة رسميا بإلغاء معاهدة الحماية، لم تكن سوى بداية العمل السياسي لمواجهة الاستعمار.

 

 

سري للغاية: خطة اغتيال محمد الشرقاوي في الدار البيضاء

كانت أنشطة محمد الشرقاوي مع بداية خمسينيات القرن الماضي تشكل مصدر قلق كبير للإدارة الفرنسية، في الرباط والدار البيضاء على وجه الخصوص.

وعندما كان محمد الشرقاوي يمارس أنشطته الوطنية في تأطير الشباب وتنظيم جنائز شهداء السجون الفرنسية، حيث كانت الجنائز تتحول إلى مظاهرات منددة بجرائم الاستعمار، خططت جماعة «اليد الحمراء» المتطرفة، والتي كان يقودها الفرنسي الشهير «أفيفال»، لاغتيال محمد الشرقاوي.

ورغم أن المخطط كان سريا، لكن المكلف بتنفيذ المحاولة تحدث عنها بعد الاستقلال، خصوصا أنه صار موظفا في صفوف الإدارة العامة للأمن الوطني.

يتعلق الأمر بموظف كان اسمه «حم حم»، وهذا هو اللقب الذي كان شهيرا به في الدار البيضاء. هذا الموظف كان يعمل سائقا خاصا لـ«فيفال»، وكلفه الأخير باغتيال سي محمد الشرقاوي، لوضع حد لأنشطته الوطنية وقيادة المظاهرات المنددة بالحماية الفرنسية.

لم يتحدث السائق «حم حم» أبدا عن قضية محاولاته الفاشلة لاغتيال محمد الشرقاوي، إلا بعد الاستقلال. إذ إنه ألحق بالإدارة العامة للأمن الوطني لكي يصبح شرطيا مع قدماء المقاومة الذين أدمجوا في إدارة الأمن، وكان يتحدث لبعضهم عن مغامراته قبل الاستقلال.

وكان يردد أنه فعلا حاول اغتيال محمد الشرقاوي، بأمر مباشر من «أفيفال»، رئيس منظمة اليد الحمراء، في الدار البيضاء في ثلاث مناسبات، لكنه فشل في إصابته.

كان هذا الشرطي يعمل في «كوميسارية» المعاريف، التي كان يعمل بها مغاربة خلال فترة الحماية، يتولون مهمة الترجمة للبوليس الفرنسي عند التحقيق مع الوطنيين، وكانوا بالإضافة إلى هذا كله يتولون أيضا مهمة تنفيذ الأعمال القذرة لصالح البوليس الفرنسي، ومنها اغتيال بعض الوطنيين.

ورغم اعتراف سائق زعيم منظمة اليد الحمراء، التي نفذت عمليات اغتيال كثيرة سقط ضحيتها مغاربة، إلا أن قصته بقيت تتردد «همسا»، في جلسات قدماء البوليس الذين التحقوا بإدارة الأمن بعد الاستقلال.

أما سبب المخطط، فراجع إلى الأنشطة التي كان يمارسها محمد الشرقاوي، إذ بالإضافة إلى إشرافه على جنازات الشهداء، وتنظيمها لكي تتحول إلى مظاهرات مباشرة بعد الخروج من مقبرة الدار البيضاء، فقد كان منزله قِبلة للهاربين من البوليس الفرنسي، حيث كان الشرقاوي بفضل علاقاته مع وزراء فرنسيين وشخصيات فرنسية مرموقة تتعاطف مع القضية المغربية، يجري اتصالات لحل مشاكل بعض المبحوث عنهم، وحل ملفات المغاربة المظلومين الذين انتزع منهم المعمرون ملكيات أراضيهم. وهكذا فقد كان منزل الشرقاوي أشبه ما يكون بـ«ديوان مظالم»، لم يكن يخلو أبدا من الضيوف وأصحاب الحقوق الراغبين في وساطة الشرقاوي لحل مشاكلهم مع «فرنسا».

 

 

عندما اتصل الحسن الثاني بالشرقاوي لإلغاء اجتماع مع بوتفليقة في طنجة سنة 1966

في سنة 1966، كان محمد الشرقاوي وزيرا للخارجية المغربية، وكلفه الملك الراحل الحسن الثاني بمهمة غاية في الأهمية. إذ إن العلاقات المغربية الجزائرية كانت متوترة للغاية، بعد انقلاب هواري بومدين على الرئيس أحمد بن بلة.

وكانت هناك مساع لحل مشكل الحدود الشرقية بين البلدين، سيما بعد حرب الرمال التي دارت أحداثها سنة 1963، والتي لم تكن سوى تطور طبيعي لاستفزازات الجزائر للمغرب على مستوى الخط الحدودي في الصحراء الشرقية.

وهكذا تقرر أن يجلس محمد الشرقاوي، وزير الخارجية المغربي، مع عبد العزيز بوتفليقة، الذي كان يشغل هو الآخر منصب وزير خارجية الجزائر، وهو المنصب الذي وضعه فيه والده الروحي، هواري بومدين، رغم أنه وقتها كان في بداية عقده الثالث.

وقع الاختيار على مدينة طنجة لكي تحتضن الاجتماعات بين وزيري الخارجية. ولنترك المجال لهنا لحامل سر سفارة المغرب في روما والدبلوماسي السابق، امحمد الأبيض، الذي اشتغل تحت إمرة محمد الشرقاوي في وزارة الخارجية، عندما قدم شهادته في حوار مطول نشرته «الأخبار» على حلقات، في أكتوبر 2020. ومما جاء في قضية المحادثات بين الشرقاوي وبوتفليقة:

«هذه الزيارة جاءت في سياق بحث الملك الراحل الحسن الثاني عن حل للمشكل مع الجزائريين، عن طريق طاولة الحوار أولا. وقد كلف صهره وزير الخارجية المغربي السابق السيد محمد الشرقاوي بترؤس هذه المفاوضات.

أنا في تلك السنة كنت قد عدت من لبنان وأدخلت إلى قسم التشريفات في وزارة الخارجية، وعملتُ مع سي الشرقاوي في استقبال الوفود الأجنبية بالمغرب، وأيضا بمصلحة إعفاء السيارات الدبلوماسية التي تستعملها السفارات الأجنبية في المغرب من الرسوم الجمركية.

كانت مهمتي تأمين الفندق الذي سوف ينزل فيه الوفد الجزائري ومراقبة الأجواء، والحرص على كتابة تقارير يومية مفصلة عن كل تحركاتهم ولقاءاتهم. كانت المهمة تجمع بين ما هو تقني وما هو أمني أيضا.

كان سي الشرقاوي حريصا على راحة الضيوف، وكان أمن مدينة طنجة يتعاون معنا بشكل مكثف، حيث يؤمن الفندق والسيارة التي تقل عبد العزيز بوتفليقة من وإلى مكان الاجتماع.

ما وقع أنني ومباشرة بعد انتهاء اللقاء في إحدى الأمسيات وعودة الوفد الجزائري إلى الفندق، كانت مهمتي لا تنتهي فقط بانتهاء الاجتماعات، بل تبدأ ليلا، لأنه يتعين علي مراقبة الفندق ومعرفة مع من تحدث بوتفليقة، والتأكد من ملازمته لغرفته إلى الصباح. لم يكن هناك أي مجال للخطأ».

ما وقع أن امحمد الأبيض كتب ليلا تقريرا ناريا يكشف مساعي بوتفليقة إلى ربط الاتصال بواحدة من كاتبات وزير الخارجية المغربي محمد الشرقاوي، وتأكد الأمر فعلا بعد مغادرة بوتفليقة الفندق ليلا، حيث حاول الوصول إلى السكرتيرة، وهو ما لم يتقبله الشرقاوي بعد اطلاعه على تقرير امحمد الأبيض. يواصل الأبيض الحكاية متحدثا عن موقف الملك الراحل الحسن الثاني، بعد أن أخبره الشرقاوي هاتفيا بما وقع:

«غضب رحمه الله كثيرا وأمر بوقف كل المباحثات مع الجانب الجزائري، لكنه لم يطرد بوتفليقة بشكل مباشر.

أخبرني الوزير محمد الشرقاوي بعد انتهاء اتصاله الهاتفي مع الملك الحسن الثاني أنه يتعين علينا تنظيم الغداء للوزير بوتفليقة ومرافقيه، وإخبارهم أن الاجتماعات المقبلة قد ألغيت وأنه يتعين عليهم المغادرة ظهرا. وهذا ما كان.

بطبيعة الحال فقد أدرك بوتفليقة ومعاونوه أننا عرفنا بأمر اللقاء السري، الذي عقده مع السكرتيرة في الفندق».

يقول امحمد الأبيض إن محمد الشرقاوي كان مقربا جدا من الملك الراحل الحسن الثاني، ليس فقط بحكم علاقة المصاهرة وأنه زوج الأميرة لالة مليكة، ولكن لأن صداقة متينة جمعتهما، قبل استقلال المغرب وخلال تجربة منفى العائلة الملكية، وهو ما جعل محمد الشرقاوي، في تجربة وزارة الخارجية، يصير وزير خارجية فوق العادة، وفي عهده، يواصل الأبيض، كانت الخارجية المغربية في القمة.

أسدل الستار على التجارب الدبلوماسية والسياسية لمحمد الشرقاوي في ستينيات القرن الماضي، ليتوارى عن الأضواء، ويحتفظ بصداقته مع الملك الحسن الثاني بعيدا عن ضوضاء المعارضين السياسيين وتغلغل الجنرال أوفقير في السلطة.

وتبقى تجربة الشرقاوي تجربة سياسية فريدة للغاية، خصوصا وأنه لم يستقل من المكتب السياسي لحزب الشورى والاستقلال، رغم أن الحزب تعطل سياسيا وتعرض مناضلوه للإقصاء منذ سنة 1956، ولم يحظ بأي فرصة لتدبير الشأن العام. لكن الشرقاوي ظل ينأى بنفسه عن الصراعات، ترك السياسة «بما حملت» في وقت مبكر، لينعم بحياة الظل التي التزم بها لأزيد من نصف قرن، قبل أن يغادر الحياة الأسبوع الماضي، عن عمر ناهز 101 سنة.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى