شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

مغاربة كرّسوا حياتهم للحج قبل أربعة قرون

قصص بعثات العلماء والمخزنيين لتسهيل رحلات الحجاج 

يونس جنوحي

«حجاج مغاربة غير عاديين، خاضوا تجربة الحج في زمن لم تكن فيه رفاهية السفر متاحة نهائيا، ولم تكن المشقة تفرق بين السلطان والوزير والمسافر العادي.

وهكذا فقد «تطوع» وزراء وعلماء وموظفون مخزنيون لكي يوثقوا لتجارب الحج ويعدوا ما يمكن اليوم أن يسمى دليلا للسفر، يستعين به من يقرأه في ذلك الوقت في رحلته. وعندما وصلت أغلب هذه المخطوطات اليوم إلى أيادي المؤرخين، أضاءت مساحة واسعة عن صورة الحج، قبل أزيد من أربعة قرون..».

 

++++++++++++++++++++++++++++

 

سيرة أشهر من كتبوا عن رحلات الحج سيرا على الأقدام

هناك ما يشبه إجماعا لدى الباحثين المغاربة، يُتوج لرحلة «أبو سالم العياشي» التي جرت وقائعها ما بين سنتي 1661 و1662، واحدة من أقوى وأشهر رحلات الحج المغربية وأغناها. إذ إن أبا سالم العياشي، كتب يوميات رحلته إلى الحج، سالكا الطريق الساحلي، على عكس أغلب الرحلات وقتها، وتحدث بإسهاب عن القبائل والمدن التي مر بها، وطبائع أهلها، ووثق للأحداث التي صادفها أثناء رحلته.

قد يكون جزء من شهرة الرحالة العياشي راجعا إلى أنه عاش في أيام السلطان الشهير المولى إسماعيل.

إلا أن الحظوة التي نالها هذا الرجل، أنه كتب عن تجربة الحج مرتين، في سنوات متفرقة. وخصص الأولى للحديث عن جانب الاستفادة من تجربة الحج علميا، وجعلها فرصة للقاء العلماء والحصول على الإجازات العلمية وجمع المخطوطات، بل وخصص حيزا مهما منها لجرد أسماء علماء الحجاز الذين التقاهم وما دار بينه وبينهم، وسجل بعض محاضراتهم التي ألقوها أمام الطلبة من الحجاج الذين حلوا ضيوفا على الحجاز.

بينما جعل الرحلة الثانية مخصصة لتجربة السفر، بنية جعلها مُرشدا للمقبلين على الحج. وقد جاء في بداية نص المخطوط الذي يوثق لرحلة العياشي، ما يلي:

«الحمد لله الذي هو أول الذكر

وآخر دعوى أهل الجنة، وأكد على افتتاح الأمر

ذي البال به صحيح السنة، فيقول العبد الفقير،

الذليل الحقير…أبو سالم عبد الله بن محمد بن

أبي بكر العياشي المغربي المالكي، جعل الله

جميع تصرفه في ما يرضاه ابتغاء مرضاته… كثير

الاشتياق والحنين، إلى تكحيل إنسان العينين

بمشاهدة مشاهد الحرمين.. فيطير الروح بأجنحة

الشوق إلى ذلك المكان ويود… فكانت تلك

الرحلة وهي أعظم نحلة، تقبل الله فيها صالح

أعمالنا… ولم يكن فيها كبير أمر يعتني بكتابة

الرحلة لأجله، ويكاد عمله يستوي بجهله، إلا

ما يشترك في معرفته عام الحاج وخاصهم من

أوصاف المسالك، وتعداد المراحل وأسماء

البلدان وما يضاهي ذلك، مما لا تطمح إليه العيون

أولي الفضل، وترتاح لذكر همم أهل النبل، من

لقاء المشايخ الفضلاء، ومحاضرة الأدباء النبلاء،

ومباحثة الأذكياء، وزيارة الأنقياء، إلا أشياء إن

انفردت بالذكر قلت، وإن أدرجت مع غيرها

ضلت..».

رحلات الحج في أيام السلطان المولى إسماعيل، الذي حكم المغرب ما بين سنتي 1672 و1727، كانت تحظى بأهمية كبرى، إلى درجة أن مؤرخين مغاربة صنفوه على أنه أكثر سلاطين المغرب اهتماما برحلات الحج، حيث إنه مول رحلات العلماء المغاربة، وكان حريصا على أن يتركوا إشعاعا كبيرا عند وصولهم إلى الحجاز.

تجمع جل الرحلات التي انطلقت إلى الحج في عهده بين الطرافة والتوثيق العلمي، والمأساة أيضا. إذ إن بعض الحجاج في عهد المولى إسماعيل، أيام كانت العلاقات المغربية الإسبانية متوترة، سقطوا أسرى بين أيدي الإسبان والبرتغاليين والفرنسيين أيضا.

إذ إن بساطة الملاحة بالسفن المغربية التقليدية التي كانت تسير بأشرعة ريحية، جعلت التيار يجرفها في قلب البحر المتوسط، وبدل أن تواصل رحلتها صوب مصر، جُرفت بقوة التيار شمالا، لكي يتلقفها الفرنسيون مثل ما وقع مع رحلة حجاج من مدينة سلا، في أيام المولى إسماعيل دائما، حيث سقطوا أسرى لدى الفرنسيين، ولم يطلق سراحهم إلا بعد أن أبرم السلطان اتفاقية مع لويس الرابع عشر تقضي بمبادلتهم بأسرى فرنسيين لدى المغرب.

 

أبو شعيب الدكالي.. إمام الحرم المكي «المنسي»

هذا العالم المغربي لم يبصم على رحلة حج مغربية فحسب، بل دخل التاريخ من أوسع أبوابه، لأن رحلته إلى الحج لم تكن مباشرة، وإنما كانت ثمرة نبوغه العلمي. ففي سنة 1896، اختير بعد تفوقه على أنجب طلاب القرويين وهو القادم من دكالة، لكي يذهب في بعثة إلى جامع الأزهر في القاهرة، وهناك لم يمكث طويلا بعد أن تفوق على الأزهريين جميعا وحاز الرتبة الأولى في مباراة لاختيار إمام الحرم المكي. وهكذا بدأت رحلة هذا العالم المغربي من القاهرة التي وصل إليها من فاس، إلى مكة لكي يمكث فيها 11 سنة كاملة قضاها بصفته إماما وخطيبا في الحرم المكي، متفوقا على كبار علماء ذلك الوقت. ومكث هناك إلى سنة 1907، التي عاد فيها إلى المغرب لكي يصبح قاضيا ووزيرا للعدل.

بقي أبو شعيب الدكالي أحد كبار العلماء المغاربة، والوحيد الذي ترك اجتهاداته العلمية لدى المشارقة، الذين سجلوا خطبه في وثائق ما زالت نصوصها موجودة إلى اليوم.

مقام أبي شعيب الدكالي لإحدى عشرة سنة في الحرم المكي، جعله يلتقي في مرات كثيرة مع وفود الحجاج المغاربة وقتها، وبينهم وزراء وأبناء سلاطين الدولة العلوية، حيث حرصوا على لقائه، وكان وجوده وقتها إماما للحرم، مفخرة للوفود المغربية التي كانت ترحل لأداء مناسك الحج والعمرة.

ومن آثار الشيخ أبي شعيب الدكالي في الأراضي المقدسة، ملف إرث أحفاده الذي لا يزال مفتوحا إلى اليوم. إذ إن هذا العالم صاهر إحدى أرقى العائلات في الديار المقدسة، ويتعلق الأمر بعائلة البو العريقة، حيث تزوج ابنة محمد إسماعيل البو، واسمها جميلة، واصطحبها معه إلى المغرب ولم تعد أبدا لزيارة عائلتها، وأنجبت منه أبناءه، وبقيت مقيمة في المغرب حتى بعد وفاته سنة 1937، ولم يحدث أبدا أن زارت أسرتها في الديار المقدسة، أو عادت إليهم. وهو ما يطرح مسألة إرث العالم أبي شعيب الدكالي في الأراضي المقدسة، الذي نتج عن تجربة الإقامة هناك لإحدى عشرة سنة، نسج خلالها علاقات وطيدة مع كبار علماء وشخصيات الحجاز.

المكانة العلمية التي كان يحظى بها أبو شعيب الدكالي تجلت قيد حياته، في زيارة الملك الراحل محمد الخامس إليه وهو على فراش المرض، وسنه وقتها لم تكن تتجاوز الستين، رغم أنه لم يشتغل وزيرا في عهد المولى محمد بن يوسف، فقد تقاعد من كل الوظائف المخزنية التي أسندت إليه في القضاء والوزارة سنة 1925، بسبب مرضه، وكان وقتها السلطان مولاي يوسف قد قبل عذره وسمح له بالتقاعد.

تجربة أبي شعيب الدكالي في الأراضي المقدسة، تبقى أقوى تجربة مغربية في أرض الحج، رغم أنها ما زالت إلى اليوم تحتاج إلى المزيد من تسليط الضوء على جوانبها المظلمة.

 

رحلات رجال الدولة الاستثنائيين..

الغرابة هنا لا تكمن في أن هؤلاء الحجاج سجلوا مذكراتهم، وبعضها سُجلت قبل أزيد من أربعة قرون، أولا بأول منذ خروجهم من المغرب بنية أداء فريضة الحج إلى أن عادوا إليه. لكن الغرابة تكمن في ما عاشوه من مغامرات و«أهوال»، وأيضا في المصير النهائي لمخطوطاتهم، والتي لم يُكتب لبعضها أن تُنشر في حياة أصحابها، ولولا أن بعض الأحفاد والأبناء حافظوا عليها لسنوات طويلة، قبل أن تجد طريقها إلى «التحقيق»، لكي تُلحق بالخزانة الملكية أو الخزانة العامة.

رحلة الحسن اليوسي إلى الحج، العالم الشهير الذي عاصر المولى إسماعيل وأثار إعجاب المؤرخين بفصاحته والمكانة الكبيرة التي أولاها له أحد أقوى وأكبر السلاطين الذين حكموا المغرب عبر التاريخ، تستحق أن تُروى.

خرج هذا العالم المغربي الكبير إلى الحج سنة 1689، أي خلال حياة السلطان المولى إسماعيل، وقد عكف على تسجيل هذه الرحلة بنفسه وتركها في مخطوط ورثه ابنه من بعده، وعمل على صيانته ونسخه، إلى أن وصل المخطوط في الأخير إلى المكتبة العامة بالرباط، وهو الآن متوفر تحت رقم تسلسلي يحمل اسم العالم الحسن اليوسي، لتسهيل اطلاع الباحثين على نص رحلته من المغرب إلى الحج، وعودته منه.

لم يكن وصول الحسن اليوسي إلى الحج ليمر مرور الكرام، فقد كان الحج مناسبة لكي يطلع على مكتبات بعض العلماء في القاهرة، ثم في مكة، ويعود محملا بمشاريع علمية، كعادته، ويتولى نُساخه مهمة نسخ عدد من المخطوطات التي أحضرها معه.

وقد ذكر المؤرخون المغاربة، على رأسهم المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان، أن الحسن اليوسي كان يحظى بدعم كبير من المولى إسماعيل لإغناء المكتبة المغربية بنسخ خاصة بها من الشرق، حيث كان موسم الحج مناسبة لإحضار النادر منها ونسخه على نفقة السلطان وإعادته، وأيضا لنشر المؤلفات المغربية. حتى أن العلماء المغاربة عندما يخرجون في رحلات الحج في ذلك الوقت، كانوا ينسخون مؤلفاتهم، ويتولون مهمة نقل نُسخ مؤلفات غيرهم من العلماء المغاربة لتسليمها إلى علماء المشرق والشخصيات التي كانوا يلتقونها في رحلات الحج.

من الرحلات النادرة أيضا، نجد رحلة الوزير الغساني، والذي خرج إلى الحج سنة 1707، وهذا المؤلف كان مشهورا بلغته البليغة في الكتابة، وهو الذي ألف أحد أشهر المؤلفات في تاريخ المغرب، وعنوانه «رحلة الوزير في افتكاك الأسير».

وكما يوحي عنوان مؤلفه، فإن هذا الوزير اضطلع بمهمة السفر للتفاوض باسم المغرب، وإطلاق سراح الأسرى المغاربة في بعض الدول الأوروبية. وقد انطلق في هذه المهمة سنة 1690 – أي قبل رحلته إلى الحج بسنوات- من مدينة مراكش، ومنها إلى سبتة، لينطلق بحرا إلى جبل طارق، ليصل إلى مدريد وقضى بها ستة أشهر للتفاوض وإبرام اتفاق مع ملك إسبانيا لتبادل الأسرى بين البلدين، واتجه صوب مدن أخرى، في رحلة استغرقت ثمانية أشهر.

وقد اشتهر الوزير الغساني بأسلوبه الذي يكشف عن فكره المحافظ وعدم إعجابه بالحياة الأوروبية، وكان دائما يصف الجنسيات الأوروبية بـ«الكفار»، لكنه في رحلة الحج، التي لم يُكتب لها أن تشتهر كما اشتهر كتاب رحلته إلى أوروبا، غير أسلوبه في الكتابة لكي يسجل وقائع رحلة سيطر عليها الجانب الروحي أكثر من السياسي.

 

تعود إلى سنة 1722.. رحلة زوجة المولى إسماعيل إلى الحج

يبقى محمد الفاسي، الوزير المغربي الأسبق للتعليم في أول حكومة بعد الاستقلال، وأحد أبرز من جلسوا على كرسي رئاسة جامعة محمد الخامس، أول من تطرق إلى مخطوطات نادرة، وحظي بفرصة تحقيقها. حتى أنه كتب بنفسه في أحد بحوثه المعمقة، بعنوان «الرحالة المغاربة وآثارهم»، وهو يتكلم عن رحلات الحج، ليتطرق إلى واحدة من أكثر الرحلات إثارة. ويتعلق الأمر برحلة خناثة بن بكار، والتي تعود إلى سنة 1134 هجرية، ما بين سنتي 1721 و1722. إذ أشار إليها في إحدى فقرات بحثه المتخصص في الرحلات المغربية، حيث وضع جردا لأبرز الرحلات التي حدثت في الفترة نفسها، وأكثرها أهمية. يقول: «في سنة 1134 سافرت السيدة الجليلة خناثة بنت بكار، زوج مولانا إسماعيل وأم ولده مولاي عبد الله، لقضاء فريضة الحج، وصحبت معها حفيدها سيدي محمد بن عبد الله وهو طفل صغير، وكان في معينها الكاتب أبو محمد عبد القادر المدعو الجلاني والإسحاقي، يوحد الجزء الأول مخطوطا بخزانة جامعة القرويين، والكلام عليه في الرحلات الرسمية.
وقد امتاز هذا القرن الثاني عشر بكثرة ما ألف أثناءه من الرحلات الحجازية وغيرها، ولا يسعنا الوقت للكلام عليها بالتفصيل، وإنما نشير إلى رحلة العلامة الحضيكي، وقد غادر البلاد السوسية سنة 1152 وألف رحلة توجد منها نسخة مخطوطة بالخزانة العامة بالرباط، وفي سنة 1158 سافر إلى الحجاز العالم الصوفي أبو محمد عبد المجيد الزبادي الحسني وألف رحلة توجد في عدة خزانات وتسمى بلوغ المرام بالرحلة إلى بيت الله الحرام.
وفي سنة 1169 وقعت أول رحلة للمؤرخ الشهير أبي القاسم الزياني، وقد حج مرارا وذهب سفيرا إلى تركيا، وألف رحلة عريضة تعرض فيها لكل أسفاره ولكثير من أخباره وتوجد منها عدة نسخ مخطوطة وتسمى الترجمانة الكبرى، ومحل الكلام عليها في الرحلات العامة».

حسب إفادة د. محمد الفاسي، فإن المرافقين لزوجة السلطان المولى إسماعيل، خناثة بن بكار، تولوا مهمة الكتابة عن الرحلة التي ذهبت فيها زوجة السلطان، مصحوبة بحفيدها الذي أصبح لاحقا سلطانا من سلاطين المغرب. ولولا وجود الجيلاني في تلك الرحلة إلى الديار المقدسة، لما سُجلت في التاريخ.

يجدر بالذكر أن خناثة بنت بكار، تنحدر من أسرة عالمة، إذ إنها ابنة العالم الكبير الشيخ بكار المغافري. ولعل أكثر ما جعل هذه السيدة تخلد اسمها في التاريخ، ليس فقط كونها زوجة للسلطان المولى إسماعيل، وإنما أيضا إشرافها على شؤون الدولة، أيام ولدها السلطان المولى عبد الله، وحفيدها المولى محمد بن عبد الله. كما أنها اشتهرت بعلمها وضبطها للعلوم الشرعية والحديث، وتعمقها في التصوف. وهكذا فإن رحلة الحج التي دونها الكاتب الجيلاني، لم تكن وافية لتنقل التجربة بعيون خناثة بنت بكار، والسبب أن الكاتب لم يلازمها شخصيا، وإنما كان معها في نفس الموكب. وهو ما جعل الرحلة لا تركز عليها، رغم أنها كانت أهم شخصية في الوفد على اعتبار أنها زوجة السلطان، وأم أوفر أبنائه حظا وقتها لخلافته.

 

الزوايا كانت تقوم بمهام وكالات الأسفار قبل مئات السنين

هذا الاستنتاج لم يكن انطباعا عن اكتشاف لوثيقة تاريخية، وإنما خلاصة علمية انتهى إليها الباحث المغربي عبد العزيز بن عبد الله، في مقال علمي له نُشر في أواخر سنة 1986. هذا الباحث الذي اطلع على مئات الوثائق التي تؤرخ لرحلات الحجاج المغاربة على مر التاريخ بمختلف طبقاتهم ومسؤولياتهم، انتبه إلى أن بعض الطرق الصوفية والزوايا كانت تلعب دور الوسيط لترحيل الحجاج من المغرب إلى الأراضي المقدسة، بل وتوفير أماكن للمبيت للحجاج على طول مسار الرحلة إلى الحج.

يقول: «لا توجد في جغرافية «المسالك والممالك» قطعة من الأرض حظيت بعناية الرحالين والمؤرخين، مثل الطرق الكبرى المؤدية إلى الحجاز التي صنفت فيها مئات الكتب المختلفة المنازع والأساليب ومئات القصائد الحافلة بوصف المنازل والمراحل، علاوة على ما تطفح به من مشاعر الحنين التي جعلت من هذه الطرق لا متعبدات فقط، بل مجمعات استوثقت عبرها الصلات بين الشعوب الإسلامية ومبادلة الإجازات بين العلماء وتلاقح معطيات الفكر العربي والإسلامي، مما لم يعرف له نظير حتى بعد عصر النهضة، وما طرأ من سهولة وسرعة على المواصلات.

إن طرقا صوفية سنية كطريق أبي محمد صالح، دفين آسفي، ( وهو من رجالات القرن الثامن امتدحه شعراء الشرق مثل البوصيري) اقتصر شعارها الصوفي على ترحيل الحجيج من المغرب إلى الحجاز، وتوفير النزلات ومتطلبات السفر على طول المراحل، وخاصة خلال الصحراء، وكان هؤلاء الحجيج الذين لم تكن تخلو منهم الجادات والسبل الكبرى طوال السنة يتواكبون في ركب موصول يسمى «الركب الصالحي»، يستهدف بالإضافة إلى أداء فريضة الحج توثيق الرباط بين الشعوب الإسلامية، وكانت لأفواج الحجيج قوافل تنحدر من شنقيط وكبريات عواصم المغرب لتتجمع بسجلماسة أو مراكش أو فاس، ومنها تتخذ طريقها متكاثفة عبر ما سماه الرحالة ابن المليح بطريق الفقهاء، أي فقهاء المذهب المالكي الذين كانوا ينحازون عن متجمعات الخوارج في بعض المناطق المغربين الأوسط والأدنى، للانسلال من بلاد (فزان) إلى أرض الكنانة».

يمضي هذا الباحث ليقول إنه اشتغل سابقا على بحث آخر بعنوان «رسل الفكر بين الشرق والغرب»، حيث ركز فيه على أهم الشخصيات المغربية التي كرست حياتها لتسهيل رحلات الحجاج المغاربة قبل قرون، تحديدا خلال القرن 18.

إذ أورد أن شخصيات مغربية استقرت في الشرق، وتكلفت بتسهيل رحلات الحجاج المغاربة واستقبالهم عندما يصلون إلى الأراضي المقدسة. يقول متحدثا عن هؤلاء الذين أطلق عليهم اسم «الرحالة المغاربة»: «أحمد بن عبد الله الغربي الرباطي الدكالي، رحل إلى المشرق عام 1727، وأخذ عن شيوخ مصر والحرمين وطار صيته في الحجاز، فأصبح أحد سفراء الشرق لا في المغرب الأقصى وحده، بل من فاس إلى داكار، نظرا إلى الدور الذي كانت تقوم به جامعة القرويين وعلماؤها بين الشناقطة وأهل السينغال من خلال مذهب واحد تغلغلت جذوره في قلب الحواضر والصحاري، وهو مذهب إمام المدينة مالك بن أنس، ويكفي أن نلاحظ أن المسمى علي بن عبد القادر الشرقي، باشا السودان، (أي السودان الغربي أو السينغال الحالية)، هو الذي ترأس ركب حجيج السودان عام 1630 صحبة الرحالة المغربي ابن المليح، حيث كانت مواكب الحجيج من داكار إلى فاس تتجمع، تألف قوافل ما يمكن أن نسميه اليوم بإفريقيا الشمالية الغربية.
وبعض هؤلاء الحجاج الذين لم يضعوا الرحلات صنفوا في «مناسك الحج وأداء الزيارة»، كأحمد بن قاسم جسوس 1912، الذي توجد مخطوطة كتابه في المكتبة العامة بالرباط عدد 1821، وأحمد بلقاسم الكرسيفي السوسي».

 

شخصيات مغربية أدخلها «الحج» إلى التاريخ

هؤلاء ربما لم يُكتب لهم أن يدخلوا التاريخ من بابه الواسع لولا أنهم لم يذهبوا إلى الحج. فتسجيل رحلات هؤلاء الحجاج المغاربة، الذي كان أغلبهم علماء وموظفين مخزنيين كبارا، كان الوسيلة الوحيدة لتخليد أسمائهم في التاريخ، لكي تصل مخطوطاتهم إلى المؤرخين والمهتمين، بعد قرون على وفاتهم. والمثير أن أغلب هؤلاء الموظفين والمشايخ لم يكتبوا يوميات رحلتهم بأنفسهم، وإنما تولى ذلك كُتاب آخرون ومؤرخون جمعوا أسماء كبار الشخصيات المغربية التي ذهبت إلى الحج في فترة من الفترات، وذكروا أخبار ما صادفوه في طريقهم.

من هؤلاء مثلا نذكر محمد بن الصباغ المكي، والذي توفي أثناء عودته من رحلة الحج سنة 1903، ولم يكتب له أن يعود إلى المغرب سالما، لكنه بدل ذلك سجل اسمه في التاريخ، عندما وثق عَالِمٌ آخر لنفس الرحلة التي ذهب فيها المكي، والتي كان عنوانها «تحصيل المرام في أخبار البيت الحرام والمشاعر العظام».

وهو مخطوط نادر تتوفر نسخته في الخزانة الملكية، ويضم جردا بأسماء الذين ذهبوا في رحلة الحج في تلك السنة، وكان أبرزهم من الموظفين المخزنيين والشخصيات المرموقة التي مثلت الوفد المغربي في ذلك العام.

ومن الذين وثقوا لرحلاتهم بأنفسهم، نجد رحلة عبد السلام بن محمد العمراني المراكشي، والذي رافق شيخه الشهير محمد الكتاني سنة 1903، وتولى كتابة نص مخطوط الرحلة، حيث حكى فيها ما صادفه مع شيخه، وسجل اسمه بارزا في التاريخ لاضطلاعه بذلك الدور.

وهناك رحلات أقدم، تعود إلى فترات سابقة، مثل رحلة أحمد القادري الذي حج سنة 1689. وهذا الكاتب المغربي، اشتهر بفضل توثيقه لرحلته إلى الحج، سيما وأنه اختار أثناء عودته أن يقيم في مصر لسبع سنوات، وانتشر اسمه بين الأزهريين وقتها، لأنه حرص على الاتصال بهم والاطلاع على ما لديهم من مخطوطات في مكتبة القرويين. وعكف على تسجيل وقائع رحلته في مخطوط نادر عاد به إلى المغرب، واختار له عنوان: «نسمة الآس في حجة سيدنا أبي العباس»، وأبو العباس هو عالم مغربي رافقه الكاتب إلى الديار المقدسة. عندما عاد القادري إلى فاس، مكث فيها فترة قصيرة، قبل أن يتوفى سنة 1721.

هناك أيضا رحلة الهشتوكي، وهي رحلة انطلقت سنة 1684، واختار لرحلته عنوان «هداية الملك العلام إلى بيت الله الحرام وزيارة النبي عليه الصلاة والسلام». ويوجد نصها في مكتبة تامكروت الشهيرة التي تعتبر أحد مفاخر منطقة زاكورة. فهذه المكتبة حفظت وثائق ومخطوطات عمرها مئات السنين، ولم تتعرض للتلف، رغم الأحداث التي عرفتها المنطقة، وبفضلها بقيت رحلة الهشتوكي محفوظة إلى اليوم.

إلا أن أغلب هذه الرحلات المغربية، لم تذكر تفاصيل يوميات أصحابها، ولم تكن مؤلفة بأسلوب أدبي، بقدر ما كانت نصوصا مطولة تصف الأماكن وتذكر مراحل رحلة الحج، لتصبح توثيقية وإرشادية أكثر مما تحمل التجارب الشخصية لأصحابها.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى