شوف تشوف

الرئيسيةتعليمسياسية

مفصلية الحراك التعليمي

د. عبد الحميد رئيف

 

إن ما يعرفه واقع تعليمنا الوطني العمومي من صراعات تؤطرها تجاذبات سياسية ونقابية وفئوية، لتحقيق مكاسب بعضها مقبول وغيرها مرفوض، يثبت أهمية وحيوية وضرورة القيام بوقفة حاسمة للفصل في واقعه ومستقبله، مساهمة في تأهيل أجيال هذه الأمة لمواجهة تحديات ما تستشرفه من ريادة وتأهيل، على الصعيدين الإفريقي والعالمي، وتنبيها إلى خطورة إهمال التدافع القائم حاليا لهذا الجانب الحضاري والمستقبلي للأمة المغربية، والمسؤولية في ذلك تعود إلى الحكومة أكثر منها إلى أطر وزارة التربية والتكوين، لكونها المسؤولة والمحاسبة على إنجاح هذا الاستشراف، بتوفير شروطه المادية والموضوعية، وفي مقدمتها العناية برأس المال البشري الضروري لتحقيقه، عبر ضمان مستلزمات إعداده و حسن تكوينه وتأهيله للمستقبل الموعود، وهو ما يفرض القطع مع كل الأعطاب التي أوصلت منظومتنا التربوية إلى المستوى المتدني الذي يشهد به القاصي والداني من داخل الوطن وخارجه، وعبر تجسيد صدق اعتبارها مجال التربية والتكوين الأولوية الثانية للوطن على أرض الواقع، بتمكينه مما يستحقه ويحتاجه من إمكانيات مادية ومالية، تغليبا للمصلحة العليا للوطن على الهيبة المزعومة للدولة والحكومة، وتجاوزا لكل الحسابات السياسية والانتخابوية.

إن درجة التصعيد التي بلغتها مختلف هيئات منظومة التربية والتكوين، وفي مقدمتهم المدرسون، بأشكال مختلفة من التعبير عن رفض مشروع النظام الأساسي المفروض من طرف الوزارة الوصية، لا يمكن أن ينظر إليه من منظور رفض القرارات الفوقية على وجاهته، ولا من منظور دفاع عن مصالح فئوية خاصة طارئة ومحدودة، وإنما من منظور إجماع لا يمكن أن يكون مجانبا للصواب، باعتبار الدعم الاجتماعي المتنامي الذي حققه، مما يحتم التجاوب معه، عبر فتح كل قنوات التواصل الممكنة معهم، لبناء نظام أساسي متوافق حوله، يتجاوز المفهوم المقاولاتي الضيق للموارد البشرية.

ومن هذا المنطلق أنبه إلى الخطر الخفي لهذا التدافع الذي تسببت فيه الحكومة، وهو تحويل النقاش والاهتمام من جوهر القضية إلى جوانبها، ومن غاياتها إلى وسائلها وأدواتها، وهو تحويل سيضرب عصافير متعددة بحجر واحد، منها دعم مقاولات التعليم الخصوصي بتكثير زبنائها، والتمكين لهيمنتها على المنظومة التربوية الوطنية، ولعل توصية المجلس الأعلى للتعليم بدعمها من طرف الأكاديميات أحد إرهاصات هذه الهيمنة، ومنها تقليص سقف المطالب الحقوقية لـ «عمال» المنظومة التربوية، كما يراد لهم في النظام الأساسي المفروض، بتوجيه مطالبهم نحو تحسين أوضاعهم المهنية والمادية بدل تصحيح وضعيتهم الإدارية، وبالعصفورين السالفين تكون الحكومة قد نفذت توصيات البنك الدولي المشجعة على الخوصصة على حساب العوممة والتعميم والعمومية، ولذلك يلاحظ على تفاعلها مع الأزمة القائمة فتور كبير وتماطل واضح لعل أبرز أمثلته إعلان رئيسها عن الاستعداد للحوار متى طلبه المعنيون به، فماذا لو لم يطلبوه لأي سبب؟ ويعضد هذا الفتور واللامبالاة إعلان لقاء للحوار مع رئيس الحكومة تلاه تكليف لأحد وزرائها بمباشرة حوار خلص إلى الاكتفاء بتبليغ نتائج اللقاء، ثم دعوة من الوزارة الوصية / الخصم إلى لقاء مع النقابات حملت في طياتها أسباب فشلها بعدم تحديد جدول أعماله ولا أهدافه، ودون حضور الوزارات المعنية بالأزمة وحلها، وقد فشل اللقاء.

ومثلما انفضح عدم جدية الحكومة في حل هذه الأزمة، تنفضح سوء نيتها في تدبيرها، فكما عمدت إلى دق إسفين بين الإدارة التربوية وأطر التدريس عبر الترويج لزيادة في تعويضاتهم التكميلية، هي في الحقيقة تراجع عن مكسب كان متحققا من قبل، بضآلتها وتسببها في سحبها وسحب ضعفيها من الاحتساب في التقاعد، فقد عملت على دق إسفين بين الأطر الرافضة للنظام الأساسي، وخصوصا المدرسين منهم، وبين الأسر عبر الترويج لكونهم يرهنون مصلحة التلميذ بمصلحتهم الشخصية، مع حصر هذه المصلحة في المطالبة بالزيادة في الأجر، وذلك عبر مختلف التدخلات والتصريحات التي صدرت عن مسؤولين حكوميين ومنتخبين وحتى بعض الصحافيين والإعلاميين، تبخس الموقف النضالي لمختلف الأطر من خلال القدح في المدرسين تكوينا ومردودية وسلوكا، ونعتهم بالأنانية والجشع وانعدام الحسن الوطني، ومثلما انقشع ضباب سوء الفهم أو كاد بين المدرسين وبين أطر الإدارة التربوية، فقد جسدت مختلف التعبيرات العفوية لأولياء التلاميذ تفهمهم لمشروعية وموضوعية مطالب الحراك القائم، سواء في وقفاتهم الاحتجاجية أم عبر التصريحات والبلاغات المنتشرة على صفحات التواصل الاجتماعي، الصادرة عن تمثيليات أولياء الأمور وبعض الهيئات الحقوقية الوطنية، لكن حكومتنا الموقرة مصرة على تنفيذ مشروعها، عبر الثناء عليه وعلى واضعيه، وعبر محاولة قهر المناهضين له بغية إرغامهم على القبول به، بتوظيف الإكراه المادي المتمثل في تفعيل الاقتطاع من أجور المضربين، في تجاهل صارخ للدستور المغربي ولكل الأعراف الدولية التي كثيرا ما فلقت الحكومة رؤوسنا بضرورة احترامها.

اعتبارا لكل ما سلف ولغيره مما ضاق المجال عن ذكره، أوجز الوضعية القائمة في المنظومة التربوية الوطنية في كونها تعيش مخاضا نتيجته تحول مفصلي في وضعية المدرسة العمومية الوطنية، فإما أن وطننا سيبني مدرسة عمومية تضمن تكافؤ فرص كل أبناء الوطن في الاستفادة من تكوين ذي جودة، محدد الأهداف والغايات والوسائل والإمكانات، يعيد إلى المدرسة العمومية مكانتها كوسيلة للترقي الاجتماعي، وإما أنه سيكرس استفراد المقتدرين بتلك الاستفادة، ويحول المدرسة العمومية إلى فضاء لتنفيذ توصيات الهيئات الدولية باحتجاز أطفال الوطن من أبناء غير المقتدرين إلى أن يصبحوا غير قادرين على مسايرة تطوير ذواتهم وكفاءاتهم، للزج بهم في خدمة المتنفذين في مقاولات البلد ذات التوجه النيوليبرالي المتوحش، وتكريس وضعهم كمستخدمين لهم، في وضع يتجاوز وضع «الخماس» إلى وضع القن، مع التنبيه إلى ما سينتجه هذا الواقع التحقيري للمدرسة العمومية من اصطدامات متعددة الأشكال بين المنتسبين إليها والعاملين بها، يحول حياتهم وعملهم بها إلى جحيم يومي لا يمكن أن يطاق.

وبناء على مفصلية هذا الواقع اليوم، أقول لحكومتنا إن مراهناتها غير مضمونة، وأنها تشكل مغامرة، إن لم تؤد إلى ما لا تحمد عقباه من اصطدام غير محسوب الأشكال والعواقب، فإنها تؤثر على الصورة البهية التي ما فتئ وطننا، برعاية وتأطير من ملك البلاد، يسعى إلى تحقيقها عن المملكة الشريفة، ويضعف هدف تقوية السيادة الوطنية في مواجهة أعدائها المتعددين، وأن ذريعة الحفاظ على هيبة الدولة في صراعها مع العاملين بقطاع التربية والتكوين، هروب إلى الأمام، إذ إن الهيبة الحقيقية والمعتبرة للدولة تتحقق أساسا في انضباطها للحق والقانون، وتفاعلها الإيجابي مع متغيرات الوطن ومكوناته لضمان سيادة الدستور وضمان الحقوق، ومن أهمها الحق في التمدرس، وفي الحياة الكريمة والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي لكل مكوناتها، ومن أبرزهم أطرها المعتمدة في تنفيذ وإنجاح برامجها الاقتصادية والاجتماعية وفي مقدمتهم أطر التربية والتكوين، لكونهم هم من يصنعون كل تلك الأطر، وأن ادعاءها أن التزامات البلد لا تسمح بالاستجابة إلى مطالب الحراك القائم، يفضح إما عدم إلمامها بإمكانيات البلد قبل الإقدام على الدخول في التزامات تربط واقعه وترهن مستقبله، وإما توفر هذا الإلمام مع الإصرار على مجانبته، وهو سلوك يفضح أن المقصود منه شيء يراد إخفاؤه لسوئه، وفي حال ثبوت إحدى الحالتين، يتبين أنها حكومة غير قادرة وغير صالحة لمسايرة التوجه التنموي الذي انخرط فيه المغرب وطنيا وقاريا ودوليا، وعليها بالتالي تقديم استقالتها احتراما لنفسها ولدستور البلاد وللأعراف الدولية التي تتشبث بتطبيقها، وحتى لا تضطر ونضطر إلى بلوغ هذه الحال فإن أسهل ما يمكن أن تقوم به، في إطار مسؤوليتها عن تدبير السلم الاجتماعي، هو سحب النظام الأساسي موضوع الصراع، وإعادته إلى طاولة الحوار بإشراك جميع المعنيين به، وفي ذلك ربح للوقت لصالحها، مع التنبيه إلى ضرورة حفاظها على مخاطبها الشرعي بدل تشتيته، من خلال المساهمة في إعادة الثقة التي تزعزعت في النقابات، بإشراكها في إيجاد الحلول الموضوعية والمنصفة للنزاع، مع عدم تكرار نفس الأخطاء من طرف نفس الأطراف التي تسببت فيها، والعمل على تكريس السيادة الوطنية عبر التخلص من الإكراهات الخارجية والاستيراد الأعمى للنماذج الأجنبية، وأن تجمع في تطبيقها مبدأ الأجر مقابل العمل بين الجانب الزجري والتحفيزي والحقوقي، بتعويض الأطر والأساتذة عن المهام غير الأصلية في وظيفتهم التي تطالبهم بتحملها، دون أن تغفل حسن تكوينهم أساسا واستمرارا، ودون أن تنسى أن الإنسان بطبعه يحرص على الحفاظ على ما له قيمة، أما ما فقدها فيسهل التخلي عنه والتفريط فيه، وما أظن أن النظام الذي تم فرضه يبقي لمهنة التدريس قيمة أو جاذبية.

ومقابل ما أقوله للحكومة أقول لعموم المواطنين أن الحراك القائم حاليا هو في حقيقته صراع من أجلهم ومن أجل أبنائهم، يهدف إلى الحفاظ على مجانية التعليم وتجويده، بتوفير ظروف لائقة لعمل المدرسة العمومية ومن يشتغل فيها، حتى يكون بمقدورهم تقديم خدمة لائقة لفائدة أبناء الوطن، وحتى تكون محاسبتهم عليها مشروعة وموضوعية وذات مصداقية، دون إثقال كاهل الأسر بنفقات ثقيلة مقابل الحق في التعليم، تحول المدارس العمومية في نهاية المطاف إلى مقاولات خصوصية، كما يجنب تلاميذ الوطن رجال الغد نفس المصير الذي يهدد الأطر المنخرطة في هذا الحراك، وبذلك فإن هذه الأطر وفي مقدمتها المدرسون إنما ينوبون عن عموم المواطنين الذين أبدوا تفهما ودعما لا بأس به لحراكهم، لكنه غير كاف.

وآخر من أوجه إليه الخطاب هم أبناؤنا إخواننا زملاؤنا المقصودون بالنظام الأساسي الذي فرضته الحكومة، بتنبيههم أولا وأساسا إلى تحصين حراكهم من الداخل، والحفاظ على نقاء دوافعه وأهدافه، بالوقوف في وجه كل تعليق أو تصريح يصدر باسمهم من طرف المندسين بينهم، الراغبين في الركوب على حراكهم لتحقيق مآرب أخرى بعيدة عن مطالبهم المشروعة، وثانيا إلى أن المفصلية التي سبقت الإشارة إليها تعني أنهم قد دخلوا معركة غير محدودة الأمد، تتطلب طول النفس والثبات على الموقف، والتحرز من الوقوع في أي خطأ يقلب مواقف باقي الأطراف ضدهم، لأنها معركة يتوقع فيها استعمال كل الأسلحة والتكتيكات، ومنها تكسير العظام، ومن أشكاله تفعيل الاقتطاعات، ولعل أقصى رد عليها هو الامتناع عن تقديم الدروس في المؤسسات الخصوصية، أو الدخول في إضراب مفتوح، وكل هذا يتطلب تقويما ذاتيا للقدرة على الصمود، بحيث إنها إن لم تُضمن فالأولى إيقاف المعركة والبحث عن صيغة أخرى لمواصلة الحرب، وثالثا عقلنة مطالبهم بأخذ حتمية البعد الجهوي في كل اعتباراتهم واقعا ومستقبلا، ورابعا، ولعله الأهم، إدراك أن مصداقية حراكهم تتحقق في عدم توقفه عند الاستجابة إلى مطالبهم الآنية، وإنما في اعتباره جهادا أصغر يقود إلى جهاد أكبر، يتطلب إعادة بناء الذات وتقويتها معرفيا ومهاريا ومهنيا، ليكونوا في مستوى الغاية النبيلة الثقيلة لهذا الجهاد، وهي تجاوز إصلاح المنظومة التربوية الوطنية إلى إعادة بنائها على مستوى السياسة التعليمية الوطنية وكل ما يرتبط بها من مناهج ومقررات ولغة وغيرها، على أسس وطنية تخدم المشروع التنموي الذي انخرطت فيه بلادنا، وغير ذلك سيثبت ولو بعد حين أن الحراك القائم الآن حراك خبزي مصلحي لا غير.

أما النقابات على اختلافها وتعدد مشاربها وخلفياتها فلن أتجاوز في مخاطبتها التنبيه إلى أنها تعيش نفس المفصلية ببعد وجودي، في علاقتها مع قواعدها، وأن مراعاة هذا الواقع والمصلحة العليا للوطن تفرض ولو مرحليا تجاوز التجاذبات ومعركة المكتسبات في ما بينها، وتركيز كل جهودها نحو إيجاد حل عادل منصف للمشكل القائم دون اعتبار لمن سينسب الفضل فيه.

ويبقى فوق كل الأطراف المعنية بإيجاد حل للمشكل القائم في المنظومة التربوية الوطنية، طرف أكثر معرفة وإلماما بالموضوع بكل حيثياته، وأكثر قدرة وسلطة على التأثير فيه وتوجيه كل أطرافه، واعتبارا وتقديرا واحتراما مني لمكانته فإنني لا أسمح لنفسي بالتجرؤ على دعوته إلى التدخل، لأنه أعلم مني بجدواه وضرورته وتوقيته وطريقته.

إن التعليم يرهن مصير أي أمة، وهو في وطني لم يعد يتحمل مزيدا من اللامبالاة، وعلى الجميع أن يعي ذلك….

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى