شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

هكذا تخلصت فاس من ظاهرة العبيد ومظاهر الاستعباد

كانت القاعدة المسلم بها حينها هي الامتثال لروح العصر، غير أنه عموما، كانت تتم معاملة العبيد بإنسانية واحترام في مقابل أن يبذلوا أقصى الجهود في أعمالهم، إلى جانب أنه كان يتعين عليهم أن يظلوا لطفاء وظرفاء مع الجميع، لأنهم بدون ظهر وبدون سند. كانت وضعيات العبيد متباينة، وحكاياتهم تتفاوت في مدى غرابتها ومأساويتها. فحسب بعض المؤرخين، وما توصلت إليه من أبحاثي الميدانية، لم تكن مصائر العبيد واحدة في كل الحالات، فالأمر كان يختلف من عبد لآخر، ومن أمة لأخرى، وفقا لدرجة نبل وإنسانية العائلات المستقبلة.

أطلقت إحدى صديقاتي، وهي بعمر ابنتي، اسم ياقوت على ابنتها، تعبيرا عن حبها وامتنانها لدادتها التي كانت تحمل هذا الاسم. كانت صديقتي تتحدث عن مربيتها تلك بكثير من الاحترام والتقدير – هذه الدادة كان قد تم عتقها، قبل أن تتزوج، وتعود للعيش بعد ذلك ببيت صديقتي بعد وفاة زوجها -. اليوم، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، إذ لم تعد العديد من الشابات يستهجن إطلاق أسماء الدادات على بناتهن، اعترافا بأفضال أولئك النساء، الطيبات، الخدومات، الودودات اللائي كن للأسف، ضحايا منظومة اجتماعية مختلة، مستبدة، وغير عادلة يندى لممارساتها الجبين.

كانت تعاسة الدادات شديدة لدرجة أنها صارت غولا تستدعيه أمي لتخوفني به، وأنا صغيرة كانت تقول لي: «إذا لم تنجزي فروضك، فإن أمك ستصبح «خادما»، مجرد دادة خاضعة». كنت ما إن أسمع ذلك، حتى أسارع لتنفيذ أوامرها خوفا عليها من أن يحيق بها ذاك المصير المؤلم بحق.

لم يكن لكلمة عبد أو لكلمة أمة مرادف في الدارجة المغربية، لذلك كنا نطلق على الرقيق كلمة «الخادم». لقد كانت تسمية ملطفة تعني الشخص المجتهد في عمله، الذي يسهر على توفير أسباب راحتنا بالمنزل. عرفت أربع دادات، كلهن كن قد تم عتقهن، ومع ذلك استكملن حياتهن في بيت جدي لأمي. كنا نحترمهن بالقدر نفسه الذي كنا نحترم به خالاتنا، بل إن جدتي كانت تفرض على أحفادها تقبيل أيديهن تقديرا لهن. كانت أحيانا تستضيفهن في بيتها بكل حفاوة وترحاب. لقد ساهمت تلك الدادات في شبابهن في تعليم أمي وخالاتي جميعهن إجادة فنون الطبخ والطرز إلخ.

كان أغلب الناس يحسون بالتعاطف تجاه العبيد، لكن لا شيء كان بمقدوره أن يمحو آثار تلك الفظائع والانتهاكات التي تعرضوا لها أثناء اختطافهم، ولا شقاء تلك الحياة التي كانت تفرض عليهم فرضا. رغم أن العبودية مخالفة لتعاليم الإسلام، إلا أنها كانت تمارس طيلة عصور الخلافة الإسلامية على مرأى ومسمع من الجميع. القرآن والسنة وضعا قوانين العتق من العبودية من خلال جعله واحدا من الأفعال الفاضلة المتاحة أمام المسلم للتكفير عن الخطايا والذنوب، محرمين بالتالي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. إنه لتناقض صارخ، وانحطاط كبير، أنه لحدود تلك الحقبة لم يكن يوجد قانون يعاقب على ذلك.

 

للا السعدية تحرر كل عبيد الإقامة

مما حُكي لي من فضائل جدتي الكبرى للا السعدية، المرأة المثال بتدينها الصادق، وشدة تواضعها، أنها نهجت أسلوبا تدرجيا لإقناع زوجها الأمين بنعلال بعتق كل عبيده وإمائه. روت له مرة عن هروب عبدة من بيت سيدها نحو إحدى الزوايا الآمنة التي كانت في تلك الفترة أمكنة تختص في استقبال كل شخص يعاني محنة ما، قائلة له: «لقد لوثت هذه الحكاية سمعة السيد (….). الجميع استنكر هذا الأمر في حمام حَينا. لا أرغب في أن نتعرض بدورنا للموقف».  أول مرة لم يكن لتحذيرها أي أثر أو أي صدى لدى زوجها، لكنها لم تيأس، وأعادت المحاولة مرة أخرى في الأيام الموالية. هكذا ستخبره فترة بعد ذلك، بغير قليل من الحزم والصرامة: «إن الصايلة، وهي كما تعرف أكثر إمائنا لطافة، تقترح عليك فداء حريتها منك. إنها تزعم أن لها ما يكفي من المال لذلك. لقد رأيت أن من واجبي أن أخبرك بهذا الأمر. من جهتي، أنا موافقة». أجابها جدي: «لكنها تعيش بسلام بيننا! كما أنك تعلمين أنني لست في حاجة إلى مالها، ثم أخبريني كيف جمعت هذا المال أصلا؟». أجابته للا السعدية: «أولادك وضيوفنا يخصونها بإكراميات. أظن أنها تعتزم منذ مدة إنشاء مشروع خاص بها».

«أي مشروع هذا؟».

«– أعتقد أنها تفكر في الزواج، إضافة إلى ذلك، العتق من العبودية من شيم الكرام وأجره كبير عند الله تعالى. ثم هي خادمة فقط، وهي تغبط المحظيات اللائي حررن بمجرد أن وضعن، وهذا أمر طبيعي. إن عتق أمة سيكون في ميزان حسناتك. لذلك أنا أخاطب فيك طيبوبتك ونبلك وأخلاقك. أرجوك إنها لطيفة جدا، وتستحق حياة طبيعية».

«– لكن العبيد الآخرين سيطالبون هم أيضا بالحرية».

«– سيدي، علينا أن نعتقهم جميعا عرفانا بما أسدوه لنا من خدمات. أظن أنهم سيظلون أوفياء لنا، فنحن عائلتهم الوحيدة».

في اليوم الموالي، عم الخبر السعيد أرجاء المنزل، وتمت دعوة اثنين من العدول لتحرير صك عتق كل الخدم رجالا ونساء.

حكت لي أمي وخالاتي المشهد المؤثر لما بعد العتق: «لقد أصيبت بعض العبدات بنوبات هستيرية حتى أنهن كسرن كل الأواني التي كانت في أيديهن، ورمينها في الفناء، إشارة إلى تحررهن، وانعتاقهن، وتوديعهن لعهد الاستعباد. بعضهن بكين بحرقة، وبعضهن الآخر دخل في نوبات هستيرية. لقد عكست ردات أفعالهن المختلفة آلام وأحزان حياة بأكملها. تزيد الحكايات أنه لم تتم معاقبتهن على تكسير الأواني الفاخرة المخصصة للضيوف، والمختارة بعناية منذ مدة طويلة من قبل العائلة، فقد كان جميع أفراد العائلة مندهشين بالمشهد الذي عاينوه، كان العذر الذي التمسوه لهم أن الحرية لا ثمن لها.

في الحقيقة، كان ذلك أسلوبهن الخاص لدفن ماض رهيب، وللتحرر نهائيا من ثقل العبودية التي رزحن تحت نيرها طيلة حياتهن. بتعبير العصر، كان ما فعلنه مظاهرة تنديد، فعل احتجاج، أو إسقاطا رمزيا لنظام لاإنساني. لقد كان تكسير الأواني الفاخرة يشير إلى تكسير الأغلال والأصفاد التي تكبلهن، لأنهن كن بالفعل عاجزات عن التعبير باللسان عن الظلم الذي حاق بهن. فهذه الأواني الفاخرة شكلت بالنسبة إليهن علامة على الهوان والذل والتمزق والاغتراب. ومع ذلك، لم تحاول أي واحدة منهن بعد العتق البحث عن عائلتها، ربما لفوات الأوان، أو لعله خوف كامن في النفوس من الوقوع مجددا بين أيدي العصابات. لقد أقسمن جميعا على البقاء أبدا تحت كنف هذه العائلة الطيبة».

لحسن الحظ أن جدتي الكبرى المحبوبة للا السعدية، كانت تولي لهن كل العناية المطلوبة، ولا تبخل عليهن بحقوق الانتماء كحرات للعائلة. كن يضعن ثقتهن فيها، وخصوصا في ربيبها سيدي حبيبي، الذي كانت والدته محظية مثلهن، وكان طيبا جدا، ومستقيما أشد ما تكون الاستقامة.

لقد أحسسن مرة أخرى ببشريتهن، فاستطعن أن يملأن أوقاتهن بفضل للا السعدية بأنشطة مهمة. بدأن يستثمرن أوقات الفراغ لمزاولة بعض الحرف التقليدية، قصد توفير بعض المال. لقد كانت حريتهن التي حصلنها كاملة، لدرجة أنهن تمكن من ممارسة بعض الأنشطة المحرمة حتى على بنات سيدهن السابق: مثل تلقي دروس الموسيقى، أو الذهاب إلى الأسواق. كانت مهارتهن في الطبخ، وعديد المجالات الأخرى، تجعل الاستغناء عنهن شبه مستحيل. بمرور الوقت، تملكن خبرة فنون القول والكلام، وصرن مرجعا لا يضاهى للأمثال الشعبية المغربية، التي كانت محط إقبال من الجميع. عندما كن يسترسلن في الحديث، كنا لا نملك إلا أن ننصت إليهن بإعجاب. ثم لم يلبثن، وقد تحررن، أن تفجرت لديهن حاسة الإبداع، فصرن يتبارين ويتنافسن في ما بينهن منافسة إيجابية في مجالات فن الطبخ، وفن الخياطة، وحتى في طرق ادخار المال.

جلبت تلك المبادرة النبيلة للا السعدية مزيدا من احترام زوجها وجميع أفراد العائلة لها. كانت قد أحست براحة نفسية كبيرة بعد عتق كل العبيد. حتى أنها أسرت في إحدى المرات لابنتها للا مليكة: «يمكنني الآن أن أموت مطمئنة البال، بعد أن رميت عن كاهلي هذا العبء الثقيل». لقد عاشت أزيد من مائة عام في صحة جيدة. في يوم من الأيام أحست في الشارع، بقليل من العياء – هي التي كانت تحب الخروج لوحدها – فلجأت إلى أقرب بيت من بيوت العائلة، وقد كان بيت حفيدتها الكبرى. هناك أسلمت الروح في طمأنينة إلى بارئها، في شهر يوليوز من سنة 1957. لم تترك إرثا آخر غير أفعالها الخيرة. كان كرمها إبان حياتها مضربا للأمثال بيننا. وحين تمكن كل واحد من أبنائها من تأسيس بيته الخاص، انتبهت إلى كونها لا تسكن إلا في طابق واحد من بيتها الكبير، ومن دون خدم. لقد كانت تعجن خبزها بنفسها. في مرة زرتها فيها، قالت لي ضاحكة: «أحب أن تقومي بإيصال لوح الخبز إلى الفرن، ولكنك صغيرة، وأخاف أن يسقط منك اللوح في الدرج». لقد عرفت كيف تعتمد على نفسها في تدبير شؤون حياتها، وظلت مستقلة عن الجميع لا تحتاج أحدا إلى آخر رمق من حياتها.

 

نهاية العبودية

حسب ما زودتني به بعض الأبحاث التي قمت بها، فإن تجارة العبيد انتهت رسميا في فاس حوالي سنة 1905، أي قبل بداية الحماية. تم ذلك بتوجيه من الفقهاء، لكن دون توقيع عقوبات على من لايزالوا يمارسون تجارة العبيد، مع أن المنطق كان يقتضي محاكمة ممارسي هذه الأفعال الدنيئة. إذ حكى المؤرخون أنه عندما كان يصل العبيد إلى بيت ما، كانوا يجبرون على الاقتيات من فضلات الطعام، ولا تمنح لهم إلا أوقات قليلة للراحة.

الغريب أن تعاليم الإسلام كانت تحرم استعباد الناس، وتحث على عتقهم، ألم يعلن سيدنا عمر بن الخطاب قولته الشهيرة التي تردد صداها في الآفاق: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ لكن للأسف لم يتم الاقتداء بهذا التاريخ الوضاء، ولا الانضباط لتعاليم ديننا الحنيف، فظلت العبودية منتشرة في العالم الإسلامي، وقد كان أحق بالسبق إلى تحريمها من خلال اجتهاد متنور.

بلدنا المغرب لم يكن بمنأى عن هذه الظاهرة. مما أوردته المؤرخة غيثة عواد أسرد التالي: «عند بداية القرن العشرين تبنى العلماء قضية الدفاع عن حقوق المحظيات وأبنائهن في الإرث. أما في سنة 1934، فقد طالبت بعض المنشورات بإلغاء العبودية». وتضيف المؤرخة نفسها: «أنه قد أعيد نشر آراء أحمد بن خالد الناصري (1897- 1935) – المنتمي إلى الزاوية الناصرية – حول العبودية في المغرب لدعم جهود مكافحة تجارة الرقيق».

ثم تزيد الباحثة كاتبة: «لعبت الحركة الوطنية دورا قويا في التخفيف من ظاهرة العبودية في الأوساط الحضرية… لقد كان العبيد يُختطفون من ذويهم، وهم أطفال، من القرى المغربية النائية أو من مناطق جنوب الصحراء… وكانوا يقادون عبر الفيافي والقفار، إلى أسواق سجلماسة، مراكش، فاس، مكناس، الرباط، آسفي، طنجة، وسبتة إلخ».

رغم أن صحة الزواج في الإسلام تستدعي شروطا معينة، ورغم تحريم العلاقات الجنسية خارج الزواج، إلا أن المشرع المغربي كان يعترف في تلك الحقبة بالأبناء المولودين من علاقات خارج هذا الإطار الشرعي، دون أن يعاقب أصحاب تلك الأفعال. صحيح أن المحظية كانت تعتبر من ملك اليمين، وتُرقى إلى مرتبة الزوجة أحيانا، لكنها لم تكن لتستفيد، لا من المهر، ولا من إشهار الزواج، وكان عليها فقط أن تنتظر إلى حين وفاة زوجها كي ترث. كان الأمر ضربا من ضروب الحرية الجنسية التي سمح بها الرجال لأنفسهم في تلك الحقبة. كانت المحظيات تعتبرن من ملك اليمين اللواتي يحق للسيد الاستمتاع بهن. أظن أنه ليس للمرء إلا أن ينذهل من كل هذا الكم من الظلم والجور والافتئات على حقوق الآخرين.

الغريب اليوم، وحسب الطبيب والسوسيولوجي «شكيب جسوس»، أن هناك خرقا للقانون المنظم للزواج من قبل بعض الطلبة الذين لا يكترثون لمصير الأطفال الذين قد ينجمون عن هذا النوع من العلاقات غير الشرعية.

لكأنما التاريخ صار يعيد نفسه من جديد، فالاجتهادات القضائية الحالية، تعترف في غياب أي عقد مكتوب، بالطفل المولود لرجل وامرأة يقولان إنهما تزوجا بقراءة الفاتحة بحضور بعض الناس.

من المفروض أن نشجب الفكر الاستعبادي الذي كان سائدا لدى بعض الناس، ومن الواجب الاعتذار عن المظالم التي سلطت على العبيد، ولو بعد فوات الأوان، حتى لا تتكرر المأساة، وحتى يتم دفن ذاك التاريخ المشين للأبد. لكن للأسف نلاحظ أن العبودية تعود في عصرنا الحاضر، بأنماط جديدة مستحدثة، وبإيهاب مختلف.

يدق الكاتب المغربي الطاهر بنجلون ناقوس الخطر في مقال له على صفحات جريدة «le Point»، قائلا: «… تقديرا للذئب ولأي حيوان آخر، أقترح أن لا نستعمل مستقبلا عبارة «توماس هوبز»: (الإنسان ذئب لأخيه الإنسان)، لأنه لم يسبق لنا بكل بساطة أن رأينا ذئابا تجتمع في ما بينها، لوضع خطة لاستغلال واستعباد ذئاب أخرى، لم نر كذلك أية حيوانات، حتى أكثرها افتراسا  تقرر إبادة فصيلة أخرى… إنهم مهاجرون أو مرشحون للهجرة، تم استغلالهم من قبل عصابات أوقعتهم في الفخ في دولة فاشلة تغيب فيها السلطة المركزية لفائدة مجموعة من القبائل التي تتنازع الحكم في ما بينها. إن الفوضى التي تنتشر بليبيا، هي في مصلحة تجار العبيد».

ما حكته لي أمي عن اختطاف أشخاص تم تحويلهم إلى عبيد شكل صدمة لي طيلة حياتي. بدوري، سمعت في يوم من الأيام من مراهقة، تدعى عزيزة، تشتغل في بيتنا، حكاية اختطافها من قبل أبيها. حاولنا جاهدين، زوجي، أبنائي، وأنا العثور على أمها، لكن دون جدوى.

لم يجر حرمان عزيزة فقط من حب أمها، ولكن حرمت أيضا من حب أبيها، الذي دفعها إلى الخدمة في بيوت العائلات، وهي لا تزال بعد غضة صغيرة من دون أن يكلف نفسه عناء تفقدها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى