شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

هنا الرباط

تشكل الإذاعة الوطنية ذكرى طيبة في قلوب ومخيلة أجيال من المغاربة، اعتادوا الاستيقاظ صباحا على وقع أصوات جهورية مخضرمة وهي تقدم النشرة الإخبارية أو تبشرنا بمنخفضات جوية ستحمل معها الغيث والخير والخمير.

لازالت العبارة الإذاعية الفخمة «هنا الرباط» تبعث في أوصالنا «التبوريشة» لما تحمله من «نوستالجيا» لزمن بسيط. لقد جمع الراديو آنذاك بين البرامج الثقافية والترفيهية والدينية، ليقدم لنا منتوجا وطنيا خالصا ينبض بالأصالة والروح المغربية، غير أن دوام حال دار البريهي من المحال، حيث تغيرت الأزمنة و«خيابت الوقت».

تدهورت صناعة الأثير في بلادنا، خلال العقود الأخيرة، بعد عمليات السطو المسلحة التي تعرض لها الراديو المغربي من طرف المتطفلين على المهنة، أولئك الذين جروا آخر الصناعات الإعلامية المحترمة إلى وحل الشعبوية والنابية والتفاهة.

لم يقتصر تراجع جودة المنتوج الإذاعي في بلادنا على خوصصة أصحاب «الشكارة» لهذا المجال، بل ساعد انتشار «البودكاست»، كمفهوم حديث للبث الإذاعي، على خلط أوراق المهنة وتشتيت تركيز المستمع، الذي وجد نفسه أمام فضاء جديد يناقش، بحرية أكبر، العديد من المواضيع والقضايا الحساسة، التي قد يلاحقها مقص الرقيب في الإذاعات الرسمية.

لقد منح «البودكاست» للجمهور الإذاعي التقليدي نوعا من الراحة ليس فقط في الحديث بل في التفاعل مع محتويات البرامج المقدمة. فهل نشهد اليوم احتضار الراديو مقابل ولادة «البودكاست»؟ لم يفوت المشاهير المغاربة، من فنانات وراقصات وروتينيات، الفرصة لتصدر المشهد البودكاستي، والانقضاض على هذا المولود الجديد وتحويله إلى «بارابول» لبث أفكارهن البهلوانية، أو ممارسة الأستاذية عبر إعطاء دروس «التهلكة» الذاتية لجحافل المراهقات والزوجات المفقوصات. ألا تلاحظ، عزيزي القارئ، أن كل مفهوم إعلامي أو رقمي يدخل بلادنا «كيطيح عليه البق»؟ إذ لا يقتصر «البودكاست» المغربي على النصائح الأسرية للسيطرة على قلب وجيب مول الدار، أو الحيل العاطفية لجلب الحبيب والتلاعب بالخطيب. بل أصبح بعضها بمثابة دار للإفتاء، يلجأ إليها المستمع طلبا لفتوى شرعية من مصدر غير شرعي. لقد تناسلت البودكاستات بشكل رهيب في الفترة الأخيرة. أينما وليت وجهك سيلاحقك صراخ «مايا» أو سترعبك أفكار «رمانة». هذه الأخيرة التي كان لها من لقبها الفني نصيب، حيث فركَعت رمانة مثيرة للجدل، الأسبوع الماضي، من خلال استعراضها لأكثر الطابوهات الاجتماعية والدينية المحرمة، حيث ناقشت بهدوء مخيف قضية خيانة الزوجات. هذا الموضوع الشائك الذي فتح بابا واسعا من الجدل، وأحرج النساء وأربك صورة الأم والزوجة في مخيلة الرجل. لا حديث اليوم سوى عن «وقاحة الدويبة» وتطاولها على قدسية الميثاق الغليظ.

أخبرتني مصففة الشعر أن رمانة تسعى لنشر الفساد والديوثية في المجتمع، بينما تمتمت إحدى الزبونات بخجل أن ما تحدثت عنه الفنانة واقع مسكوت عنه. فهل أصبح الخوض في الزوايا المظلمة للعلاقات الإنسانية وسيلة لجذب المشاهدات عوض «السكواط الروتيني»؟ وهل الحرية المطلقة في طرح مواضيع حساسة ظاهرة صحية تغني المشهد الفكري في بلادنا؟ لا نختلف بتاتا مع مبدأ وحق الفرد في حرية الاعتقاد والتفكير، غير أن تسخير منصات رقمية، تضم ملايين المتابعين، لتوجيه الرأي العام مسؤولية عظيمة تستوجب شروطا محددة، أولها الأهلية العلمية. يحق لنا أن نتساءل عن نوع الديبلومات والشهادات العليا التي يتوفر عليها هؤلاء المشاهير، والتي تخول لهم، بالتالي، مناقشة قضايا في الطب النفسي أو السلوك الجنسي مثلا.

هل الرقص في الكاباريهات وامتهان فن التنقل بين أحضان الرجال كفيل بمنح صاحبته الحق في إعطاء نصائح بالجملة للنساء والمراهقات؟ صحيح أن التجارب الحياتية، على اختلاف مستويات وعيها وإدراكها، تظل منبعا مهما للتعلم من أخطاء الآخر.. لكن ممارسة الأستاذية المجانية، وبث الأفكار الهدامة وسرد التجارب الفاشلة، هو بمثابة السير في حقل من الألغام. لقد أصبحت الرقابة على «السلوكَية» ضرورة أخلاقية ملحة. نلاحظ، أيضا، تشويها ممنهجا لمفهوم البودكاست كجنس صحفي مستحدث، من طرف بعض المغاربة في بلاد المهجر. حيث اتخذ هؤلاء من التكنولوجيا أداة لتحريك البرك السياسية الآسنة، وسلاحا للتشهير بالأبرياء ووسيلة لابتزاز السلطة، بل تمادى بعضهم إلى الإساءة الواضحة والصريحة للمعتقدات الدينية والمقدسات الوطنية للمغاربة. يبدو أنها متلازمة الهجرة لقارة أمريكا الشمالية. حيث نلاحظ أن كل من وطأت أقدامهم بلاد العم سام أو الخال ترودو، «كيبدا يهرب ليهم الله يحضر السلامة». ونحن أمام هذا التغول الرقمي الذي أصبح يتيح لكل من هب ودب أن يتصدر المشهد الإعلامي، لا يسعنا إلا توجيه العتاب إلى القائمين على الإعلام المغربي بكل أجناسه، لعجزهم عن مواكبة التحولات التكنولوجية الكبرى وفشلهم في تحديث محتوياتهم أو تطوير وسائل تواصلهم.

إن التغيير والتأقلم مع عصر «الميتافيرس» هو صيرورة تاريخية حتمية. فالمتلقي، رغم انجذابه للأصوات النشاز، يظل متعطشا لمنتوج مغربي رصين، يحترم خصوصيته الثقافية والدينية. لقد كانت حكاية الدويبة الأخيرة بمثابة بالون اختبار لمدى هشاشة العقل الجمعي وسهولة توجيهه والتلاعب به. فهل المغاربة «رجعو خفاف»؟ هل انتهى بنا المطاف لتقمص دور سحت الليل الذي يستسلم لخرافات وأساطير «رميمينة»؟

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. هنا الرباط بشموخه ورجالاته ونسائه برواده الذين أبلوا البلاء الحسن بكل شهامة وقدسية وحرفية لصنع المادة الإعلامية الوطنية والتربوية والاجتماعية والثقافية والفنية والترفيهية التي تحلقت حولها الأسر المغربية الممتدة دون خوف من إحراج يمكن ان تسببه عبارة طائشة خادشة للحياء بحضور الجد والجدة والأب والأم والأصهار والبنين والببنات . ولكن من ياترى وراء المكرفون وبكل احترام غنه رشيد الصباحي والسيدة ليلى وسي امحمد الجفان ولطيفة القاضي والرائد المرحوم سي محمد بن ددوش وغيرهم ممن أبدعوا في تطوير برامج دار البريهي التي تابعنها بشغف لقربها منا وتنوعها وممعالجتها لاهتمامات الأسر المغربية. غير بعيد عن عاصمة المملكة وبمدينة طنجة عروس الشمال تكتمل السهرة الليلية في ضيافة إذاعة طنجة التي عشنا مع أصوات أسرتها أيام الزمن الجميل لا نشعر بمضي الوقت في متابعة برامجها وفقراتها المنتظمة كل ليلة لحد الإدمان على السهر لمتابعتها لم لا وأنت تستمع لدرر تقدمها أسرة المحطة خالد مشبال .فاطمة عيسى.سعيد كبريت. زهور لغزاوي واخرون قامات في صناعة المادة الإعلامية.يكفينا فخرا بما انجزه الرواد لأن مانعيشه اليوم من تفاهة وسخافة وتطفل لا ترقى أن نضيع عليها صياغة الكلمات والعبارات …..كتبت التعليق بسرعة ودون مراجعة…….. محمد الزاكي – الرباط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى