شوف تشوف

الرئيسية

وثيقتان ليستا مبنيتين للمجهول

أرفق الزميل محمد الصديق معنينو إهداءه لكتابه عن «المجاهد» والده الراحل الحاج أحمد بعبارة رقيقة، تحيل على متعة القراءة. ووجدت أن بعض الكتب ذات النبرة التوثيقية تغري بمعاودة تصفحها، كونها لا تنحصر في إضاءة الماضي، بل تعين على تلمس طريق المستقبل. والأكيد أن التلفزيون اختطف من رحاب الصحافة الرصينة كاتبا متألقا، كان بوسعه أن يثري جنس الكتابة التي تفتح العقول.
اصطفى الصديق معنينو من بين أصعب أجناس البوح سيرة والده الراحل، من دون أن تأسره نزعة الوفاء والتقدير، وإنما تمكنت منه قناعات مبدئية بالكتابة التي تتجاوز الانتساب العائلي والانتماء الحزبي، فحق عليه القول إنه أبدع في الفصل بين الذات والموضوع، وعبد الطريق أمام آخرين يتوفرون على تجارب مماثلة لإغناء الكتابة التاريخية بأسلوب سلس جذاب. ساعده في ذلك أن أستاذ التاريخ الذي كان يشرح الوقائع على الخرائط، ثم ظهر عبر برامج تلفزيونية جدية يبسط حقائق الجغرافية السياسية، ظل وفيا لمهنية التحليل الذي لا يتأثر بالمشاعر.
لئن كان العُقر ممنوعا في الكشف عن حقائق تاريخية وأحداث مفصلية، فليس كل الأبناء الذين ترعرعوا في مدارس نضالية أوفوا الآباء والأجداد حقوقهم. فما كتب هاني أو عبد الواحد عن الأب الزعيم علال الفاسي، وما انبرى ذوو الراحل عبد الله إبراهيم لإضاءة منارات السياسي المفكر.. واكتفى أبناء الزعيم محمد بلحسن الوزاني بطبع أجزاء من كتاباته السياسية، بينما لا يزيد دور بعض المؤسسات التي كرمت جيل الرواد عن تنظيم التظاهرات.. فهل كان كل هؤلاء عازفين عن تسطير سيرهم الذاتية، أم أن تقاليد غير مألوفة تحكمت في النأي بعيدا عن هذا النوع من الكتابة ذات السحر الخاص؟
في أي حال فقد تحمل أبناء مفكرين وأدباء ورجالات سياسة في بلدان أخرى مسؤوليات في إماطة اللثام عما لا يعرفه آخرون عن حياة آبائهم، منهم من انتقدها ومنهم من أفاض في الثناء عليها. لكن معنينو الابن اختار تقديم شهادة تمزج بين الواقع الذي عاشه في كنف أسرة مجاهدة وبين الأسرار التي ضمنها الأب في «مذكراته وذكرياته»، فجاءت أقرب إلى زيارة مباشرة لتاريخ لم يكتب عنه ما يشفي الغليل. لم يبتعد عنه ولم يتوقف عند حرفيته، وراجعه بمنطق الباحث الموضوعي.. ولم يفته طلب العفو إن أخطأ. كما في المقدمة الأصلية التي أشفعها الحاج أحمد معنينو بالقول: «إذا ما كتب علي أن أخطئ، أو أن أسهو. فذلك راجع فقط إلى ضبابية عابرة قد تمس ذاكرتي، أو نسيان قد يطفو فترة وجيزة، فيسبب حذفا غير متعمد ولا مقصود»
لم تتعرض قضية لأصناف من التأويل والقرارات المتباينة، كما في حدث تقديم المطالبة بالاستقلال في الحادي عشر من يناير 1944. وعلى رغم أنها واضحة في ديباجتها وانتماءات الموقعين عليها باسم حزب الاستقلال وشخصيات وطنية، فقد ظلت لفترة طويلة تُقدم مبنية للمجهول، بسبب تأثير الصراعات الحزبية وأنواع الخلافات مع السلطة السياسية، إلى أن استقر القرار على الاحتفاء بها كيوم عيد وطني، ارتبط في الذاكرة النضالية بانتفاضة الشعب المغربي بكافة أطيافه، من دون المتخاذلين ضد الاستعمار الفرنسي.
الصديق معنينو، الكاتب لدى عرضه إلى سياق الوثيقة التاريخية، أزال الالتباس عن وجود وثيقة ثانية لم تنل حظها من المواكبة والاهتمام، وقعها أعضاء بارزون في «الحركة القومية». ويروي في إسناده إلى عبد الهادي بوطالب، أن الملك محمد الخامس سأل الأخير عن سبب إمضاء فصيل «الحركة القومية»، فروى له الظروف التي أحاطت برفض توقيع كل من عبد الهادي بوطالب والمحامي محمد الجناتي بعد محاولات بذلت مع المهدي بن بركة. وتوجه الاثنان إلى منزل الحاج أحمد بلا فريج، من دون أن يفلحا في إدراج اسميهما كفردين أو باسم «الحركة القومية».
الرواية ذاتها تتحدث عن كون الملك محمد الخامس ووجه بأن المقيم العام الفرنسي أبدى اعتراضه على الوثيقة، من منطلق أنها لم تشمل توقيع حزب الحركة القومية. ما حذا بهذا الأخير إلى رفع وثيقة ثانية إلى السلطان محمد الخامس في الثالث عشر من يناير من العام نفسه، وتوجيه نسخة مترجمة عنها إلى الإقامة العامة والبعثات الدبلوماسية في الرباط. وتضيف إلى هذه الوقائع معطيات حول مجالات الصراعات السياسية الدائرة وقتذاك بين فصائل الحركة الوطنية. بيد أن الأساس من وراء نفض الغبار عن هذه الوقائع يكمن في إثارة قضايا سياسية، ستكون لها مضاعفات على المشهد الحزبي في الآتي من الأحداث والتطورات.
ترى لو تم الاتفاق على توقيع كل التيارات، في فترة بداية تحول الحركة الوطنية إلى تيارات حزبية، هل كان المغرب سيعرف نكوصا في تجربته الناشئة وقتذاك؟ أترك الجواب للمؤرخين ورجالات السياسة، علما أن ردود الأفعال القمعية التي استهدفت رواد الحركة الوطنية لم تفرق بين فكر وآخر. لكن الصديق معنينو في رصده لكافة الوقائع يقدم شهادة من مذكرات محمد بلحسن الوزاني، عبارة عن رسالة خطية كتبها الحاج عمر بن عبد الجليل، يبدي فيها أسفه لغياب كل من الزعيمين علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني عن التوقيع على الوثيقة.. لكن روحيهما «كانتا معنا» على اعتبار أنهما كانا في المنفى خلال فترة إعداد الوثيقة والتوقيع عليها.
أكتفي بهذا القدر الذي يسمح به المقام، فالكتاب وثيقة أخرى شاملة، ما أحوج إلى الالتفات إلى مضامينها وأحداثها. وبعد هذا هناك من لا يجد في مسلسلات رمضان وغيرها من توافه المعالجات التلفزيونية غير حشو أدمغة الأجيال بغير ما لا ينفع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى