شوف تشوف

الرئيسيةتعليموطنية

التعدد اللغوي وإكراهات البحث العلمي في الجامعة

تعميقا لسؤال التعدد اللغوي بالمغرب بعوائقه وآفاقه الواعدة، ومخاطره المرتقبة على المدرسة والجامعة، وفي إطار مصادقة المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي على الرؤية الاستراتيجية للإصلاح (2015. 2030)، نشرت دراسة بعنوان: «التعدد اللغوي في الجامعة المغربية: العوائق والآفاق» (2017)، تناولت فيها بالدرس والتحليل التخطيط اللغوي للإصلاح، ونظرة الرؤية الاستراتيجية للتراتبية اللغوية بالمغرب ومسوغات ذلك. وخلصت في هذه الدراسة إلى أن هذه الاستراتيجية إنما تفسح المجال للغات الأجنبية، في مقدمتها اللغة الإنجليزية، على حساب اللغتين الرسميتين للبلاد، وتُبشر بأنها لغة العلم والمعرفة وبالتالي لغة المستقبل المنظور.

 

خبِر الباحث الجامعي، سعيد بنيس، التدريس في الداخل والخارج، وبلغات هوياتية ووظيفية، وهو، في الوقت ذاته، الممارس للبحث العلمي والخائض في إشكالاته، الغيور على حصيلته في الجامعة المغربية، والعارف لإكراهاته وتحدياته الأخلاقية واللغوية. فالأستاذ سعيد بنيس مغربي حتى النخاع («ديما مغرب»)، بل وصاحب مشروع في تشكيل سردية تَمَغْرِبِيتْ والمرافع عنها، ولذلك كان من الطبيعي أن ينسجم ومنطوق دستور 2011، فيدافع عن اللغتين العربية والأمازيغية، باعتبارهما لغتين رسميتين ومدسترتين، وضرورة تفعيل ذلك في المدرسة والجامعة.

غير أن المنطوق غير المنجز، والواقع غير الرغبة، والكائن غير الممكن. فاعتماد اللغتين الرسميتين في المدرسة والجامعة، ومؤسسات الدولة تِباعا، إقرار دستوري، وبالتالي تحصيل حاصل. وتفعيله يضمن نتائج إيجابية، كما قال بنيس، كما «التجربة الصينية واليابانية والكورية والفنلندية»، وقد يمكن اللغتين من صفة الوظيفية «في جميع أسلاك التعليم المغربي، من التعليم الأولي إلى التعليم العالي». وهذه مسلمة ما دامت اللغة، إلى جانب كونها مكونا مركزيا في الهوية، فهي أيضا التي تعلمنا كيف ننتمي إلى جماعة وثقافة وحضارة وننتظم في أفقها.

إلا أن ممارسة البحث العلمي، وضمان إشعاع الجامعة المغربية، يصعب أن يتم باللغة العربية وبالأحرى بالأمازيغية، حتى وإن توفرت الإمكانات المادية، كما في بلدان الخليج، وغيرها، أو توفر ميثاق الأخلاقيات. وعليه، لا مفر من اللجوء، حُبا أو كَرها، إلى اللغة الإنجليزية، حيث تنحصر قائمة شنغهاي، في دوريات معترف بها دوليا، والتي تُنشر بها الأبحاث حصريا باللغة الإنجليزية، كمجلتي «نايتشر» و«ساينس».

لقد أدرك سعيد بنيس ما يجري في مجال البحث العلمي بالجامعة المغربية، وخبِر أسرار معوقاته، وهو واحد من ممارسيه والغيورين عليه. فهو يدرك تمام الإدراك أن لا اللغة العربية ولا الأمازيغية ولا تنويعاتهما اللهجية، بل ولا حتى اللغة الفرنسية نفسها عجزها في المواكبة المعرفية والعلمية والتقنية، وتطوير البحث العلمي وبالتالي ضمان إشعاع الجامعة المغربية وتحسين ترتيبها العالمي. وهو ما أكد عليه سعيد بنيس بوضوح وبخط عريض وتكرار مفيد، وأثبته في مناسبات عديدة وسياقات متنوعة، منها ما ورد في كتابه، تَمَغْرِبِيتْ، وهو يعالج لغات المدرسة، إذ خلص إلى أن «الانتقال من الفرنسية إلى الإنجليزية كأول لغة أجنبية في المدرسة والجامعة المغربية أصبح ضرورة ملحة ومستعجلة».

إن الخروج من وضعية الاحتباس اللغوي والابتعاد عن الفرونكفونية، واعتماد الإنجليزية لغة أجنبية أولى كضرورة وظيفية يستدعي تأمل مثل هذه الاختيارات الكبرى، وتقليب النظر فيها، على أساس استحضار مسوغات ذلك، وبحس تاريخي وأفق مستقبلي. وعليه، فإن تدارك غياب الجامعة المغربية عن التصنيفات العالمية يوجب إعادة تصويب السياسة اللغوية في ما يخص لغة البحث العلمي بالجامعة المغربية. فالخروج من هذه الوضعية وإيجاد حل للاحتباس الجامعي بالمغرب بالخصوص، بما هي قاطرة لأي تنمية مبتغاة، يستدعي، إضافة إلى سن ميثاق لأخلاقيات البحث العلمي والتحفيز المالي على الابتكار، التقرير في قناة لغوية ملائمة تستجيب للمعايير الدولية، وتمكن من التعريف واكتشاف وتصريف المنتوج البحثي المغربي.

وتصريف هذا المنتوج العلمي والاستجابة للمعايير الدولية لا يمكن أن يتم، في المنظور البعيد، سوى عبر قناة لغوية ملائمة ومواكبة هي اللغة الإنجليزية، مع ما يمكن أن ينتج عن ذلك من كلفة مالية وبشرية ضخمة. فالانتماء إلى الفضاء الأنجلوساكسوني ولغته وثقافته وحضارته، وما ينتج عن ذلك من استهلاك تمثلاته للحياة وما بعد الحياة، مع أن في ذلك خرقا صارخا للدستور، وتأكيدا للمفارقة بين منطوقه وممارسة مقتضياته، وقد تكون نتائجه وخيمة على تَمَغْرِبِيتْ نفسها، بل وعاملا من عوامل تدميرها من الداخل، بإفقار الذات والعالم، وتفكيك النسيج المجتمعي. وهو ما يستخلصه سعيد بنكراد بكثير من الحسرة، وعينُه على البلاد المغاربية عموما، والمغرب خصوصا، ومصيرها في تدبير السياسات اللغوية في إفريقيا قائلا: «لقد ظل الأفارقة يتحركون طوال تاريخهم الحديث داخل لغات أجنبية لم تستطع، إلا في النادر من الحالات، استيعاب كامل طاقات الإبداع في أرواحهم. لقد بقوا «خارجها» وخارج ممكناتها في القول الشعري والنثري. لقد وحدتهم سياسيا وربطت تاريخهم بتاريخ المستعمر القديم، ولكنها لم تخلصهم من «هوية قارية» تنتهي في لغتهم عند حدود القبيلة. ووحدها لغة الجسد جمعت بين ما فرقته اللغات واستطاعت أن تسافر بوجدانهم خارج حدودهم وخارج انتماءاتهم القبلية.

فلا يمكن فصل اللسان الأم عن الجسد الحامل له. هناك تراكب مذهل بين لغة رسمية هي الضابط لحدود العقل والتفكير، وهناك لغة إيمائية توحد بينهم وتشدهم إلى محيط ثقافي وطبيعي لم ينفصل عن وجدانهم أبدا، فهم يتكلمون الفرنسية والإنجليزية أو غيرهما، ولكنهم يرقصون جميعا بلغة إفريقية يستطيع الجسد وحده تحديد دلالاتها وتركيبها». وهذا ما يجعل اللغات الأجنبية لغة المستعمر في الغالب، هي البديل الممكن من أجل تنظيم قطاعات المدنية الحديثة بكل واجهاتها السياسية والاقتصادية والعلمية. وهذا الوضع الغريب هو ما يحاول البعض استنساخه في ما تبقى من بلدان إفريقيا، في الدول المغاربية تحديدا، فما لم يتحقق بمنطق التاريخ وقوانينه يمكن أن يفرض بالإرادة السياسية وحدها.

قد تكون اللغات الأجنبية، وفي مقدمتها اللغة الفرنسية والإنجليزية، معبراً للعالمية والتصنيف العالمي، والانتماء إلى المعرفة والمواكبة العلمية، وقد تكون الدوارج، أو رديفات اللغتين العربية والأمازيغية الرسميتين، مما ينعت باللغة المغربية، بما هي أداة للتواصل والاستهلاك اليومي، بها يتسوقون وينكتون وبها ينامون ويستيقظون، سواء كانت من تنويعات الأمازيغية (تشلحيت وتمزيغت وتريفيت)، أو عربية، (الجبلية والمدينية والعروبية والحسانية وغيرها)، لا يمنع من الإقرار بالثنائية اللسانية بالمغرب، هما اللغة العربية واللغة الأمازيغية المعياريتان، دون سواهما. وعليه، فالاستعانة باللغات الأجنبية، فرنسية كانت أو إنجليزية، مطلوب للمواكبة والانفتاح على المتاح البشري، بل وهي وسيلة لتلقيح لغتينا الرسميتين وتأهيلهما، وبالتالي فدعوى التعدد بالمغرب دعوى باطلة ومدخولة لا توجد سوى في أذهان من يجهل حياة اللغات وطريقة تدبيرها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى