شوف تشوف

الرأي

حرية الاعتقاد اعتناقا وتركا

بقلم: خالص جلبي

مقالات ذات صلة

 

في شهر أعياد الميلاد دجنبر 2004م نقلت الأخبار في مصر خبر اعتناق سيدة قبطية الإسلام. ولعل الكثير من المسلمين فرحوا لخبر (هداية الحيارى من النصارى). في الوقت الذي ثارت ثائرة الأقباط وطالبوا بالمعاملة بأقل من المثل، فهم لا يريدون قتل (المرتدة)، بل أن تعود إلى حضيرة الكنيسة فيتلى عليها إنجيل متى ورؤيا يوحنا اللاهوتي ورسالة بولس إلى أهل إفسوس، فلعل هذا الإرشاد الكنسي يعيدها إلى الصواب.

وقصة اختلاف الناس لا نهاية لها تبدأ في الدين الواحد في اختلاف المذهب بين الحنفي والشافعي، والوهابي الجهادي والبكتاشي الصوفي، والسلفي والخلفي في المذهب السني، لتصعد في الدين الواحد من جديد إلى انشقاقات خطيرة في خلاف السني والشيعي والدرزي واليزيدي الذي يعبد الشيطان، ليعتبر البعض أن النسخة العلوية لا يعلى عليها، يسمونهم في سوريا (النصيريون) حتى لايخلط المغاربة بين علويي سوريا والعلويين في المغرب، ويعتبر الدروز (شيوخ العقل) أنهم أهل التوحيد الفعلي، ويرى الشيعة أنهم حملة سر آل البيت والعترة النبوية، ويعتبر السنة أنهم أهل السنة والجماعة، وأن طرق جهنم ثلاث وسبعون كلها إلى النار، إلا من تمسك بمذهبهم واقتدى بهديهم إلى يوم الدين.

ثم يصعد التفرع في شجرة البشرية من الخلاف في الدين الواحد إلى الخلاف بين الديانات بين بوذي ومسلم ومسيحي ويهودي وكونفوشيوسي؛ بل يمضي الخلاف أبعد من هذا ليشكل صدعا بين من يؤمن، أو ملحد لا يؤمن بدين أصلا.

وقصة خلاف البشر العقائدي من أهل الملل والنحل لا نهاية لها منذ أن رصدها «القرافي» في كتابه «الفَرْق بين الفِرَق»، أو من أسس علم الأديان المقارن من علمائنا، مثل الشهرستاني وابن حزم في كتابه «الملل والنحل»، أو ما كتبه أيضا محمد أبو زهرة عن صراع العقائد والمذاهب، «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم».

والمشكلة ليست هنا في اختلاف وجهات النظر، بل (الاقتتال) وقتل بعضهم بعضا من أجل المعتقدات، «ولو شاء ربك ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما يريد».

وحسب ديورانت، المؤرخ الأمريكي، فإن المسيحيين تعرضوا لاضطهاد مريع على يد أباطرة روما، ولكن حين وقعت تفاحة السلطة في أيديهم، أنشؤوا محاكم التفتيش لمدة خمسة قرون، بحيث تبقى حفلات المجالدين في الكولوسيوم نزهة، أمام ما فعله توركيمادا في محاكم التفتيش في المسيحيين قبل المسلمين واليهود.

وعندما اعترضت الملائكة على خلق الإنسان، لم يكن المسوغ أنه يكفر بالرحمن، بل لأنه يسفك الدماء. فقالت: «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء»، فجاء الجواب في ثلاث كلمات: إني أعلم ما لا تعلمون.

وفي يوم تبنت الكنيسة رأي بطليموس في أن الشمس تدور حول الأرض، ولا يوجد في الأناجيل الأربعة ما يدعم هذا الرأي، ولكن الكنيسة حولته إلى (عقيدة Dogma)، فمن خالف كانت النار مثواه.

وحسب تقديرات «فولتير»، فإن مليون امرأة شويت على النار ذات الوقود، لمحض الشبهة. وفي التاريخ الطبي قتلت «أبولونيا» في الإسكندرية على يد الأصوليين في القرن الثالث الميلادي، من أجل رأي قالته، حتى أعادت الكنيسة إليها الاعتبار بعد 13 قرنا، وأصبحت قديسة يتشفع بها الناس من أجل وجع الأسنان.

وكان حرق الناس من أجل معتقداتهم أمرا عاديا في إسبانيا يشرف عليه الملك فيليب في بلدة الوليد، فيسطع الليل بنور هائل من المحارق التي يشوى عليها الناس أحياء مثل الفراريج. حتى أن أحد المحكومين بالنار حرقا توسل للملك أن يقطع رأسه بدل الحرق، فصرخ به: لو كان ولدي مثلك، لما تحرك قلبي رحمة عليه! وكان اعتقادهم الراسخ أن حرق الهراطقة ينجي أرواحهم وينقيها من الأدران.

وقصة التعايش مع الرأي الآخر والسماح للمخالف بالبقاء اعتبرها المؤرخ «توينبي» فضيلة للإسلام. وأحفظ لجودت سعيد جملة قالها عن «محمد شحرور»، صاحب كتاب «الكتاب والقرآن قراءة معاصرة»، الذي أثار ضجة حول مسألة شقوق جسم المرأة (الجيوب)، فقال: «يحق للمخطئ أن يعيش». ومن اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن لم يجتهد ليس له أجر. وحين يقتتل البشر على الأفكار فالقاتل والمقتول في النار.

والغريب أن القرآن يكرر ثلاث حقائق جوهرية بدون ملل، في أكثر من موضع:

أولا: أن من يؤمن ثم يكفر فحكمه إلى الله في الآخرة، ولا يقتل في الدنيا من أجل تغيير رأيه أيا كان.

وثانيا: أن الكون بني على التنوع من البشر والأنعام والجبال والطير والورد.

وثالثا: وهي الأهم في التسلسل المنطقي، أن حرية الاعتقاد مضمونة دخولا وخروجا واعتناقا وتبديلا وتغييرا.

وهناك آية تفيد الكفر ثلاث مرات بين إيمانين بدون قتل صاحبها مرة واحدة، وهو لو قتل من المرة الأولى ما عاش ليكفر ثانية. وهي آية مدهشة في البيان: «إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا»(النساء ـ 137). وعلى العكس نجد آية «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». وبعد أعظم آية في سورة البقرة الكرسي، تأتي آية «لا إكراه في الدين»، وهي تفيد سحب أي فتنة وضغط وإكراه أو ممارسة أي لون من القوة للتحكم في خيارات الإنسان العقائدية، اعتناقا وتركا أو تبديلا وتغييرا.

فمن أين إذن جاء حكم (قتل المرتد؟).

 

نافذة:

قصة خلاف البشر العقائدي من أهل الملل والنحل لا نهاية لها منذ أن رصدها «القرافي» في كتابه «الفَرْق بين الفِرَق» أو من أسس علم الأديان المقارن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى