شوف تشوف

الرأي

مشاريع ربط القارات (2)

بقلم: خالص جلبي

نتابع فكرة ربط القارات، وبالنسبة إلى ربط إفريقيا بآسيا جيبوتي باليمن، من خلال جسر، فهو يخلق تحديا خاصا للمهندسين. فكيف يمكن غرس عمود يغطس في الماء 300 متر ليحمل الجسر، أم كيف ستصعد هذه الأسطوانات الجبارة تخرق الغمام إلى ارتفاع 400 متر في السماء؟ ما هو أعلى بـ170 مترا من أعلى مكان في العالم جسر البوابة الذهبية! وطبعا فإن المشروع سيكلف المال .. المال بوفرة وكثرة.. فالجسر لوحده سيكلف 25 مليار دولار، أما المدن العصرية خالية التلوث فهذه ستلتهم من النفقات لوحدها 175 مليار دولار. وبالنسبة إلى الشيخ طارق فهو سيشارك مبدئيا بعشرة مليارات دولار، أما البقية فستكون باستقطاب رؤوس الأموال من كل فج عميق.. كان من المفروض أن يبدأ المشروع عام 2009 ببناء مصنع أسمنت للانطلاق ومجمع سفن في جيبوتي، وحتى عام 2025 م ستنشأ مدن جميلة في الشاطئين، وفي اليمن لوحدها ستقوم مدينة بتعداد سكان يصل إلى 4.5 ملايين نسمة. مع هذا فالمشروع لا يخلو من المخاطرة، فالمنطقة مولعة سياسيا وخطف السفن تلك، التي قام بها قراصنة من الصومال لسفينة أوكرانية كانت تنقل السلاح إلى الأفارقة المساكين، لينحر بعضهم بعضا سمعنا بها.. ولكن دوما كانت الأفكار الجريئة تقاوم ويسخر منها الناس حتى إذا استوت على سوقها، قالوا ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم. والأفكار الجريئة عديدة ومنها مشروع ربط أوربا بأمريكا ما عرف بمشروع قطار الأطلسي.

قطار الأطلسي العائم الغائص
القطارات تمشي في العادة على عجلات وفوق الأرض، ولكن المهندسين اليوم يفكرون ببناء سكة حديد يطير فوقها قطار بدون عجلات بقوة المغناطيس، في عباب البحر الهائج من خلال نفق يجتاز المحيط الأطلسي لمسافة 5000 كلم، يسير بسرعة 8000 كلم في الساعة، ما هو أسرع من القطار المغناطيسي في اليابان بعشرين مرة، ومن طائرة الكونكورد بثلاث مرات، ويقطع المحيط بـأقل من ساعة، وهو ما يحتاجه المسافر من بيته في نيويورك لبلوغ المطار في ساعة الذروة. وأول من فكر على هذه الصورة الجريئة (جول فيرن) عام 1895 م، صاحب قصص الخيال العلمي، فكتب قصصا عن الغواصات قبل اختراعها في قصة «عشرون ألف فرسخ تحت الماء»، التي مثلها كيرك دوغلاس في فيلم من إنتاج هوليوود في الستينات.
والسفر إلى مركز الأرض وهو ما أنتجته هوليوود في عام 2004، بعنوان «لب الأرض The Core». وقد تصور جول فيرن قطارا يمشي على البخار بسرعة 1600 كلم في الساعة. أما (هاري هاريسون)، صاحب كتب الخيال العلمي، فقد تنبأ عام 1972م بنفق من هذا النوع يجتاز الأطلنطي. وها نحن شهود فكرة هذا النفق الذي صورته قناة الديسكفري بشكل تفصيلي أخاذ، والذي قد ينتهي مع نهاية القرن الحادي والعشرين. وبناء أنفاق تحت البحار ليس أمرا جديدا، ونحن نعلم اليوم أن نفق (المانش) الذي ينقل ستة ملايين مسافر في السنة، تم تنفيذه على مدى ثلاث سنوات، بواسطة حفارتين تلتهم كل واحدة جدارا من الأرض بعرض 15 مترا، وتحت سطح البحر بحوالي 60 مترا، من كالييه بفرنسا والساحل البريطاني، بحيث اجتمعت الحفارتان على بعد بضعة مليمترات عام 1987م. ولكن حفارات من هذا النوع لنفق تحت الأرض عبر الأطلنطي يحتاج إلى جهد ثلاثة قرون، لأن عرض المانش 50 كيلومترا، وعرض الأطلنطي خمسة آلاف كيلومتر. وتذهب التوقعات أن تكون كلفة هذا النفق 12 تريليون دولار، يستهلك فيه خلال ذلك كل فولاذ العالم، من مصانع العالم أجمعين لمدة سنة كاملة.
والفكرة الأولى في هذا النفق الحديدي كانت من أين يبدأ؟ وأين ينتهي على سطح الخريطة؟ وكان الأقرب أن يبدأ وينتهي على شكل قوس، يبدأ من جزيرة (فاوند لاند) في كندا، ليمر عبر غرينلاند، ثم آيسلند لينتهي في النرويج واسكتلندا، ثم يتابع طريقه إلى لندن وباريس. ولكن ظروف العمل في الشمال البارد تجعله مستحيلا، لذا تم اختيار الطريق الطبيعية بين لندن ونيويورك. هذا من ناحية الربط السطحي، أما من ناحية العمق فكيف يوضع وأين؟ هل سيكون تحت أرض البحر مثل نفق المانش، أم يمر في خندق على أرض المحيط بعمق الكيلومترات، أم سيكون معلقا في الماء؟ وإذا كان كذلك فكم سيكون العمق؟
وكانت الفكرة الأولى تحت الأرض كما حصل مع نفق المانش، أو نفق خليج سان فرانسيسكو، الذي انتهى عام 1960م، وبطول 5 كيلومترات، وبعمق 80 مترا تحت سطح البحر. وتمت صناعته من أنابيب عملاقة مسبقة الصنع، بطول 200 متر للأنبوب الواحد وبقطر 15 مترا، حيث غطست كلها، وأجلست على أرض البحر، واحتاجت إلى 57 قطعة مسبقة الصنع، وهي المعروفة باسم مشروع (بارت)، وهي اختصار من كلمات نقل الخليج السريع. ولكن مشروعنا الحالي يعادل ألف ضعف من مشروع بارت! وإذا عرفنا أن كلفة مد كيلومتر من هذا النوع من الأنفاق ستة مليارات دولار؛ فإن نفق الأطلنطي سيبلغ رقما فلكيا، تعجز عنه دول الأرض جمعاء. لأنه سيصل إلى حاصل ضرب خمسة آلاف بستة مليارات؛ فيكون الحاصل 30 ألف مليار أو 30 تريليون دولار.
فهل توازي هذه التكلفة مردود بناء مثل هذا النفق الذي لا يقترب منه بناء كل الأهرامات، أو كل سدود العالم؟ والجواب كان في سرعته التي ستصل بين أمريكا وأوربا وكأنها أرض واحدة. وتقف العديد من العقبات في وجه مشروع الماموت هذا، وأولها العمق السحيق في عمق الأطلنطي، وفي بعض الأمكنة يصل عمق البحر إلى 8 كيلومترات، وليست أرضه مسطحة مستوية، بل تحتوي على العديد من الجبال والتضاريس المنوعة، مما يجعل العمل في حكم المستحيل، حيث الضغط في العمق 500 مرة، عما هو عليه على سطح الأرض، ما يعادل وزن «بوينغ 747» وضعت على أنش واحد. يضاف إلى ذلك أن بعض مناطق المحيط ترتج فيها الأرض بمعدل خمسة زلازل في اليوم الواحد؛ مما جعل هذه الخيارات خارج نطاق التفكير والعمل فاستبعدت، سواء في وضع نفق القطار على سطح أرض البحر أو تحته كما في نفق المانش. ثم فكر المهندسون بفكرة جريئة هي نموذج النفق (العائم الغاطس)، حيث يتمايل مثل البندول على صورة مقلوبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى