شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

مياه المدينة العتيقة.. العامل الأساسي في صياغة هوية فاس

الكتاب «لو تكلمت حيطان فاس-14- نعيمة برادة كنون

 لا يمكن أن أستعيد تفاصيل المدينة العتيقة دون أن أتوقف مليا عند صانعها وصاحب نعمتها الأبَر، وادي فاس (وادي الجواهر). كانت العديد من المجاري المائية الجوفية والسطحية تخترق مدينة فاس، حتى أن روافد الوادي كانت تمد كل أحياء المدينة تقريبا. ولقد كان العامل الأساسي في صياغة هوية فاس هو، بلا أي شك، هذا الوادي الذي يخترقها. إن التحكم في الموارد المائية واستغلالها، كان دائما ما يكمن خلف توسعها، ويلقي الضوء على وقائع ومجريات الحياة فيها.

خالد فتحي نعيمة برادة كنون

مقالات ذات صلة

تخبر الإيسطوغرافيا الكلاسيكية أن مؤسس المدينة الأول، مولاي إدريس، كان قد اشترى كل حقوق استغلال مياه وادي فاس، تحسبا لأي محاولة للتحويل من طرف القرى الواقعة على أطراف المنبع. وحيث إن، مصير هذه المدينة مرتبط بواديها، فقد كانت كل ضفة من المدينة ملزمة بتطويع تدفق الماء ومجراه، بما يتناسب مع عدد السكان ومتطلباتهم.

 

حرفيون من قرطبة

وقتئذ، كانت الهياكل الأساسية لشبكة المياه في فاس تغذي مجموع مرافق المدينة والعديد من أنشطة الصناعة التقليدية. لكن تشييد هذه البنيات التحتية كان يحتاج إلى مهارات كبيرة، تُحسِن توظيف واستغلال تلك الظروف الميسرة التي كان يتيحها الوسط الطبيعي.

وبلا ريب، فإن ذلك ما كان قد دفع بالمرابطين إلى الاستعانة بالعديد من الحرفيين الذين تم جلبهم من قرطبة. ولعل حرفة «القوادسية» – وهم تقنيون مكلفون بخطوط أنابيب المياه – قد نشأت في هذه الظروف، وفي ظل هذه الاحتياجات، لضمان السير الجيد للشبكة المائية بالمدينة. ولذلك، ظلت فاس على مدى مائة واثنتي عشرة سنة، مدينة تستقر فوق الماء، مدينة أشبه ما تكون بمدينة البندقية. فقد كانت منابعها المائية، التي تتدفق في كل أرجاء المدينة، تدير مئات المطاحن فيها، وتورد الماء لنوافيرها العمومية والخاصة. حتى لأنه يمكننا القول دون مجازفة، إنه ما كان لهذه المدينة الروحية أن تظهر للوجود، ولا أن تحقق كل ذاك الإشعاع العالمي الذي حققت، لولا واديها الشهير ومنابعها المائية. ولم تنحصر أفضال هذا الوادي وشعابه على فاس في تيسير استقرار السكان فحسب، ولكن أيضا في ترسيم طرقها وتطوير أنشطتها وإنماء حدائقها وبساتينها الجميلة (العرصات والجنانات).

وهذه الحدائق اليانعة لم تكن بمثابة رئة لمدينة فاس فحسب، ولكنها أمدت أهل المدينة بالفواكه والخضروات الطبيعية التي لطالما أضفت مذاقاتها، وأشكالها، وروائحها، نكهة خاصة على الموائد الفاسية. ولا أنفك أتذكر كيف كان الباعة المتجولون يعرضونها منضدة على شكل تلال صغيرة توحي بوفرة المنتوج. أما اليوم، فقد باتت العديد من الحدائق، التي كانت تحيط بالمدينة، كتلا من الإسمنت. وإذا كانت بعض المطاحن والنوافير قد اندرست آثارها – في الوقت الحاضر – بسبب أشغال إعادة التهيئة، فإن ذلك لا ينبغي أن يجعلنا نغض الطرف عن تاريخها ودورها المائي المجيد.

من منا لا يتذكر «النزاهة» (جولات التنزه والاستجمام) على ضفافها الجميلة وروافدها الرائقة؟

في فصل الربيع، كانت العائلات تغادر بيوتها اللطيفة وترتمي في أحضان الخضرة البهية، تتأمل عظمة الطبيعة، حيث كان يستلقي وادي فاس العظيم… الواد الذي وهبنا مدينة فاس والذي هو بالتأكيد مَعْلَمٌ من معالمها التي لا محيد عنها. كانت الأجواء الرطبة الغنّاء على ضفاف الوادي تَحُثُّ الفاسيين، بمن فيهم أولئك الأكثر لزوما لبيوتهم، على الخروج من دائرة السكون والراحة الوثيرة، للاستمتاع بالطبيعة الجميلة السخية وبمشاهدها المهيبة. وحينما كانت حرارة فاس الحارقة تشتد وتجتاح المدينة، كان الأطفال يكرعون من المنابع – برؤوسهم الصغيرة التي تمتد إلى المياه العذبة الناعمة – فيبلون عطشهم. ثم مَنْ مِنْ أولئك الأطفال، إناثا وذكورا، لم يخض هذه التجربة المثيرة؟ أما نحن الفتيات فلم يكن من حقنا، بكل تأكيد، أن نستحم في النهر بصورة مباشرة، لذلك كنا ننتحي جانبا، بكل وقار، نحو الأحواض المائية في نوافيرنا العائلية.

ولعلنا لم ندرك أن لعبنا الطفولي كان يقرن، بدون وعي ربما، الممتع بالمفيد. كنا نحرك، في بعض الأحيان، أيدينا داخل تلك الأحواض المائية فنرش بعضنا البعض، ونلقي بدلائنا الصغيرة، في أحيان أخرى، نغرف الماء ونهرقه في كل الفناء المرصوف.

وقد كنا نقلد أمهاتنا اللواتي كان ديدنهن اليومي تنظيف ذلك الفناء، وقد شمرن عن السواعد ومشين حافيات الأقدام على البلاط الذي تزينه فسيفساء دائمة اللمعان من أثر التنظيف المستمر.

في ذلك الزمن، لم نكن بحاجة إلى مواد التنظيف الاصطناعية، كانت وصفتنا فعالة بصورة كبيرة، الصابون الطبيعي ممزوجا بالماء المجاني، الذي نغرفه من الفتحات المنجزة، لتسهيل حركة ماء الوادي أو النوافير أو الآبار!

 

«هيئة القوادسية»

من الناحية الإجرائية، كانت كل المنازل القديمة تقريبا تغنم هذه الفرصة المتاحة، وذلك بفضل منظومة إرساء خطوط الأنابيب المُعْتنى بها بشكل جيد، أعني «هيئة القوادسية»، وهم الحرفيون ذوو الاختصاص. وهكذا، ما أن ينخفض منسوب المياه حتى يسارع هؤلاء التقنيون إلى المنبع، لتنقية المصب من العوالق المتراكمة.

كانت هذه المياه السخية تُمنح، بلا عناء، إلى الجيران لاستخدامها في غسل الملابس أو الصوف الذي كان يشيع استعماله في نسيج مفارش الصالونات والأسِرَّة. ولقد كانت هذه المياه المباركة العريقة، بفضل منظومة هيدروليكية عبقرية، بمثابة ضيف الشرف الجدير بكل العناية والاعتبار.

أتذكر العناية الكبرى التي كان جدنا يحيط بها هذه المادة الحيوية، حتى إني لأشعر أنه لم يكن ليستطيع أبدا الاستغناء عن تدفقها الهادئ وجريانها الناعم وخريرها ذي النغمة الموسيقية. لقد عشت مع جدي تجربة عصية على النسيان. فحين كان يلاحظ أن الماء يكاد يجف في النوافير، كان يطلب من أطفال المنزل العائلي المشاركة في إعادة الماء إلى مجراه. كانت هذه الغاية النبيلة تستحق كل ذاك العناء حقا: يتنقل جدي إلى النبع، البعيد قليلا عن منزلنا، من أجل تنقيته واستعادة المنسوب الطبيعي لتدفق المياه، ولم يكن هذا الجد رحمه الله ينسى أن يصطحب معه لوازم العمل: القصب ونشارة الخشب. وقد كنا، ونحن أطفال صغار، نتخذ مكاننا قبالة السقاية، وهي نافورة صغيرة في مدخل البيت، في انتظار المياه المخلوطة بنشارة الخشب وكأننا ننتظر قدوم «الضيف الكبير». وبتوصية من الجد، كنا نخطره بوصول تلك النشارة، صارخين بكل ما أوتيته أصواتنا الطفولية من جهد: «وصل.. كل شيء على ما يرام». ومن الطريف أن هذه الطريقة، التي تستعمل كذلك في الحمامات لطلب المزيد من المياه الساخنة، كانت شكلا من أشكال «الاتصال اللاسلكي!».

 

تدريب عملي لاكتشاف قيمة الماء

كانت العودة المظفرة لجدنا، الذي يسارع إلى مكافأتنا بابتسامة عريضة وفلس مُستدير، تغمرنا سعادة وحبورا. كان يخبرنا أن جهوده في صيانة خطوط الأنابيب قد شملت فوائدها كل المنازل بحينا. وقد كان ذلك مثار سعادتي وفخري، لدرجة أن جدي كان يستحيل في نظري إلى بطل مغوار لا يشق له غبار. كنا فوق ذلك نستشعر الأهمية الحيوية للماء الذي هو ضروري لنا في كل شيء، بما في ذلك ما يتصل بطرائق تسليتنا وترفيهنا!

واليوم، أدركت لِمَ كنا نخصص لجدي ذلك الاستقبال الودود مثل أي ضيف اعتباري مرموق، إذ كنا نزخرف النوافير الخاصة والعامة على السواء، بل إن مواعين غسل الأيادي بدورها كانت تنال حظها من التزيين، احتفاء بالمقدم السعيد للجد الكريم.

غير أن فزعا غريبا كان يجتاحني، إذا حدث أن مررتُ – عابرةً – على تلك الفتحات المعدة لتصريف النفايات، وكانت منتشرة في كل أنحاء المدينة تقريبا. وقد كنت أعرف، على وجه الدقة، تلك الموجودة في «كرنيز» و«عين علو». ولم أكن لأمنع نفسي من إلقاء نظرة على منسوب التدفق السريع للمياه، وهي تسحب نفايات الحي. غير أن الجلبة التي كان يحدثها الماء المصطخب لم تحل بيني وبين الانجذاب إلى تلك الرغوة البيضاء المتراكمة مثل الثلوج، برغم الروائح الكريهة المنبعثة!

كان على الحمير المسكينة أن تكدح طويلا، بسبب الكم الهائل من النفايات التي توضع على ظهورها كل يوم! ولو أن الممثلة «بريجيت باردو» كانت قد صادفتهم، فربما كانت قد شنت حملة ضد سوء معاملة هذه البهائم التي كانت تقاد داخل الأزقة بحزم وهمة مبالغ فيهما. لعل شقاء تلك الحيوانات اللطيفة، التي تواصلتُ معها كثيرا في ذلك الزمن الغابر، هو ما جعلني أحبها، بل وأواظب إلى اليوم على مساعدة مالكيها على الاعتناء بها.

لكن السر المكنون لوادي الجواهر، كما كنا نسميه قديما، كان يكمن في روافده الكثيرة المتدفقة في أرجاء مدينتنا، وهي تشرع الأيادي لتعانقنا جميعا، صغارا وكبارا.

وإني لأذكر اليوم ذلك الجوار الجميل بين الوادي وثانويتنا «أم البنين». ولطالما كنت أخفف الوطء ساعةَ الخروج محدقةً في النهر الوديع، وقد التف على مؤسستنا. كان النهر يمتلئ حتى يفيض على ضفتيه في موسم تساقط الأمطار، لكنه كان لا يلبث يتذكر مجراه فيعود إلى سيرته الأولى كما كان. أما في غيره من المواسم، فإن الألوان المسكوبة على اللوحة الطبيعية للمياه كانت لا تنفك تتبدل وتتحول، باعثة في نفوسنا الفرحة والبهجة، علاوة على ذلك كانت المياه المنسابة تعزف سيمفونيات أخرى مغايرة تشنف أسماعنا.

كانت صخور الوادي الكبيرة المتلألئة التي تلتمع مشرقةً، وجداوله التي تصل إلى حدود ثانويتنا تمنحنا بهجة رؤية تلك الضفادع الصغيرة السابحة، التي كنا نعبث بها كما يحلو لمخيلاتنا الطفولية. ولكننا لم نكن لنتجرأ على كبرى الضفادع، فقد كان خيالنا الجامح يثير المخاوف في نفوسنا منها، نظرا إلى ما كان يتناقله الأطفال عنها من حكايات غرائبية. والحق أن ذاكرتي ما زالت تحفظ صور تلك الآبار الكثيرة المنتشرة على مدى المدينة ومنافذ المياه التي تهمس، دون صخب، في طريقها إلى الأفواه العطشى، من قبيل تلك التي كانت لصيقة بـ«باب لوفا»، أحد أجمل الأبواب في ضريح مولاي إدريس. ولَكَم كان يبهرني أيضا منظر مضخات المياه المعدة للوضوء وهي بارزة على جدران الضريح، مزينة ومزخرفة كأجمل ما يكون التزيين والزخرفة.

وكنت، وأنا في سنوات الطفولة الأولى، أستمتع بتقليد الرجال أثناء الوضوء، فإذا الماء البارد ينعشني، وإذا السكينة تغشاني. لكن مرور الزمن ومغادرتي باحة الطفولة، حالا بيني وبين هذا المكان المقصور حصرا على الرجال.

كم كانت المدينة العتيقة تبدو وقتذاك عامرة بآبار المياه الخاصة والعمومية! وعلى العادة الجارية، كان يتدلى في كل بئر دلو معقود إلى حبل يلقى به إلى القعر البعيد لغرف المياه. ولعله من العجبٍ العجاب أننا معشر الأطفال، كنا نجد في كل وقت وحين من يسعفنا في السِّقاية. وكان يحدث لي أن أتوقف هنيهات، بلا أية رغبة في الشرب أحيانا، كي أراقب كيف يُسحب الماء العذب النقي من جوف البئر في حي عين علو. ومثلي كان يتوقف عديد الصبيان من أقراني، ليتابعوا بعين الإعجاب هذا المنظر البديع! لا أنسى كيف كان يسود الصمت، ونحن نراقب صعود الحبل البطيء، حتى يتبدى الدلو، ويرتج الماء على محيطه فيندلق… ومعه تنطلق صيحاتنا تطلب رشفة باردة منعشة.

لم يكن لي أن أمنع نفسي من الانضمام إليهم بدافع  من الرغبة في المحاكاة، لأطالب بحصتي من هذا المشروب السحري .

 

واقع مزر للمنظومة المائية

أستطيع أن أفهم الآن، لماذا ردد المغنون، وأنشد الشعراء قصائد غزل تغنوا فيها بجمال مياه الأنهار وفضائلها على الناس. لكني، وللأسف الشديد، أسجل أنه لم تتبق لنا من وادينا الجميل، إلا محض ذكريات جميلة. إنه ليحز في النفس حقا أن واد فاس الشهير منذ الأزمنة السحرية تلوث وعومل معاملة سيئة من طرف أبنائه، الذين تنكروا له بعد أن أحسن إليهم. حتى أغلب نافوراتنا لم تسلم من هذا العقوق، ولاقت بدورها  المصير نفسه، بعد أن جفت مياهها وانمحت زينتها. لم تتراجع العديد من روافد الوادي احتجاجا على سوء المعاملة ذاك فقط، وإنما صرنا لا نرى أيضا تلك المشاهد الرائعة حين تتجمع سيوله ونتلاقى.

لحسن الحظ أن ثمار عملية التأهيل التي استهدفت أيضا هذه النافورات بدأت تظهر للعيان، معيدة للمدينة العتيقة سمتها وروحها الخالدة. ما زال واد فاس يجري هادئا زارعا الحياة على ضفتيه، ولازلنا نحن الأوفياء له نتذكر كرمه وولاءه لفاس عبر رافده الذي يمر بالرصيف، كأنه يطمئننا بأنه من الممكن إنقاذه. إنه الوادي الذي يمتلك من الشجاعة ومن الرغبة في الحياة ما يجبرنا على أن نهيم دائما في حبه، ساعين دوما إلى التقدم في شأن عملية إحيائه وبعثه من جديد.

واليوم، ولت تلك الأيام الخوالي وانقضت. ولم تتبق منها سوى ظلال الذكريات الموغلة في ماضينا البعيد. في هذا لا يمكننا أن ننسى الاعتراف بموهبة الابتكار، التي أبان عنها تقنيون عباقرة، كان آخرهم المرحوم التهامي لقوادسي، أحد ألمع المختصين في إصلاح أنظمة القنوات.

نعم، صار نهر «واد رشاشا»، الذي كان يحرك طاحونة حينا ويغذي النافورة، أثرا بعد عين. لكن صورته ستظل موشومة في ذاكرتي. ولقد وددت لو أقيمت لوحة تذكارية حيث كانت الطاحونة.. لعلها تعيد الوادي إلى مجراه.. في ذاكرتنا على الأقل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى