
يونس جنوحي
في الوقت الذي كان الريسوني يشرح فيه فلسفته في الحياة، كنا واقفين خارج باب المنزل المخصص للضيوف، حتى يهب علينا نسيم المساء البارد. وفجأة أشار إلينا الشريف لكي نتبعه إلى الداخل. كان ظل المساء قد بدأ يلقي ظلاله على الجدران البيضاء في الداخل.
تقدمنا الريسوني، ببلغته الصفراء التي كانت بدون كعب.. لم تكن تترك أي أثر فوق الممشى. بينما كانت أحذيتنا العالية المخصصة أساسا لركوب الخيل، تترك أثرا واضحا أينما سلكنا. توقف الشريف وأشار بأصبعه إلى الأرض التي عبرناها للتو، وقال:
–«هذه الطريق تشبه بلدنا المغرب. لا يمكنك أبدا رؤية «أثر» الإسلام، لأنه يستجيب لحاجيات البلد. لكن أنتم، أينما توجهتم، تتركون وراءكم الأثر، لأن طريقكم ليست طريقنا أبدا».
اعترضتُ وأشرتُ إلى أن للحضارة فوائد كثيرة وظاهرة. فأجابني:
«-أنتم تعطون الرجل الأمان. لكنكم تنزعون منه الأمل. في الماضي، كان كل شيء ممكنا. لم تكن هناك حدود أبدا لما يمكن أن يحققه أحدنا. العبدُ يمكن أن يصبح وزيرا أو جنرالا. والكاتب قد يصير سلطانا. أما الآن، فإن حياة الشخص عندكم آمنة، لكنه سوف يبقى مقيدا إلى الأبد عمله وفقره».
سألتُه:
«-ماذا بخصوص الأطباء؟».
ساد صمت مدده استسلامي إلى بعض التأملات، إلى أن قال الريسوني:
«-إنهم الطريقة التي سوف تحتل بها إسبانيا بلادنا. لدينا أطباؤنا المحليون. إنهم يذهبون إلى مكان الحريم عندما تكون المرأة في وضعية الولادة. وأعرف أحد الشرفاء، وهو صديق لي، استعاد بصره بعد ست سنوات من الظلام، بفضل عملية جراحية. إن منح النور بدل منح الظلام معجزة حقا».
تمدد الشريف فوق الفراش الوثير، وجلس:
«أنا نفسي أزلتُ ضرسا على يد أحد أطبائكم. كان هذا الطبيب ينوي رمي الضرس بعيدا، لكن خدمي تدخلوا وأخذوها منه. كانت ضرسا مخرومة ومتهالكة، لذلك استطاعوا تقسيمها بينهم بسهولة إلى أجزاء صغيرة، واحتفظ كل واحد منهم بجزء معه، لكي تحل عليهم البركة».
الريسوني محاط بمجموعة من الرجال المخلصين. رجال كانوا يشبهون الطلبة أكثر مما يشبهون الخدم. كانوا يتمسكون بكلماته وتوجيهاته ويتبعونه مثل الكلاب. وينظرون إليه بتعابير حائرة ومتوسلة تماما مثلما ينظر الكلب إلى سيده دون أن يفهم ماذا يفعل.
ثلاثة منهم يتذوقون كل طبق قبل أن يأكله الريسوني، وآخرون ينامون أمام باب غرفته. إنهم ينظرون إليه بطريقة محرمة في الإسلام، بحكم أن الدين الإسلامي يحرم عبادة الأولياء. لا يُرمى أبدا أي طعام سبق للشريف أن لمسه. إذ يفترض أن تكون في الطعام فوائد علاجية، وتدفع القرى المجاورة مبالغ كبيرة مقابل الحصول على امتياز تناول قدر قليل من بقايا القشور الجافة أو مص العظام التي أكل منها الريسوني اللحم.
يتحدث الريسوني وهو يحدق في الفراغ أمامه:
«لقد حكمت طنجة ونواحيها لمدة طويلة. لكن الأوربيين كانوا يشتكون من سلطتي. لقد أحللت الأمن والسلام في البلاد، لكنهم كانوا يخافون من الدم القليل الذي يراق في السوق، أو الرؤوس القليلة التي علقت فوق الأسوار. وهكذا كتب سياسيو طنجة إلى السلطان مولاي عبد العزيز على أمل أن يحقق طلباتهم. لأنه لم يكن يعرف أي طريق يسلك لكي يحصل على المال. وأرسل جيشا لمواجهتي بقيادة «با حامد الخرگي». كنتُ وقتها في منزلي في بني مسوار. وأرسل إلي «با حامد» رسله ليقولوا لي:
-لقد وصلنا إلى المكان الفلاني.. وأريد التحدث معك.
فأجبته:
-إذا جئت هنا وحدك، فسوف أستقبلك، على الرأس والعين، وسوف تكون في أمان.
وهكذا جاء عندي في المساء، وقد بدأ الظلام في النزول. وحياني قائلا:
-السلام عليكم يا أخي.
فأدركت أنه جاء ليضع الشروط.
أكلنا لحم الخراف المشوي، ثم قال لي:
-سيكون مؤسفا أن تحدث معركة بيننا، لأننا معا سوف نخسر الكثير من الرجال. كم رجلا من رجالي تعتقد أنك سوف تقتلهم في الجبال؟
فأجبته:
-بضع مئات. لأننا سوف نكون كالأعمى عندما يحارب أناسا يستطيعون الإبصار.
-وكم تعتقد، يا سيدي، أنه يتوجب علينا قتلهم من رجالك؟ إذ من الأكيد أن قليلين منهم فقط سوف يُقتلون.
قلتُ له:
-خمسون، أو ستون ربما. إذا كان هناك قتال كبير.
فأجاب في الأخير:
-وكم تساوي عندك حياة رجل يا سيدي؟
وقتها أدركتُ إلى ماذا كان يرمي، وتم ترتيب الأمر. دفعتُ له الدية عن كل رجل، ووافق على ألا تتجاوز قواته مكانا معينا. وبهذه الطريقة حل السلام».





