حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

تاريخ ملتمس الرقابة وُضع في مناسبتين وكواليسه جمعت الغموض مع الإثارة

يونس جنوحي

 

«الأولى كانت سنة 1964 والثانية سنة 1990. سياقان مختلفان مشتبهان، لا تتضح معالمهما إلا لتتشابك مجددا.

هل كان ملتمس الرقابة إجراء ناجعا، في أي مرحلة من المراحل السياسية التي عرفها المغرب؟

ثم إن بعض الذين رفعوا عَلم ملتمس الرقابة، اعترفوا لاحقا بأن ظروف المعارضة كانت تتطلب سلوك هذا الإجراء الدستوري، واتضح لهم لاحقا أن عرقلة حكومة من حكومات المغرب منذ استقلال البلاد سنة 1956، لم يكن سوى تمديدا في عمر الأزمات السياسية والاقتصادية التي عرفتها البلاد.. ماذا وقع إذن؟».

 

++++++++++++++++++++++++++

 

هل ندمت المعارضة على أول ملتمس للرقابة في المغرب؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، يتوجب أولا أن نضع الأحداث في سياقها.

أول ملتمس للرقابة في تاريخ المغرب كان في سنة 1964، والثاني في سنة 1990.

لكن المناسبتين معا، لم يكن بينهما رابط سوى «المعارضة». فقد كانت الأسباب، والسياق أيضا، مختلفين.

في سنة 1964، كانت هناك مواجهات في البرلمان بين مكونات الأغلبية، التي اتُهمت بالقرب من القصر و«الإقطاعية»، ومكونات المعارضة، خصوصا المعارضة الاتحادية.

هذه الاتهامات وصلت حد تخوين بعض الوزراء في الحكومة، والضرب في وطنيتهم.

وهؤلاء بدورهم سقطوا في المحظور، وبلغ بهم الأمر حد اتهام المعارضة بالتخطيط للانقلاب وإزالة الملكية.

عبر الملك الراحل الحسن الثاني في أكثر من مناسبة عن عدم رضاه عن أداء البرلمان، حتى قبل فرض حالة الاستثناء سنة 1965.

لكن سياق ملتمس الرقابة لسنة 1964، بدأ أولا بمحاولة سلك المسطرة القانونية لوضع حد لتجربة حكومة الوزير الأول باحنيني.

أحد الذين تناولوا موضوع ملتمس الرقابة، وكانوا قريبين من تداعياته، هو الوزير والدبلوماسي عبد الهادي بوطالب، الذي أصبح في ما بعد مستشارا ملكيا.

فقد كانت تجربته في الوزارة عندما وضع ملتمس الرقابة، وقربه من المعارضة بحكم مشاركته عن قرب في تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية قبل انسحابه منه، كفيلين بجعله يفهم «سوء الفهم» الكبير بين المعارضة، ومكونات الحكومة الذين كانوا من أصدقاء بوطالب، خارج الحكومة والعمل السياسي.

عبد الهادي بوطالب اعتبر في مذكراته التي وثق فيها لعقود من السياسة، أن ملتمس الرقابة كان أداة استُعملت بشكل سيئ لتصفية الحسابات السياسية. ورغم أن التفعيل كان بعيد المنال، بحكم الواقع السياسي المغربي وقتها، إلا أنه ساهم في التعجيل بفرض حالة الاستثناء وإيقاف عمل البرلمان وولجانه.

ووقتها فقط فهم الاتحاديون أن الدولة لم تكن ترغب في أن يستمر التلاسن وتبادل الاتهامات بين المعارضة والحكومة، سيما وأنها جنحت في مناسبات كثيرة عن المعقول.

ضاعت على المغرب إذن خمس سنوات، بسبب حالة الاستثناء. ورغم أن الملك الراحل الحسن الثاني عين حكومة جديدة سنة 1970 في محاولة لتجاوز جمود ما قبل مرحلة الاستثناء، إلا أن الواقع السياسي المغربي استمر في التأرجح، بسبب ضياع فرص كثيرة، واتهام المعارضة للحكومة بتزوير الانتخابات. وهو المسلسل الذي استمر إلى أن جاءت محطة 1998، التي أعلن فيها الملك الراحل الحسن الثاني عن ميلاد حكومة التناوب.

يجمع قدماء الاتحاديين على أن المعارضة ارتكبت عدة أخطاء، وأن تلك الأخطاء، خصوصا في زمن المعارضة التي تطورت إلى حد التخطيط لقلب النظام والانتقال إلى العمل المسلح، كلفت المغرب سنوات طويلة كان يمكن أن تتدارك فيها الدولة الكثير من النقاط.

 

 

هل كانت المعارضة تخطط لحملة تطهيرية سنتي 1964 و1990؟

ربما لم يكن أعضاء حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومعهم برلمانيو حزب الاستقلال الذين حازوا على مقاعد مريحة، بفضل شعبية الحزب الكبيرة سنة 1963، يتصورون أن العمل البرلماني في أول برلمان مغربي بعد الاستقلال، سيكون بالصعوبة التي كان عليها.

كانوا يتصورون أن اكتساح الانتخابات، سوف يمنحهم أغلبية مريحة. لكن الواقع أن هناك شخصا اسمه أحمد رضا اكديرة، كان بدوره يحمل مشروعا سياسيا مغايرا تماما لمشروع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.

في ضفة كان هناك مريدو علال الفاسي وأحمد بلافريج والمهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد – لم يكن أغلب المتحمسين للسياسة يفرقون بين هذه الأسماء حتى بعد انشقاق 1959- وفي ضفة أخرى، كان هناك متحمسون لأحمد رضا اكديرة ومن معه، أمثال حدو الشيكر وأسماء أخرى كانت معروفة بقربها من الملك الراحل الحسن الثاني، واشتغالها إلى جانب الملك الراحل محمد الخامس.

عندما بدأ البرلمان المغربي أولى جلساته، وكان وقتها يسيره الدكتور عبد الكريم الخطيب، كان هذا الأخير أمام امتحان عسير، استحال فيه أن يُمسك العصا من الوسط.

فقد كان الرئيس، الخطيب، صديقا حميما لوزراء الحكومة التي يترأسها الوزير أحمد باحنيني. وفي الوقت نفسه، كان يربط علاقات وطيدة جدا مع رموز الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و«صقوره»، بحكم مهامه السابقة في تأسيس جيش التحرير المغربي مباشرة بعد الاستقلال سنة 1956. وبعض برلمانيي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كانوا من رفاقه في السلاح أيام المقاومة.

وهكذا فقد استنتج الدكتور الخطيب منذ الجلسات الأولى أن مهمته سوف تكون عصيبة جدا، فقد تابع كيف أن أصدقاءه كانوا يهاجمون أصدقاء الآخرين، ويصفونهم بتهم تستوجب المتابعة القضائية.

احتواء هذه الأزمة كان غير ممكن، سيما مع استفحال الهوة. وبدا أن الاتحاديين كانوا يخططون لحملة تطهيرية، خصوصا عندما اتهموا وزيرا في الحكومة باصطفافه مع بن عرفة خلال مرحلة نفي السلطان محمد بن يوسف، وجاؤوا بأرشيف جرائد فرنسية يظهر فيها اسم الوزير مع الموالين لابن عرفة.

كان على الدكتور الخطيب أن يحاول منع محاولات مماثلة أثناء جلسات البرلمان، خصوصا وأنها كانت تُنقل مباشرة على الهواء، ويتابعها المغاربة بمختلف طبقاتهم.

عندما وُضع ملتمس الرقابة لأول مرة سنة 1964، رأى فيه الكثيرون «حملة تطهيرية» لاجتثاث ممثلي الحكومة من المشهد السياسي وإعادة المغرب إلى نتائج انتخابات 1962، ومنح أفضلية لحزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية.

وفي محطة ملتمس الرقابة لسنة 1990، كان رائجا أيضا أن الأمر يتعلق بمحاولة لشن حملة تطهيرية.

لكن كان على المغرب أن ينتظر ست سنوات أخرى، قبل أن تنطلق الحملة التطهيرية الشهيرة سنة 1996. والتي أطاحت بعدد من الأسماء، لم يكن بينهم ولا اسم واحد من الأسماء التي أرادت المعارضة الاتحادية الإطاحة بها.

 

كيف كان برلمان 1964 المرتبط بـ«لعنة» تجميد الحياة السياسية

يمكن الحديث عن مرحلة السنتين الأوليين من العمل البرلماني، بعد انطلاق البرلمان في خريف 1963، دون الرجوع إلى شهادات من شاركوا في هذا البرلمان، بعد نجاحهم في الانتخابات، وكانوا مساهمين في جلساته التي لا يمكن إلا أن توصف بالنارية.

أحد هؤلاء، هو الاتحادي مولاي المهدي العلوي، الذي كتب في مذكراته عن الأشهر القليلة التي سبقت وضع ملتمس الرقابة.

فقد كتب يقول في واحدة من أكثر الشهادات التاريخية إثارة: «في الوقت الذي كنا في السجون والأقبية السرية والعلنية، كان بعضنا ما زال يتحمل مسؤولية الدفاع عن مصالح الشعب التي جرد منها، بعد انتخابه ممثلا للسكان في البرلمان، إثر تحقيق «الاتحاد الوطني» لانتصاره الكبير في الانتخابات التشريعية، التي سبقت الكشف عن «المؤامرة» المزعومة. وحيث إني كنت من الفائزين بمقعد في البرلمان عن دائرة «سلا»، فقد كان علي أن أنجز عددا من المعاملات الإدارية، قبل الالتحاق بالمجلس النيابي، بعد خروجي من السجن وأباشر مهامي ضمن فريق الحزب، بعد جلسة التعارف مع الأعضاء، وكذا الشخصيات الممثلة للاتجاهات السياسية الأخرى.

كان المجلس، آنذاك، يعج بأسماء مميزة لشخصيات من عيار ثقيل بصمت تاريخ المغرب، من بينها على سبيل المثال الزعماء «علال الفاسي» و«محمد بلحسن الوزاني» و«عبد الخالق الطريس» و«عبد الرحيم بوعبيد» و«محمد منصور» و«عبد اللطيف بن جلون» وغيرهم. ونظرا إلى حداثة عهدي بجلسات المجلس، فقد كنت في أيامي الأولى، أكتفي بالإنصات للمداخلات المبرمجة في الجلسة العامة وفي جلسات اللجان، لاستيعاب ما يجري حولي من أحداث واستقراء الاتجاهات، التي تعبر عن رؤية كل فصيل للمشهد السياسي ووضعية البلد، بعد الفترة التي كنا مغيبين فيها قسرا عن تتبع مجريات الأمور.

ومما أثار انتباهي في هذه الفترة ضعف التنسيق بين أحزاب الصف الوطني، مما حدّ من نجاعة المواجهة التي كان يتعين أن نقوم بها متحدين ضد الأغلبية «المصنوعة» من «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية FDIC»، التي ينشط أعضاؤها لتمرير السياسات الرسمية، التي كنا نعتبر أن أغلبها لا يخدم مصالح الوطن والمواطنين. في افتتاح دورة أكتوبر عام 1964، توزع النواب على اللجان البرلمانية، فاخترت الانضمام إلى لجنة الخارجية، بحكم مساري واهتماماتي وعلاقاتي بعدد من الجهات بالخارج. (..)

حضرت الاجتماع الأول لهذه اللجنة وشاركتُ بحماس في مناقشة عرض وزير الداخلية، بحضور كل من الجنرال «أوفقير» و«الدليمي»، وبدأت المناقشة حول سؤال طرحه أحد نواب «الجبهة» عن وضعية السجون في المغرب، وتحديدا نوعية الطعام الذي يقدم إلى السجناء، فكانت إجابة «الدليمي»، المسؤول عن إدارة السجون وقتها، أنه في العموم يتم احترام جدول تغذية متوازن يفي بحاجيات النزلاء.

وقال «الدليمي» إن هذا لا يعني أن اللحوم تقدم إلى السجناء في كل يوم، بل تجتهد الإدارة، حسب الإمكانيات المتاحة لتقديم أنواع من الحساء والخبز والقطاني، إضافة إلى قطع من اللحوم في بعض الأحيان، فضلا عن وجبة «الكسكس» كل يوم جمعة.

استفزني هذا الكلام وأنا الخارج لتوي من المعتقلات والسجون وأماكن الاحتجاز، فعقبت على كلام المسؤول بكلام واضح، مفاده أن ما يقدم من وجبات للسجناء لا يليق ببني آدم، فالحساء (الشربة) عبارة عن ماء ملون تسبح فيه الحشرات (الما والزغاريت کما يقول المغاربة بلهجتهم المحلية)، بينما الخبز مجرد قطع من الدقيق الرخيص، الذي مرت أيام على طهيه (خبز كارم تهرس بيه راسك)، أما وجبة «الكسكس» التي تقدم أيام الجمعة، فيستحسن أن لا أذكرها.

ولما ارتفعت نبرات صوتي، قام «أوفقير» من مكانه، فأحدث الكرسي صريرا يعكس حالة الغضب التي استبدت بالجنرال، في حين بقي الحاضرون صامتين في حالة اندهاش وذهول، وكأن على رؤوسهم الطير، يتوقعون ردة فعل المسؤول ورفيقه «الدليمي». وقبل أن يغادر القاعة، مر من خلفي «أوفقير» وربت على كتفي، ووجه إلي كلاما باللغة الفرنسية قائلا:

– Sans rancune من دون ضغينة.

فأجبته:

– طبعا، من دون ضغينة Evidamment sans

«rancune.

لكم إذن أن تتصوروا كيف كانت جلسات الأشهر الثلاثة الأخيرة من سنة 1963، وأولى جلسات برلمان سنة 1964، وهي الجلسات النارية التي سبقت وضع ملتمس الرقابة. إذ إن الجلسات تحولت إلى ملاسنات ومواجهات حادة بين برلمانيي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ووزراء الحكومة الذين كان من بينهم شخصيات مخزنية نافذة معروفة، وشخصيات مما عُرف بأحزاب الإدارة.

 

عبد الواحد الراضي: هكذا عشتُ في قلب دوامة «ملتمس الرقابة»

لم يفت الراحل عبد الواحد الراضي، عندما أراد نعي عبد الرحمن اليوسفي الذي سبقه إلى الرحيل بحوالي 4 سنوات، أن يُشير إلى المحطة التاريخية التي توطدت فيها العلاقة بينهما.

إذ إن عبد الواحد الراضي صرح وقتها لـ«الأخبار»، أثناء متابعة تفاعل السياسيين مع وفاة عبد الرحمن اليوسفي بالقول: «في الحقيقة علاقتي بسي عبد الرحمن اختلط فيها الإنساني بالسياسي. عرفته سنة 1959، واقتربت منه أكثر سنة 1964 في البرلمان عندما قدمنا ملتمس الرقابة».

كان تقديم ملتمس الرقابة فرصة وجهت فيها المعارضة الاتحادية ضربة قوية إلى مكونات الحكومة. لكن الأحداث التي عاشها المغاربة بعد ذلك، بينت بالملموس أن المواجهات السياسية بين المعارضة، خصوصا في شقها المتطرف، ومكونات التيار الذي مثل السلطة أو «أحزاب الإدارة»، كلفت المغرب سنوات من التأخر السياسي.

يقول عبد الواحد الراضي في مذكراته «المغرب الذي عشته»، مستعيدا كواليس وضع ملتمس الرقابة للإطاحة بحكومة الوزير باحنيني:

«أتذكر تدخلا لأحد نواب الأغلبية، وكيف تناول الكلمة منتقدا الوضع السائد في البلاد. كان رجلا بسيطا عفويا لا تبدو عليه أمارة الحس السياسي، وتأثر بدون شك بخطاباتنا وتدخلاتنا القوية في إطار مناقشات ومواجهات ملتمس الرقابة.

فما إن وقف في المنصة حتى انهال على الحكومة بالنقد الشرس. كان يتحدث بمشاعره وقلبه، وختم تدخله بالقول: «المغاربة دابا بحال شي قطعة ديال الغنم وسارحينها الذيوبة».

وفي مقطع آخر من مذكراته، يواصل عبد الواحد الراضي الحديث عن كواليس ملتمس الرقابة، من داخل البرلمان:

«أذكر المرحوم عبد العزيز الوزاني، وكان نائبا عن الأغلبية في برلمان تلك الولاية الستينية. كنا أنهينا المناقشات الخاصة بقانون المالية لسنة 1964، وكنا أبدينا اعتراضا قويا على ميزانية متقشفة تقشفا كان يعني تفقير المغاربة وتجويعهم. ميزانية جاءت لتفرض المزيد من الضرائب على المغاربة البسطاء، وتُنذر بالغلاء والمصاعب الواضحة للعيان. وفيما كنت أتهيأ لأغادر محيط المجلس على متن سيارتي، طلب الوزاني أن أنقله معي إلى محطة القطار ليسافر عائدا إلى منطقة بأيت طيفت (سنادة) تارجيست، شمال المغرب. في الطريق سألته: «إيوا آش هاد الشي آسي الوزاني؟ ميزانية كارثية بحال هذي كتصوتو عليها وتزكيوها وانتم كتعرفو أنكم غاديين تقتلو بيها هاد المغرب!». فأجابني على الفور: «لا سيدي، احنا كاع ما قتلناه.. احنا ع دْفناه!».

وإنصافا لهذه التجربة التي كانت الأولى من نوعها في تاريخ المغرب السياسي والبرلماني، يتوجب القول إن حزب الاستقلال أيضا دعم موقف حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، واتحد الحزبان معا في هذه النقطة، رغم الخلافات الكبرى بين الفريقين منذ الانشقاق التاريخي سنة 1959.

كان وقتها فريق حزب الاستقلال في البرلمان، يترأسه الزعيم عبد الخالق الطريس الذي اندمج حزبه، «الإصلاح الوطني»، مع حزب علال الفاسي سنة 1956.

ونظرا إلى أن الطريس كانت له كلمة مسموعة لدى أطر حزب الاستقلال، فقد تبنى موقفا لم يعارضه فيه قياديو الحزب، وتسبب في توتر العلاقة بين القصر وقياديي الاستقلال، لفترة، خصوصا خلال مرحلة الاستثناء سنة 1965.

عبد الخالق الطريس لم يقف عند حد إعلان تأييد فريق حزب الاستقلال في البرلمان لملتمس الرقابة الذي وضعه الاتحاديون، بل تناول الكلمة وسط البرلمان، ووجه انتقادا لاذعا إلى الوزير أحمد رضا اكديرة، وأمطره بوابل من الاتهامات من جملتها أن اكديرة يجب أن يتوقف عن الاحتماء وراء اسم الملك الراحل الحسن الثاني، بل وطالبه بأن يتحمل مسؤوليته السياسية ويدافع عن قرارات الحكومة، دون أي تلميح إلى قربه من الملك في كل مرة.

أحمد رضا اكديرة وقتها كان يتعرض لهجوم شديد من طرف المعارضة الاتحادية، إلا أن هجوم الطريس فاق كل التوقعات. بل هناك من كانوا متأكدين من أن أيام الطريس السياسية باتت معدودة، عندما أعلن دعمه لملتمس الرقابة، ودعا صراحة إلى ضرورة إسقاط حكومة باحنيني، وعقد جلسة استثنائية لطرد اكديرة والموالين له من البرلمان.

 

باحنيني.. الوزير الذي كان عليه أن يواجه «الموجة»

كان الأخوان باحنيني من الوجوه المعروفة التي تحظى بثقة الملك الراحل الحسن الثاني.

الأول، الأخ الأكبر أحمد باحنيني، كان مقربا من الملك الراحل محمد الخامس، ثم حظي بثقة الملك الراحل الحسن الثاني. والثاني هو امحمد باحنيني الذي اشتغل مدرسا في المدرسة المولوية، للأمير مولاي الحسن والأمير مولاي عبد الله والأميرات، ووزيرا للعدل في حكومة عبد الله إبراهيم، ثم وزيرا للدفاع الوطني، ووزير دولة كلفه الملك الحسن الثاني بعدد من المهام، إلى أن توفي سنة 1989.

لكن الأخ الأكبر، أحمد باحنيني، الذي وُلد في ظل الأحداث الساخنة التي سبقت توقيع معاهدة الحماية، واكب وصول المولى يوسف، ثم سيدي محمد بن يوسف إلى العرش، واشتغل رهن إشارة هذا الأخير وحظي بثقة الملك الراحل الحسن الثاني. إلى درجة أنه تبوأ منصب الوزارة الأولى في أولى حكومة مرحلة حكم الملك الحسن الثاني.

قدر أحمد باحنيني أن يواجه ملتمس الرقابة، في ظل واقع سياسي مشحون. واتُهم باحنيني صراحة بأنه «يحمي» التيار الذي يتقوى بالقرب من القصر، خصوصا أحمد رضا اكديرة.

لكن كياسة باحنيني، واحترام مكونات المعارضة لشخصه، أخّرا نوعا ما وقوع مواجهات ساخنة بين مكونات المعارضة، الاتحادية خصوصا، ومكونات الحكومة.

كان باحنيني لا يغادر القصر الملكي إلا ليعود إليه مجددا، سيما وأن الملك الراحل الحسن الثاني لم يكن راضيا عن وضع حكومة باحنيني، حتى قبل أن يظهر ملتمس الرقابة بشكل مُعلن.

وربما كان الخطأ الذي ارتكبه الوزير باحنيني، عندما ترأس الحكومة، أنه وضع نفسه في ظل أحمد رضا اكديرة، الذي كان «يقود» الحكومة فعليا، رغم أنه لم يكن وزيرا أول.

في مرحلة من المراحل، خصوصا سنة 1964، تقوى اكديرة وهيمن على بقية الوزراء، بمن فيهم باحنيني نفسه.

عندما علم الوزير باحنيني بخبر وضع ملتمس الرقابة، لم يكن أمامه سوى أن ينحني للعاصفة. فقد كان يدرك أن المعارضة لا تريد رأسه، وإنما رأس زميله في الحكومة، الذي لم تكن له عليه «رئاسة».

فقد كان أحمد باحنيني يُدرك جيدا، بحكم علاقته القوية مع كل من عبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم، أن ملتمس الرقابة كان يستهدف «تطهير» الملعب أمام الاتحاديين وإخلاءه من الحرس القديم، الذي يعرقل وصول الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى الحكومة، رغم اكتساح مرشحيه للانتخابات.

ورغم أنه لم يكن معنيا بهذا التطهير، إلا أن ملتمس الرقابة جعل مهمة الوزير الأول أحمد باحنيني عصيبة جدا. وكانت حالة الاستثناء، بمثابة الإعفاء الذي ناله باحنيني لكي يغادر الوزارة الأولى، من الباب الضيق، ويبقى إلى جانب الملك، خصوصا وأنه كان من الجلساء المقربين جدا من الملك الراحل الحسن الثاني.

من قدر الوزير أحمد باحنيني، أنه توفي في قلب دوامة انقلاب الصخيرات، إذ أصيب برصاص الانقلابيين يوم 10 يوليوز 1971، بعد أن نجا سنوات قبل ذلك، من محاولات الاغتيال الرمزي الذي انفجرت فيه قنبلة «ملتمس الرقابة» بين يديه.

 

ماي 1990.. كواليس المحاولة الثانية المنسية لملتمس الرقابة

في يوم 14 ماي 1990، وضعت المعارضة ملتمسا للرقابة، كما ينص على ذلك الدستور، ضد الحكومة.

كواليس وضع هذا الملتمس، تؤكد أن السبب وراء وضعه كان من أجل التنديد بالتزوير الواسع الذي عرفته الانتخابات التي سبقت تعيين الحكومة.

فقد كان هناك إجماع من المعارضة، على تغول تيار تزوير الانتخابات، وتقزيم تمثيلية المعارضة في البرلمان والحياة السياسية عموما.

من الأسباب الأخرى التي أدت بالمعارضة إلى وضع ملتمس الرقابة، ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق، بسبب توالي سنوات الجفاف، وتدني القدرة الشرائية. كان حزبا الاستقلال والاتحاد الاشتراكي يكرسان جريدتي الحزبين معا، للتنديد بالغلاء وسياسات الحكومة.

لكن النقطة التي أفاضت الكأس، كانت الإضراب العام والتداعيات التي رافقته، والتضييق على إحياء احتفالات فاتح ماي التي استعرضت فيها النقابات قوتها على الأرض في مواجهة قرارات الحكومة، خصوصا في ما يتعلق بالحد الأدنى للأجور.

من الكواليس التي سبقت ملتمس الرقابة لسنة 1990، ما تابعه النواب بخصوص مشروع قانون المالية يعود إلى سنة 1989، يتعلق بإجراءات اعتبرتها المعارضة لا شعبية وتضر بالمواطنين.

كان الملك الراحل الحسن الثاني يتابع عن كثب هذه التطورات، وكان جليا أن المعارضة كانت تريد «رأس» إدريس البصري، وزير الداخلية. وكأن التاريخ يعيد نفسه فعلا، فملتمس الرقابة الأول كان يريد رأس اكديرة وحزبه، والملتمس الثاني كان الهدف منه حد سلطات إدريس البصري الذي كان وزيرا «فوق العادة».

واتضح لاحقا أن ملتمس الرقابة لم يزد إدريس البصري إلا قوة، وأن الإرادة السياسية كان عليها أن تنتظر قليلا، قبل بدء مرحلة التناوب، وتعيين حكومة عبد الرحمن اليوسفي الذي كان عليه أن يقبل مقترح تشكيل الحكومة، لإنقاذ المغرب مما عرف وقتها بالسكتة القلبية. توالت الأحداث، وظهر جليا أن ملتمس الرقابة، بالصيغة التي تم اقتراحها، لم يكن إلا عرقلة لمشهد سياسي أريد له أن يستمر، باستمرار وجوه سياسية قوية لم تكن على وفاق مع المعارضة.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى