
ياسر عبد العزيز
يجري التغيير الاجتماعي والثقافي في منطقة الشرق الأوسط بوتيرة متسارعة في هذه الأثناء، وقد حدث هذا بمواكبة التحولات السياسية الدراماتيكية، التي ضربت المنطقة منذ اندلعت الانتفاضات في عام 2011؛ فقوضت دولا، وأشعلت حروبا أهلية في أخرى، وغيرت أنظمة، وتركت الإقليم على فوهة بركان.
وبموازاة ذلك، أضحى الإقليم في طور تغيير نحو صورة مختلفة، ثقافيا واجتماعيا، مقارنة بما كان عليه على مدى عقود خلت. وربما يقول البعض إن التغيير سُنة الحياة الإنسانية، وإنه يحدث بانتظام على مدى التاريخ، لكن ما نتحدث عنه الآن أن هذا التغيير يجري في اتجاه أكثر انفتاحا واتساقا مع المنظومة القيمية السائدة عالميا، وهو بذلك أضحى أكثر قبولا وتفهما على المستوى الدولي، مقارنة بتغيرات أخرى حدثت في عهود سابقة.
لقد طرأت تحولات ثقافية واجتماعية على عدد من دول الإقليم الرئيسة؛ مثل إيران وتركيا والسعودية ومصر والإمارات وغيرها؛ وهي تحولات متباينة في درجتها وتأثيرها، لكنها تتفق في كونها تترجم عددا من المطالب والإرهاصات، التي تفاعلت في الساحة المجتمعية لدول الإقليم، على مدى أكثر من عقدين.
ففي إيران تتفاعل الحركات النسائية والمطالب الشبابية ضد السلطات المحافظة، وتنجح في مفاصل عديدة في إحراز مكاسب، وفي تركيا يتراجع النسق المُحافظ أمام ضغوط اجتماعية وسياسية باطراد.
أما السعودية، فتشهد سلسلة من التحولات الاجتماعية غير المسبوقة بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بإيقاع مذهل، وتحظى على ما يبدو بقدر كبير من التأييد في قطاعات الشباب، التي تمثل أغلبية حاسمة بين الجمهور السعودي.
كانت قرارات السماح للمرأة بقيادة السيارات، وحضور مباريات كرة القدم، ثم السماح بالحفلات الغنائية، تتوالى، بمواكبة تحديثات اقتصادية واجتماعية، ضمن رؤية 2030، التي ترتكز على تمكين الشباب، وإتاحة المزيد من الفرص الاقتصادية والاجتماعية والعلمية لهم.
لم يكن أكثر المتفائلين يتوقع أن تحدث تلك التطورات الجذرية في المجتمع السعودي بتلك السلاسة، ورغم عدم وجود استطلاعات رأي يمكن الاستشهاد بها في ذلك الصدد، فإن التقارير الصحفية التي تعدها وسائل الإعلام ومراكز البحوث الدولية المُعتبرة تؤكد أن تأييدا واسعا لها يساندها ويُسهل تفعيلها.
وفي مصر، يمكن القول إن الفترة التي وصلت فيها تيارات الإسلام السياسي («الإخوان» والسلفيون) إلى مفاصل الحكم- سواء في الجمعية التأسيسية التي أعدت دستور 2012 الملغى، أو في برلمان «الإخوان» المنحل، ورئاسة مرسي- تركت المجتمع أكثر رغبة في تأييد الحريات الاجتماعية، وأقل مطاوعة لدعاوى التزمت والانغلاق.
ثمة ملامح رئيسة للتطورات الاجتماعية والثقافية في بلدان منطقة الشرق الأوسط؛ وهي ملامح تتعلق بحرية المرأة، ودورها، وحضورها في المجال العام، وتمكين الشباب على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، وتراجع دور الإسلام السياسي في تأطير الحالة الاجتماعية.
تحدث تلك التطورات بإرادة ودعم وقرارات تأتي من القيادة السياسية، لكن ما يجعلها أكثر تجذرا في البيئة الاجتماعية والثقافية، وأكثر قابلية للاستدامة، أنها تحظى بتأييد قطاعات عريضة من الجمهور.
لقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا رئيسا في بلورة تلك التطورات؛ إذ أتاحت لقطاعات الشباب الواسعة، والنساء التفاعل، ورفع الصوت، والتعبير عن الرأي، وتصليب المواقف، والمناداة بـ«الحقوق».
وبسبب التغيرات المتسارعة في المجال الاتصالي، زاد اتصال الشباب والمرأة في منطقة الشرق الأوسط بالنسق القيمي الأكثر تمتعا بالتوافق على الصعيد الدولي، عبر التعرض لمضامين إعلامية وفكرية وثقافية ذات طابع عالمي.
وباتت قطاعات الشباب، التي تشكل الغالبية العظمى من سكان المنطقة، أكثر قدرة على فهم الأنساق الاجتماعية الأكثر حداثة، وأكثر رغبة في مقاربتها في مجتمعاتها.
وبسبب قدرة القطاعات الأصغر سنا على التواصل والتأثير، راح المجتمع يصيغ مطالبه الجديدة، ويسندها بالحجج والذرائع، ويتواصل من أجل تفعيلها، وهو أمر تمكن بعض القادة من إدراكه.
كان تهافت قدرة الإسلام السياسي على تقديم رؤية صالحة للتفعيل في ظل متغيرات العصر أحد العوامل التي قللت من نزعات الانغلاق والتزمت في المنطقة، وفتحت المجال أمام دعوات التحديث والعصرنة.
ستكون هناك مقاومة من قوى التزمت والانغلاق في المنطقة بكل تأكيد، وخصوصا عندما ستصطدم سياسات التحديث الاجتماعي والثقافي بما تدعيه تلك القوى من «ثوابت»، وسيكون منبع الخطورة في هذا الادعاء أنه يُقدم للجمهور بوصفه «تعاليم دينية» أو «ركائز هوية».
لكن تلك التطورات الاجتماعية والثقافية تحتاج إلى درجة من التحديث السياسي لكي تزدهر وتستديم، ودرجة أكبر من تعزيز حقوق الإنسان بمفهومها الشامل، كما تحتاج إلى مواكبة اقتصادية فعالة لخلق بيئة مشجعة على استمرارها، وهو أمر سيكون محل أنظار العالم.
نافذة:
طرأت تحولات ثقافية واجتماعية على عدد من دول الإقليم الرئيسة مثل إيران وتركيا والسعودية ومصر والإمارات وغيرها وهي تحولات متباينة في درجتها وتأثيرها لكنها تتفق في كونها تترجم عددا من المطالب





