شوف تشوف

الرأي

قوانين التاريخ الثلاثة (1/2)

في مطلع عام 1980 كان العالم يحدق باتجاه رجل يترنح في سكرات الموت، ومع لحظات توديعه للحياة باح (تيتو) بسره: لقد وضعت حجر الرحى على فم بئر من الكراهيات، إذا انزاح غطاؤه خرجت كل الثعابين والروائح الكريهة منه. حافظوا على هذا الغطاء مسمَّراً إلى الأبد؟! ولكن هل يمكن للخرَّاج أن يعس داخل الأنسجة بدون انفجار؟
يقال إن نفس الجملة كررها نوري السعيد في العراق المحتقن بالكراهية فصدقت نبوءته في ما يخص العائلة المالكة كما حصل لعائلة رومانوف في روسيا. كررها على تشبيه أقبح فاستخدم اللفظة العراقية (الجشمة).
وما فعله حافظ الأسد في سوريا يشبه مقولة تيتو ونوري السعيد وشاوسسكو الروماني المرذول؛ حين ترك سوريا مستنقعا من الدم والكراهية، قاد إلى ما نرى من الكارثة السورية، ولا يظلم ربك أحدا. لقد قاد ما فعل إلى المحرقة الكبرى، ومعها ربما فناء طائفته وحزبه وعائلته وذريته من بعده. يقول القرآن وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى.
ترجمة هذه القوانين الثلاثة في علم الاجتماع: الجزاء من جنس العمل، وأن ما زرعه أحدنا سيحصده، وأن النتيجة ستكون بقدر الجهد لا يزيد ولا ينقص.
يخضع تقدم التاريخ لثلاثة قوانين تمسك بمفاصل حركته:
ـ أن الأنفع يثبت.
ـ وأن الكون لم ينته خلقه بعد؛ والله يزيد في الخلق ما يشاء، ويخلق ما لا تعلمون.
ـ وأن ما بشر به الأنبياء نظرياً يقدم التاريخ الأقنية العملية لترسيخه، ومنها فكرة (لا إكراه في الدين) وما فعله حلف الناتو يوما في كوسوفو يمثل في قسم منه هذا التطور في رفع الإكراه عن البشر، كمنحى لا فرار منه أمام حركة التاريخ.
اعتبر القرآن أن الزبد يذهب جفاء، وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال. ويعتبر المؤرخ البريطاني توينبي أن قوانين التاريخ لا تمثل دورة رتيبة؛ بل هي دورة عجلة (إطار = دولاب) محمولة على محور، العجلة تعيد إنتاج دورتها، والمحور ينقل القدر الإنساني طبقاً عن طبق إلى ما هو خير وأبقى، وعندما بنى إبراهيم الكعبة كنموذج مصغَّر للسلام الكوني كان بصدد توسيع التجربة لتتحول الأرض إلى كعبة كبيرة، وتمتد الأشهر الحُرم لتغطي كل السنة، ويتم تأميم الحروب في الأرض، وترفع يد الوصاية عن الدين فتلغى المؤسسة الدينية برموزها وألبستها من طاقية وعمامة وطربوش وقلنسوة بألوان شتى وغرابيب سود.
النافع والأفضل يتقدم ويتعمق كشجرة لا تكف عن النمو، والإكراه الإيديولوجي والعرقي كمرض كريه يتقلص من العالم؛ والاتحاد السوفيتي انهار لأنه بني على الدمج القسري.
التطور نحو الأفضل هو القانون الذي يحكم التاريخ بإضافة ملاحظتين: أنه مخطط يتعرض لهزات في بعض المراحل، إلى درجة التراجع في بعض المناطق، كما أنه يتقدم برجلين بين التقدم التكنولوجي والتطور الإنساني.
معلومات البيولوجيا ومناهج الاقتصاد وعلم الاجتماع تقدم لنا ثلاثة نماذج لاهتزاز المخططات؛ فالجسم كل لحظة هو في شأن، في تأرجح كمية السكر في الدم مع بذل الجهد، وارتفاع الكورتيزون مع نشاط النهار، ونوم المثانة في الليل، واكتشف (رافي باترا) الاقتصادي الأمريكي أزمة الدورة الرأسمالية كل ستين عاماً، كما أفادنا ابن خلدون بدورة الدولة بثلاثة أجيال في 120 سنة.
المخطط يهتز ولكنه يحافظ على معدل معين، باختلاف درجة الميل بين البيولوجيا والسوسيولوجيا؛ ففي الوقت الذي يمضي البدن باتجاه التآكل والتفسخ حسب القانون الثاني للديناميكا الحرارية؛ فإن مخطط الجنس البشري يميل نحو الأحسن باضطراد. هذا ما حصل من تطوير نقل السلطة السلمي، وحرية الاعتقاد، وكرامة المرأة، وموت مؤسسة الحرب.
حين نفهم (مشروع الأنبياء) في حل المشكلة الإنسانية يمكن فهم الأحداث على ضوئها بشكل مريح، والشيء الأساسي الذي نادوا به: مشروع (لا إكراه في الدين)؛ فمع الإكراه لا يعتبر المؤمن مؤمنا ولا الكافر كافرا، بسبب بسيط أن القناعة والرفض، تقوم على آليات دماغية، تولدها قناعة الأفكار في الجهاز العصبي وليس السوط والعضلات.
يرى (توينبي) أن الحضارات تنطلق بالإبداع على يد أقلية تتبعها الأكثرية بآلية المحاكاة على أنغام مزمار الراعي، وأنها تنهار عندما تتحول إلى أقلية مسيطرة تسوق الناس بسوط (الإكراه).
لا إكراه في الدين وحرية الاعتقاد خروجا ودخولا، وحرية التعبير والتجمع عليه والدعوة له بشر بها الأنبياء كمشروع إنساني تحول إلى بند راسخ في دساتير العالم، ولعل تشديد الغرب على منع إعدام أوجلان في تركيا يدخل تحت هذا البند، والديمقراطيات الغربية بدأت في التحرك لنقل مفهوم (رفع الإكراه) من حزامها إلى خارجها على صورتين: الانتقال من تحريم الإكراه الإيديولوجي والمذهبي إلى العرقي وهو أخطر، وثانياً محاولة منعه خارج المنظومة الديمقراطية.
الجهاد في الإسلام لم يشرع لنشر الفكر بل لرفع الظلم والإكراه والفتنة عن (الإنسان) أينما كان ومهما دان، وبذلك يصبح الجهاد دعوة لإقامة حلف عالمي لرفع الاضطهاد والإكراه عن البشر وفي صورتين بوجه التحديد:
ـ الإخراج من الديار والعقيدة بالقوة المسلحة، جمعتها نصف آية تبرر استخدام القوة المسلحة (أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله).
تطور التاريخ يجبر القوى العظمى ومنها أمريكا التي تمثل القطب الواحد أن تمنع الإكراه وتلتمس مبررات التدخل المسلح بما يتوافق مع مصلحتها وليس بدون نتائج مأساوية.
اعتبر (نعوم تشومسكي) السياسي وعالم الألسنيات الأمريكي أن غرام أمريكا بالعدالة كاذب، يشهد له سكوتها عن جرائم بحجم الجبال في أماكن شتى، واعتبر الصحافي البريطاني (روبرت فيسك) أن الذكرى الخمسينية لولادة الناتو كانت جديرة باستعراض القوة، وأكده (إدوارد سعيد) في مقالة له بفكرة كيسنجر عن استخدام القوة في الهند الصينية إلى جرعتها القصوى: يجب أن يلقن الأعداء أنه ليس ثمة حدود لما يتوقعونه من خصومهم بما فيها الحدود التي تبدو لاعقلانية على الإطلاق. وهو ما يفعله بشار الكيماوي في سوريا.
ويبقى ميزان الغرب مترنحاً في تعامله مع قضية فلسطين فتنطفئ كل النخوة والأريحية الديمقراطية دفعة واحدة، وتظهر إنسانيتهم في تمزيق المنطقة الشيوعية؛ فتم ضرب العراق من خوف مقبل ، وتم ضرب الصرب من شماتة وأحقاد الماضي.
نحن حين نفهم اتجاه التاريخ ونربط الأحداث ببعضها نعلم أن إيقاف المذابح عمل إنساني يجب أن يتم في كل مكان ويجب أن يتدخل العالم لإنقاذ الشعب السوري من المذبحة وإلا فهو مشارك في الجريمة.
وبمجرد أن نعجز عن ربط الأحداث ببعضها تختلط علينا الأوراق. من دون هذه المرجعية فإن كل الأحداث التي يمكن أن تتخذ وسيلة لكسب المصداقية لن تحمل مصداقية حقيقة وإنما مزيدا من ترسيخ الامتيازات وإبراز المنطق الفرعوني.
نحن ننسى مصدر الإعاقة العالمية، وتزعجنا التناقضات الثانوية، وننسى التناقض الأساسي العالمي، الذي يقوده رهط مفسدون في الأرض.
لابد من السعي لصنع أمم متحدة من نوع جديد كما في الدول الديمقراطية التي يحكمها القانون وليس الفيتو، بتشكيل برلمان دولي له قدرة التنفيذ.
الديمقراطيات الغربية استطاعت أن تحقق العدل الداخلي والرفاهية والأمن لإفرادها الى حد كبير، كما نجحت في آلية نقل السلطة السلمي؛ فأصبح إقناع الناس ولو بالتحايل سبيل التغيير، وليس الجيش والاستخبارات، ولكن مشكلة الغرب أنه تحول الى ديكتاتور في العالم، في مقابل ديمقراطية داخلية على نحو محير.
الأمم المتحدة على ما يبدو تحتضر الآن، ومجلس الأمن بتركيبة الفيتو لم يعد مناسبا للعالم الجديد بل أصبح يعيق نمو العالم، ويجب أن يلغى جملة وتفصيلا، وليس المطالبة بتوسيع كراسيه، ومدها الى مقاعد جديدة لليابان وألمانيا أعداء الأمس، فيما آخرون يتلمظون لمقاعد الامتيازات، والوحدة الأوربية مولود جديد في تاريخ الإنسان، ويمكن أن تكون نواة لوحدة عالمية، ولكن الأمم المتحدة بوضعها الراهن لا يمكن أن تكون نواة لوحدة عالمية.
الوحدة الأوربية حاولها من قبل نابليون وهتلر وكلاهما وصل إلى عكا وستالينغراد؛ فأما الأول فقضى نحبه منفياً في جزيرة، وأما الثاني فمات منتحراً، وتتحد أوربا اليوم ليس تحت شعار ألمانيا فوق الجميع بل ألمانيا مثل الجميع، وهي كلمة السواء التي خاطب بها محمد (ص) هرقل قبل 1400 سنة أن تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم فإن توليتم فإن عليكم إثم الأريسيين أي لعنة الشعوب.
ينقل نعوم تشومسكي في كتابه (قراصنة وأباطرة) أن الإسكندر ألقى القبض على قرصان فراح يقرِّعه: كيف سوَّلت لك نفسك أيها الخبيث إزعاج الناس في البحر؟
فأجابه: إنني أزعج الناس في بحر فأسمى قرصاناً، ولكنك تزعج العالم كله فتصبح إمبراطورا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى