شوف تشوف

الرأي

توظيف القرآن في المكان الخاطئ للهدف الخاطئ

في 22 يوليوز من عام 2003م انتهت حياة قصي وعدي قتلاً فذاقا من نفس الكأس دهاقا، (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين). ولكن الناس اجتمعوا في بلد عربي لتلقي العزاء في سيدي شباب أهل الجنة السبطين عدي وقصي؟ ولا يستبعد أن تمتلئ كتب التاريخ بقصة (شهادة) البطلين وهما يقارعان العلوج الأمريكيين كما اعتدنا على الكذب في كتب التاريخ التي تدرس لطلبة المدارس.
وفي يوم انتشرت الموضة في العالم العربي فمنهم من سمى ابنه (ستالين) وآخر ابنته (غيفارا) وثالث (سيد قطب) والأولاد يحملون أوزارا غير مسؤولين عنها. وعندما قتل (آرنستو تشي غيفارا) اعتبره الثوريون العرب سيد الشهداء، بل إن جريدة الأخبار المغربية اعتبرت أن هبوط هذا المجرم 18 يوما في مراكش فتحا مبينا وبركة ظللت سماء المغرب؟ ألا ساء ما يحكمون.
وعندما يفجر الفلسطيني نفسه في حافلة فيقتل ويقتل يعتبر البعض أنها شهادة في سبيل الله، أما اليهود فيسمون الفاعل إرهابياً وانتحاريا. وما يحكم على عمل ما ليس الفتاوى والنصوص بل العواقب، وقل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى.
وعندما يتصارع فريقان فيقدمان (قرابين) بشرية يعتبر القتيل في عين أهله (شهيدا) وفي أعين خصومه (مجرما). والفرق بين (الجريمة) و(الجهاد) شعرة كما كان الفرق بين (الزنا) و(الاغتصاب) و(الزواج) أقل من شعرة فكلها ممارسة لعمل جنسي ولكن الأول يقوم على (السرية) والثاني على (الإكراه) والثالث على (الإشهار). وعندما جاهد (الخوارج) لم يكن موتهم (شهادة) بل جريمة، وإذا حاول الجراح فتح بطن المريض في سوق الخضار سمي قصاباً ولو كان سيد الجراحين.
فهذه الفروق لا يستوعبها الشباب المتحمس وهم نصف معذورين ولكن أئمة الفكر المنحرف هم الذي يسقون عقول الشباب بهذه السموم.
وابن لادن اعتبر أن تفجير أبراج نيويورك عين الجهاد وقمة الشهادة وضرب الكفار في دار الحرب حيث يستباح كل شيء؟ في الوقت الذي اعتبرت أمريكا أنها جريمة نكراء من انتحاريين مجرمين.
وكما يقول (نعوم تشومسكي) الناقد الأمريكي أن قرصاناً ألقي القبض عليه في زمن الإسكندر فبدأ في توبيخه كيف يزعج ركاب البحر؟ فقال القرصان: أنا أنهب بسفينة صغيرة فأسمى قرصاناً أما أنت فتنهب شعوبا بأساطيل فتسمى إمبراطورا؟!
ومع أن القرآن يذكر كلمة (الشهادة) ومرادفاتها 82 مرة (شهيد 36 مرة والشهداء 20 مرة والشهادة 26 مرة) ولكنه لم يذكرها مرة واحدة بصدد القتل والموت بل بمعنى مختلف هو الحضور الواعي (أو ألقى السمع وهو شهيد)، (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت)، (ما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين) أو بمعنى الإقرار والاعتراف (قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا) أو الجمع بين الأمرين (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين).
وبهذا تكون (الشهادة) ليس ما يعنيه الناس من الموت في سبيل الله حصرا بل على نحو أدق، التمثيل المميز (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). ومنه جاءت كلمة (الشاهد) في المحكمة لأنه إنسان عاين الواقعة بدقة وألقى السمع وهو شهيد. فهو يدلي (بشهادته) أي يفيد بما حدث صدقا وعدلا. و(الشهادة) بذلك أي الدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين هي الاعتراف والإقرار بصدق ووعي (أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله).
ولكن السياسيين يطلون أصنامهم بدهانات إسلامية فيخطئون مرتين: بنسبة ما ليس للألفاظ منها، وثانياً بالخطأ في ما يريد القرآن من هذا اللفظ فيوظفونه في القتل والإجرام.
وهذا الكلام يفيدنا في أن نرجع فنحرِّر المعاني كما يقول (ابن خلدون) ثم نكسي المعاني ثوب الألفاظ، ونحن في العالم العربي مغرمون بالألفاظ فيخسر الواقع حقيقة ويكسب القاموس لفظة كما يقول النيهوم. فنسمي الشهيد من يقتل في سبيل قضية وبدون قضية؟ ولكن الشهادة بمعنى الحضور الواعي للعالم والإدلاء بالرأي شيء لا علاقة له بالإرهاب والقتل والجريمة. ستكتب شهادتهم ويسألون.
وتحت هذا المفهوم قد يدخل من يموت صادقا في سبيل قضية إنسانية كبرى، كما قد يموت الكثيرون من أجل عفونات من الصراع القومي والعرقي والطبقي والفئوي، ولا تساوي كل الأرض سفك دم إنسان واحد. ولا توجد أرض مقدسة في نظر الإسلام فالقدسية لا تأتي من التراب ولكن تستمد قدسيتها من القدوس السلام المؤمن المهيمن.
وهنا يجب التفريق بين (الموت) من أجل فكرة و(صدق) تلك الفكرة. فليس كل من يموت من أجل فكرة يعني تلقائياً (صحة الفكرة)، ومات الكثير من الشيوعيين والقوميين والملحدين من أجل أفكارهم فلا يعني هذا أن الشيوعية كبد الحقيقة والفاشية منتهى التاريخ.
وتذكر صحفية مصرية راقبت المشنوقين على يد (العشماوي) أن أثبت الناس جنانا كان تاجر مخدرات دخن سيجاره قبل الموت وضحك لمن حوله وقال «كل نفس ذائقة الموت، ولن يفر أحد من الموت، وسنموت على كل حال بشكل أو آخر). فعاش مجرما ومات فيلسوفا. وأمام هذه الحقيقة كان الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) إذا سئل: هل عندك استعداد أن تموت من أجل أفكارك؟ يجيب: لا.. لأنني قد أكون مخطئاً؟!
وينقل عن بولس في أعمال الرسل أن البذرة حتى تتحول إلى شجرة يجب أن تدفن، وعلى ما يبدو أن الأفكار تخلد وتنتشر بهذه الطريقة. وهي تفسر طرفا من الآية أن من يقتل في سبيل الله حي عند الله بطريقة أو أخرى، ومن يموت من أجل أفكاره يدفع الحياة فيها. وكسبت أفكار سيد قطب طابع القدسية بعد شنقه فخدمه عبد الناصر أكثر مما آذاه، فنشر أفكاره من حيث أراد القضاء عليها وليس هناك من كتاب تفسير مثل الظلال طباعة ونشرا.
ومن ظلمات الديكتاتورية والظلم ولدت ظاهرة (الظواهري) فانتقل إلى أفغانستان فكان عبد الناصر مثل الجراح الخائب الذي فتح بالسكين على السرطان فلم يستأصله بل نشر السرطان بأشد مما كان.
ونفس سيد قطب يقول إن «كلماتنا تبقى عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياة» فهذا قانون وجودي، وكل كتاب ممنوع ينتشر أكثر، وكل محظور مرغوب. وكل أشجار الجنة لم تكن كافية لآدم فذهب إلى الشجرة الوحيدة المحرمة (فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما). وليس ألذ من اتصال جنسي في الحرام، وترك الملك إدوارد الثامن كل الملك والمال من أجل عيني امرأة، وسقط سور الصين العظيم إكراماً لمحظية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى