شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

المعرفة والسيطرة

 

مقالات ذات صلة

عبد الإله بلقزيز

 

 

إن من يحتكر الرواية عن موضوعٍ ما: عن دين أو تاريخ أو تراث أو ثقافة… يُمَكِّن لنفسه الأسباب لكي يسيطر على ذلك الموضوع وعلى من ينتمي إليهم ذلك الموضوع أو على الأقل، يسيطر على وعيهم وعلى نظرتهم إلى ما هو في حكم أشيائهم الجمعية أو أملاكهم. والنتيجة أن من يُرْوى عنهم وعن تاريخهم وثقافتهم من آخر- دائرين في فلك روايته، واقعين تحت وطأة سلطانها الثقافي، مرددين إياها تردادا ببغاويا – في حال استبطانها – أو عاجزين عن التحرر من هيمنة رؤيتها في وعيهم. وما أغنانا عن التنفيل في بيان حقيقة تكاد أن تكون مستبدهة؛ هي أن بناء سردية ذاتية – أو سردية عن الذات – مستقلة شرط لازب لاستقلال تلك الذات، بل هو شرط ابتدائي لمقارعة سرديات أخرى خارجية معادية ودحضها. أما بيان ذلك ففي أن سطو سردية الغالب (الآخر، الأجنبي) على مسرح القول لا يكون ممكنا إلا في مناخ من الفراغ الثقافي؛ حيث الفراغ هذا هو البيئة الخصبة لصوغ الرواية عمن ليس يقوى على الرواية عن نفسه وتاريخه وثقافته، ولا هو يقوى على رد رواية مخالفة عنه.

يقال عادة إن المنتصر هو الذي يكتب التاريخ؛ وهذا صحيح على نحو من العموم لا يلغي حاجة إلى التخصيص والتمحيص. نعم، يكتب الغالب التاريخ و«حقائقه» بما في ذلك أحوال المغلوب وأسباب انغلابه. ولكن ذلك لا يصح في الحالات كلها إذا هو صح – وهو صحيح – في بعضها، أو حتى في جلها؛ إذْ تُظْهِرُنا تجارب التاريخ وسوابقه على حالات عدة امتاح فيها الغالب من المغلوب كثير امتياح: في اللسان، والدين، والثقافة، والعلوم، والخبرات، والقيم والعوائد إلخ، حتى لكأن غلبة ذلك الغالب اختفت – أو كادت أن تختفي – خلف ستار ذلك التأثير المعاكس الذي أتاه من المغلوب فأنقص من مفعولية غلبته على ذلك المغلوب.

نعم، من الصحيح أن نعمل بالقاعدة الخلدونية التي تقضي بأن المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب؛ لأن الواقع التاريخي يشهد لها، ولكن من الصحيح أن يقال أيضا، وبمفردات دقيقة ومطابقة، إن الغالب لا يكتب التاريخ إلا متى كان أقوى ثقافيا، بحيث تكون له العدة والعتاد في كتابته وفي الاستئثار بها. قد تكون الغلبة للغالب مردودة إلى عامل قوته القتالية الضاربة التي تصنع له الظفر بخصمه الذي تقع عليه، غير أن القوة المادية هذه لا تفتح لغلبته إمكان الشمول إلا متى احتاز أسباب القوة الثقافية وصارت هذه، فعلا، غلبة ثقافية (بالمعنى الأنثروبولوجي للثقافة). حينها فقط يصبح غالبا بالمعنى الخلدوني ويتأتى له، ثانيا، أن يكتب التاريخ وفي جملته تاريخ المغلوب.

لا تعني قدرة الغالب على بناء رواية وعلى احتكار صوغها، ودفع المغلوب إلى تصديقها والانطلاق منها وإعادة إنتاجها، بل واستبطانها – أحيانا – وكأنها روايته هو لا رواية عنه من غيره… سوى أن الثقافة قوة لا تقل مفعولية وأثرا عن القوة المادية التي بها يحقق ذلك الغالب أول الغلبة. ومعنى ذلك، أيضا، أن الثقافة – والمعرفة تحديدا – سلطة بمكنتها أن تحقق الإخضاع الرمزي: إخضاع الوعي لما تتغيا ترسيخه فيه من فكرة أو رؤية أو مضمون. هذا، بالذات، ما صنع للإيديولوجيا مكانة معتبرة في نظام التسلط والإخضاع والهيمنة، ووَكَلَ إليها من الوظائف ما ليس يستطيع غيرها من أدوات القوة الأخرى أن ينجزه: اختطاف الوعي والسيطرة عليه: وعيَ فرد كان أو وعي طبقة اجتماعية أو وعي أمة. وهكذا، كما ليس يستقيم النظر في السلطة بما هي مجموع من القدرات التي تدخل المعرفة فيها من غير حسبان وظيفة هذه القدرة المعرفية ومفعولها، كذلك لا يستقيم النظر إلى المعرفة إلا بوصفها فاعليةً تُضْمِر في داخلها فاعليات السلطة جميعها وتسخرها قصد تحصيل هدف الإخضاع المعنوي، أو الرمزي، للوعي الفردي والجمعي.

هكذا هو الاستشراق حين ألف سرديته عن الشرق وثقافته – وفي جملته العالم العربي الإسلامي – ونشرها في مجتمعاته وفي مجتمعات الشرق. سريعا نجحت تلك السردية في السيطرة؛ أعني في التغلغل في وعي من تلقوها من الغربيين والشرقيين، وفي استدراجهم إلى السقوط في أُحبولاتها. ولكن إذا كان من اليسير أن نفهم لماذا أمكن إخضاع وعي الجمهور الغربي لروايات الاستشراق عن الشرق، وعن الإسلام والعرب، فليس يمكن أن نفهم – بالقدر عينه من اليسر- كيف يستسلم وعي الشرق لِمَقول تلك الروايات، ويقوم مِن قلبه مَن يرددها. قد يفسر الجهل – جهل الشرقيين لتراثهم – بعضا من أركان هذه النازلة؛ وقد يفسرها اطلاع المستشرقين الجيد على تراثات الشرق، ولكن ما من شك في أن مما يميط النقاب عن أسبابها ودواعيها بعض من الشعور الغامض بالدونية تجاه معارف الآخر (الغربي) لدى قسم كبير من النخب التي اتصلت، مبكرا، بأعمال المستشرقين وتأثرت بها أبلغ التأثر.

 

نافذة:

لا تعني قدرة الغالب على بناء رواية وعلى احتكار صوغها ودفع المغلوب إلى تصديقها والانطلاق منها وإعادة إنتاجها بل واستبطانها  أحيانا وكأنها روايته هو لا رواية عنه من غيره

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى