شوف تشوف

الرأي

كل أمر المؤمن له خير

عن صهيب رضي الله عنه قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد مع أصحابه إذ ضحك، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا: يا رسول الله ومم تضحك؟ قال: عجبت لأمر المؤمن، أن أمره كله خير؛ أن أصابه ما يحب حمد الله، وكان له خير، وإن أصابه ما يكره فَصَبَر كان له خير، وليس كل أحد أمره كله له خير إلا المؤمن».
حسب قانون أرسطو في فهم الحياة، فهي كوميديا لمن يفكر، وتراجيديا لمن يشعر.
أي أن التأمل يحرر الإنسان من المشاعر السلبية، والاستسلام لأفكار حزينة محبطة، تحيل الروح إلى غرفة مظلمة، والحياة إلى مساحة كرب ضيقة. وعبارة (الكوميديا) و(التراجيديا) مصطلحات من الثقافة اليونانية، احتلت ساحة الفكر منذ العصر التنويري في الغرب.
وتعني (الكوميديا) المهزلة التي تدعو للضحك، أما (التراجيديا) فهي المأساة المحزنة التي تقتلع الإنسان من الهدوء فيبكي الدمع مدرارا أسفا وحزنا على ما حدث.
واعتبر القرآن أن أهم شعورين يطوقان الإنسان هما: الحزن والخوف. الحزن لما مر، والخوف مما يأتي.
واختصر هذين الاتجاهين في نصف آية، عندما أراد تحرير عباده المؤمنين من الضغط الساحق لهذين الشعورين، فقال (لكيلا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم).
والقرآن يكرر عبارات ومصطلحات بدقة لا نهائية، كما يسميها البعض (المنطق الداخلي للقرآن)، وهي تكرار صفة يتحلى بها عباده المؤمنون، وهي هنا في التخلص من (الخوف والحزن) وهي العناصر المكونة للتراجيديا.
ولكن لماذا كان كلا الشعورين سائدا عند الناس؟ ولماذا يقع الناس تحت ضغطهما الماحق؟ وما معنى أن يتخلص الانسان من قبضة هذين الشعورين غير الصحيين؟
وللجواب على هذا السؤال الحرج، حاول الفلاسفة رؤية الموضوع بطريقتهم، فرأوا أن تأمل الحياة بهدوء، يوصل الإنسان إلى شعور استغراق، وطمأنينة باطنية عجيبة، وأن مناظر البؤس الخارجية ليست دائمة ولا شاملة، والمأساة فيها ليست من داخلها، بل من شعور الإنسان وموقفه تجاهها.
والفيلسوف الروماني من المدرسة الرواقية (أبكتيتوس) يقول (كما جاء في كتاب «الموت عند المفكرين الغربيين» من تأليف جاك شورون ونشر سلسلة عالم المعرفة):
(ليس هناك من شر محض في العالم، وهات لي ما تشاء مما يخيل إليك أنه شر من فقر وعوز ومرض بل وموت، وسوف أحولها لك بعصا هرمز ـ وهرمز حسب الأساطير اليونانية هو إله الحظ والمتعة والرحلات والقمار ـ إلى شيء إيجابي، وأهمية هذه الفكرة وتطبيقاتها في الحياة المدنية خلق المرونة في العقل).
وأذكر أخاً فاضلاً كان يشتغل في معمل للدهان في حلب، ثم حدث خطأ فظيع في مزج الألوان؛ فهرعوا إلى المشرف، وكان المالك للمصنع، فقام بدراسة الوضع بسرعة فاستنتج ألوانا جديدة من نفس الخلطة الغلط.
وهكذا فهو قابل المعضلة والتحدي بهدوء، وليس بالانتحاب على ما حدث، فقد حدث ما حدث، ولا يمكن تعديله، ومنه نهي الحديث أن لا يكرر الإنسان لو.. لو.. فهي تفتح عمل الشيطان، ويجب تحرير المسألة هنا وهي التخلص من الحسرة، ولكن على الإنسان أن يأخذ درسا مما مر على الأقل أن لا يكرر الحماقة مرة أخرى، كما في حرب العراق وإيران، وسيكون نفس الشيء في تورط إيران وروسيا في قتل الأطفال السوريين، فيقولون ياليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل، ومنه فإن تذكر الماضي يجب أن لا يكون انتحابا وحزنا على ما ولى بل درسا للمستقبل في الاستفادة من الأخطاء وما ولى قد ولى.
ولكن كيف يمكن الاستفادة مما حدث، بحيث يحول على الأقل الكارثة الكبيرة إلى كارثة من حجم أصغر.
يقول صاحبي في القصة التي أوردناها أن ما حدث كان نعمة من جهة، فخرج لنا لون زاهي غير متوقع وأمكن بيعه في السوق المحلية.
ونفس الشيء حصل مع عقار (الفياجرا)، الذي كان بالأصل لمرضى القلب، فقضى على البعض تحت التجربة، ثم تبين أنه ينهي مشكلة جنسية عانى منها الرجال منذ أيام حمورابي بضعف القدرة على الانتصاب، ومنه فهي عند الناس التي حلت لهم مشكلة الاتصال الجنسي حبة زرقاء بثمن لا يقدر، وذكرت مجلة الشبيجل الألمانية أن القائد العسكري الأمريكي (آيزنهاور) فتح أوروبا، ودحر النازية، في عملية السيد الأعلى، بالنزول على النورماندي، ولكنه لم يكن يقدر على ممارسة الحب مع أحب الناس إليه، وكانت سكرتيرته بديعة أراد أن ينكحها فعجز، وهو الذي استسلمت له أوربا، ولم تكن الحبة الزرقاء معروفة بالطبع.
ويذكر عن عالم أمريكي أنه كان يعالج لدائن من أنواع شتى، لإنتاج مادة صناعية تفيد المطابخ، وفي إحدى المرات حصل خطأ بشع حزن عليه صاحبه، ولكن الذي ظهر أن المادة الجديدة ممتازة وهي (التفلون)، وتنفع في طليها في قاع الطناجر، بحيث لا يلتصق بها الطعام، ومنها خرجت صحون التيفال المنوعة. التي لا تستغني عنها ربة منزل.
وهذه الخاصية بتزحلق المواد على سطحها حركت في ذهنه الاستفادة منها في صناعة الشرايين الصناعية. من مادة الجورتكس، وهي شرايين لا يستغني عنها جراح أوعية دموية حاليا. وصنع منها النوع المتطور الذي يتمطط، كما تم طليه من الداخل بالسواد زيادة في العمر ومنعا للخثرات.
واليوم يستخدم جراحو الأوعية الدموية مواد الجورتكس والتفلون من وراء هذه الغلطة المباركة.
ونفس القصة حصلت مع اكتشاف (البنسلين) الصاد الحيوي الرائع، من عفن نما على نحو عرضي، تم اكتشافه بمحض الصدفة، وتبين أنه ليس عفنا، بل عقارا رائعاً يقضي على العديد من الجراثيم الضارة.
وأذكر من رحلة اختصاصي في ألمانيا من مدينة (جيلزنكيرشن بور) أنني كنت أساعد جراحاً صربيا، وكنا في عملية استئصال تورم دموي خطير (أنورزم) في شريان البطن، فمد الزميل يده (بعنترية) ليعزله بطريقة لا تخلو من الخشونة، فكانت كلفتها أن الوريد الأجوف السفلي انقطع كلية، وانفتحت حنفيات الدم مدرارا.
وأصيب الجراح (البطل) طبعاً بالهلع، وما زلت أتذكره وكأن فكه السفلي انخلع من مكانه، قلت له: نحن في ورطة، وأنت بوضعك الحالي في ورطة أشد؛ فهدئ روعك وتماسك، حتى نستطيع السيطرة على الموقف. قال بانكسار وماذا نفعل؟ قلت له نضع أنابيب صناعية مكان المصابة، وهذا الذي كان، فقد زرعنا في مكان الإصابة شريان الجورتكس الذي ذكرته، وكانت الكلمات بردا وسلاما، وأمكن إنقاذ حياة المريض، الذي كان يسبح بين الموت والحياة، فاستأصلنا الأنورزم، وصلحنا الوريد الأجوف السفلي، وعاش المريض. واعترف الجراح في اليوم التالي بعسرة الساعة وفائدة النصيحة.
من الحديث الذي أوردناه وسقنا الأمثلة على الصحة النفسية هي أن الإنسان يجب أن يبقى متفائلا متماسكا في صدمات الحياة ويرى الجانب الإيجابي فيها، وهو أمر تربوي صعب التدرب عليه.
في هذا وردت في السيرة حوادث لا تصدق، كما في قصة (سراقة بن مالك) الذي كان يتقفى أثر النبي الهارب (ص) ليفاجأ به فيراه فتخسف الأرض من تحته (ربما كانت رمالا متحركة) فيقول له نبي الرحمة (ص) وهو يستغيث ما رأيك بسواري كسرى (الدملج بتعبير المغاربة) تلبسهما؟ فيضحك في نفسه؟ رجل يطارد ويتحدث عن انهيار إمبراطورية فارس وسقوط كنوزها المنهوبة من شعوب فقيرة لتقع بين أيدي الفاتحين المسلمين. أهو عاقل أم مجنون؟ لقد جاء ذكر الجنون من هذا النوع في الكثير من الآيات بل الكاهن والساحر والكذاب..
حتى يبعث خلفه عمر بعد انهيار مملكة فارس كلها، وجلب التحف من الفتوحات، ومنها بقايا مجوهرات الملك الغشوم الجبار الذي مسك كتاب نبي الرحمة (ص) إليه، فيلبسها سراقة حسب الوعد.
لا نعرف تماما الظروف والملابسات، ولكن روحية هذا الرجل (ص) صعدت به إلى الأعلى فلم تنل من عزيمته براثن الدهر والصدمات والتطويق فكان ينظر برؤية استراتيجية إلى أبعد من الجزيرة العربية، ويقول وهو يحفر الخندق مرتجزا مع الأنصار شعرا؛ فتقف في وجهه صخرة فيضربها وهو يقول فتحت القسطنطينية. وكان موعد تحقق هذه الجملة يحتاج سبعة قرون لاحقة حتى تسقط في يد العثمانيين عام 1453م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى