شوف تشوف

الرئيسية

أحمد بن عجيبة.. «المحبّ الفيلسوف»! -1-

إننا في حاجة اليوم إلى إعادة قراءة التراث الصوفي الإسلامي، فهناك مجموعة من الأسماء لم تنل حقها من القراءة والتأويل، وهي مشجعة حقا على التأمل. إن كشف لغتها الجمالية وتحليل خطابهـا مع ربطه بواقع زمننا الحاضر، من المؤكد أنه سيقودنا إلى اكتشاف مناطق جديدة في جغرافيا العقل الإسلامي، وخلق تساؤلات ومفهومات ومعارف جديدة.
وإذا علمنا أن علاقتنا النقدية والفاحصة مع التراث تحمي ذاكرتنا من النسيان وحضارتنا من اللانتماء، زاد شوقنا إلى كشف حدوده وخفاياه، والعمل على كيفية جعله معاصرا لنا.. يتحدث لغتنا في زماننا. ليس انفصالا عن ذاته، وإنما اتصالا.
ومن منطلق أن الصوفي فيلسوف أخلاقي بمعنى من المعاني، فليست مؤلفاته وتجربته الروحية إلا ميراثا إنسانيا. وإذا كان السؤال الفلسفي مسؤولا، حسب تعبير طه عبد الرحمن، فكذلك يجب أن يكون الناظر في التراث الصوفي.. فيلسوفا مسؤولا يختبر التراث عن جدارة واستحقاق، «واستحقاق هذا الإرث بما هو مسؤولية يقتضي إعادة إثباته، لا فقط باختياره، وإنما أيضاً باختيار الحفاظ عليه حيا»، مع العلم أن الموروث لا نختاره بكامل إرادتنا ووعينا بل هو من يختارنا وبقوة.
لقد كان أحمد بن عجيبة صادقا في رؤيته الصوفية للأشياء عندما عنون أحد كتبه بـ«إيقاظ الهمم»، أي هو إعادة الولادة لكن بصيغة عجيبية تليق برجل يعتبر من أعمدة الأخلاق الإنسانية والتصوف العالمي وليس فقط المغربي؛ أما العنوان فيريد من خلاله أحمد بن عجيبة أن يدفع القارئ إلى أبعد حدود التأويل.. وهي «اليقظة الروحية» أو قل «اليقظة الإيمانية» التي تجعل لكينونتنا البشرية معنى وعمقا إنسانيين كما تجدد رؤيتك للعالم والإنسان والله.. وترفعك إلى أفق قل ما يوصلك إليه، أفق أسس منذ البدء على ثلاثية: (إسلام، إيمان، إحسان)، أو قل: «طريقة، شريعة وحقيقة، أفق يوجهك من الفناء إلى البقاء.. ويدفعك إلى الشرب والسكر من خمرة المحبوب، تلك الخمرة التي شرب منها الحلاج والشيخ الرفاعي»!
وعندما تعلم أن «إيقاظ الهمم» في «شرح الحكم» أي في تأويل وتشريح الحكم العطائية علمت أن الرجل كان حريصا على المعنى.. وباحثا عنه، وجعله حيا في قلوب كل من له إرادة سلوك طريق الحقيقة المطلقة!
أحمد بن عجيبة الحسني 1224-1160هـ واحد من أعمق المحبين لله، بحر من العلوم النقلية والعقلية والذوقية، لسانه لا يفتر عن ذكر الله، كل أسفاره طلب للمعرفة والعرفان. لكن ما الذي يمكن أن يقدمه فكر يقوم على العرفان في زمن كاد أن لا يؤمن إلا بالمعرفة المادية؟ وما معنى أن تقرأ لأحمد بن عجيبة اليوم، وتفسيره الإشاري للقرآن؟ وكأني بهذه الاسئلة تدفعني إلى سؤال مسكوت عنه ألا وهو: ما معنى أن تكون متصوفاً اليوم؟
قال العارف بالله أحمد بن عجيبة نسبة إلى بعض المحققين: «من بلغ إلى حقيقة الإسلام لم يقدر أن يفتر عن العمل، ومن بلغ إلى حقيقة الإيمان لم يقدر أن يلتفت إلى العمل بسوى الله، ومن بلغ إلى حقيقة الإحسان لم يقدر أن يلتفت إلى أحد سوى الله.. ومن دلك على الدنيا فقد غشك، ومن دلك على الله فقد نصحك».
ها هنا تتضح أمامنا ماهية الصوفي ومعنى أن تكون صوفياً اليوم، في زمن لم يعد أحد يبحث عن حقيقة الدين إلا قليلا. ولا ينسون النفس إلا قليلا. ومن غاب عنها فلا يلقى إلاّ راحة. وطريق القوم محفوفة بالمخاطر، لأنك تحاول أن ترسخ وجودك فيها. وإن كان الفيلسوف الفرنسي ديكارت قد صرح ذات مرة بأن الشخص لا يمكن أن يؤكد هويته إلا بالتفكير، ويقول في ذلك جملته الشهيرة: «أنا أفكر إذن أنا موجود»، فلعلّ أحمد بن عجيبة قرأ هذه «الكوجيطو» ولسان حاله يقول: «أنا أعبده إذن أنا موجود»، ليحقق بذلك «كوجيطو» صوفي على طريقة الفلاسفة الكبار. وإن تأملنا جيداً هذه المقاربة سنجدها تسير في طريق واحد: فالتفكر عبادة، والعبادة تفكر، لا أقل ولا أكثر. فلا نخرج من التفكير العامي إلا لندخل في نسق الفيلسوف الذي يتخذ منتهاهُ رؤية صوفية إلى الكون، ليجد نفسه في عمق التفكير في بديع الله.. وهكذا كانت كبريات المذاهب الفلسفية؛ تبدأ بالمعرفة والتفكير في الإنسان.. لتنتهي بالتفكير في الله.. محبة لا تيهاً! وليس العمل الذي يقدّمه الصوفية سوى فلسفة أخرى للدلالة على الله.
غداً إن شاء الله نكمل الحديث عن مفهوم المحبة عند أحمد بن عجيبة والمحنة التي عاشها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى