الرئيسية

حياة بين المتناقضات

دار بيني وبين الوالد ذات مرة الحديث التالي:
ـ «دحمان الشريف» رجل سيئ.. لقد رأيته بأم عيني يدخن الكيف.. والناس رأوه يشرب الخمر الأحمر.. ويقول كلاما فاحشا بشهادة فلان وفلان من أقربائنا.. (كنت أملك جرأة لا حدود لها في الانتقاد والمواجهة).
ـ اصمت أيها «…» أنت لا تفهم في هذه الأمور، ولا ينبغي لك أن تتحدث فيها، ولا تحدث غيرك بها.. إن مثل هؤلاء الناس قد رفع عنهم «التكليف»، ولن يحاسبوا عن أفعالهم..
أجبته بالرغم من أن نعته لي بـ «…» آلمني كثيرا:
ـ أيعقل أن يكون المرء «شريفا» وفي الوقت نفسه يشرب الخمر ويدخن الكيف ويهوى النساء.. وأنت لا تفتأ تقول لنا إن كل هذه الأفعال حرام في ديننا.. (أذكر أني كنت أحمل في يدي مصحفا قديما فقد غلافه وأوراقا كثيرة منه.. أتعجب كيف جرى هذا الكلام على لساني وأنا لم أقرأ بعد عن الإسلام)
جلس أبي بعد أن كان واقفا من شدة الرد المفعم الذي لم يجد له جوابا.. أحسست أني أصبته في مقتل، وأنه لن تقوم له قائمة بعد الآن.. فقد هتكت ستر «الشريف»، واطلعت على أسراره وتناقضاته، كما كنت على إحاطة تامة بكل أفعال الفقيه «بوشتى»..
بالرغم من الضربة التي أوجعت بها أبي، فإنه تمالك نفسه مرة أخرى وأجابني بهدوء مصطنع:
ـ إن «الشريف» (يقصد به الشيخ الصوفي وأظن أن الأمور كانت ملتبسة في ذهن والدي) له أكثر من ذات.. فهو يتنقل في هذه الدنيا كما يحلو له.. قد ترى صورته ولا يكون هو.. قد يتواجد في مكانين معا.. قد تراه يعمل القبائح حسب الظاهر وهو في الباطن يقوم بالعمل الصالح.. أحذرك يا بني أن تتحدث في هذا الموضوع مرة ثانية، فقد تصيبك «لعنة الشرفا»… ثم ذكر لي قصة شيخ صوفي كان يزني بامرأة، والناس يعتقدون أنه رجل فاسد، لكن الحقيقة هي أن المرأة كانت زوجته.. لا أستطيع أن أتذكر هذه القصة بشكل كامل.. ما استطعت أن أفهمه هو أن «الصوفي» قد يأتي الحرام في الظاهر لكنه في الباطن يفعل الخير.. ما صنعه الوالد في الحقيقة هو أنه أفسد عقلي بمثل هذه التأويلات المبهمة، هذا في الوقت الذي كنت فيه صغيرا وكنت أحتاج إلى منطق سليم ينقذني من الحيرة والجهل، ويرفعني إلى مقامات العلم والعرفان..
عجبت كيف كان أهل الدوار يبجلون هذا الشريف تبجيلا لا يضاهيه تبجيل.. وهو في الواقع سكير وزير نساء.. كان غير مأمون الجانب.. يعيش على الصدقات.. يبتز «الفقراءَ» أموالَهم.. كان عالة على غيره، يسترزق بنسبه «الشريف»، هذا إن كان فعلا ينتسب إلى أهل الشرف..
زاد حديث والدي من حيرتي، ولم أعد أفقه شيئا مما يحصل حولي من ممارسات شاذة.. يدعوني إلى التعايش مع التناقضات والتسليم بها.. يريدني أن أعتبر المنكر إذا صدر عن «الشريف» معروفا.. وإذا جاهر بالسيئة أراها حسنة، وكل حسنة بعشر أمثالها.. ويضاعف الله للشريف ما يشاء من حسنات.. انقلبت الحقائق في عقلي منذ الطفولة.. فقدت الثقة في الفقيه «بوشتى»، وكسَّر «الشريف» كل معاني التصوف في نفسي.. هكذا كانت القبيلة تقبل بالتناقضات وتتستر على الفضائح.. تخفي الباطل وتظهر الحق حسب هواها.. تغض الطرف عن القبيح وتمدح الحسن وقتما تشاء.. تستسيغ الحرام في أوقات كثيرة وترفض الحلال عندما لا يتوافق مع رغبتها ومصلحتها.. تقبل من الرجل أن تكون له خليلة، وترفض مطلقا أن تكون له زوجة ثانية أو ثالثة.. هكذا الإنسان عموما ترغب نفسه في أن يتمتع بأجنبية عنه، ولا يقبل بتاتا من غيره أن يفعل ذلك مع قريبة له..
كان نصف دوارنا «بوعزاويا» ونصفه الآخر «تيجانيا».. الفرق بينهما هو أن «التيجانيين» لا يحبذون الجذبة الصوفية، ويكتفون فقط بترديد الذكر والمديح.. يستظهرون أورادهم في كل صباح ومساء.. وتتكون من الهيللة (لا إلاه إلا الله)، والاستغفار، والصلاة على النبي ويسمونها «صلاة الفاتح»، وهي أعظم صلاة عندهم على الإطلاق، فضلها لا يوازيه فضل كان أو سيكون.. لهم صلاة أخرى تسمى «عين الرحمة».. لم أتمكن من حفظها ولا فهمها بالرغم من أني سمعتها أكثر من مرة عندما كنت أذهب مع أمي لزيارة أخوالي.. أما «صلاة الفاتح» (اللهم صلِّ على سيّدنا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم) فأحفظها عن ظهر قلب لأن أمي كانت تخافت بها خوفا من أبي «البوعزاوي».. تمكن «التيجانيون» من بناء زاوية لهم في القبيلة.. أما «البوعزاويون»، فلم يكن لهم مقر غير الاجتماع في بيوت الفقراء.. أذكر بالمناسبة أن «التيجانيين» كان لهم ذكر آخر يسمى «الوظيفة» وهي تلاوة ما ذكرناه سابقا بعد عصر كل يوم جمعة.. تنتهي جلستهم أيضا بالأكل وشرب الشاي.. عشت كل ذلك أيضا عندما «كنت تيجانيا..» في وقت من الأوقات (تلك قصى أخرى)..
مما وقفت عليه في هذه الفترة أن أمي كانت «بوعزاوية» في الظاهر، فهي على دين زوجها، و«تيجانية» في الباطن، فهي تسير على منوال أخوالي.. عاشت تناقضا صارخا في حياتها، فكتمت إيمانها وتدثَّرت بلباس التقية والمداهنة.. لسانها مع زوجها وقلبها مع دين إخوانها.. ما أصعب الحياة أن يعيش فيها الإنسان عكس ما يؤمن به.. وأن يرى بعيون غيره.. ويأكل بذوقهم.. ويلبس على مقاسهم.. ويميل معهم حيث مالوا..
كان أخوالي يعاتبونها على ترك دين أجدادها واتباع دين زوجها.. يحذرونها من سخط «احمد التيجاني».. يقولون لها في غيبة من زوجها إن شيخهم الأكبر يَغارُ كثيرا على «أصحابه»، ولا يقبل منهم أبدا أن يتبعوا طريقة غير طريقته المثلى.. يخوفونها من مغبة اختيارها طريقة «البوعزاوي»، ومن أنها يمكن أن تموت على «ضلال» وتحرم نفسها من شفاعة «التيجاني».. يوسوسون لها بأن شيخهم وعدهم الجنة دون حساب أو عقاب، وأنهم سيدخلونها ويتمتعون بنعيمها بفضل شفاعة الشيخ الأكبر..
سمعت مرة خالي يقول:
ـ نحن أصحاب التيجاني أصحاب رسول الله.. من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. شيخنا هو خاتم الأولياء وقطب الأقطاب.. فلا ولي بعده، كما لا نبي بعد رسول الله.. (كان يردد دائما: كن تيجاني ولا تبالي)
قال لأمي في مناسبة أخرى:
ـ شيخنا يضع رجله على رقبة كل ولي من يوم خلق الله آدم إلى أن يُنفَخ في الصور.. (يتحدث إلى أخته وهو يضع سبحة كبيرة في يده.. وهي بدورها تداعب بين أناملها سبحة خضراء صغيرة..)
تجيبه أمي وكأنها تهمس في أذنه من شدة خوفها أن يعلم والدي بعقيدتها الدفينة:
ـ أعرف ذلك يا أخي.. وأعلم أن الشيخ لا يحب زيارة «الأولياء».. (تقول ذلك وهي لا تزال تزور ضريح سيدي العياشي)
خيمت على بشرة أمي سحابة قاتمة بعد حديثها هذا مع أخيها.. كانت تؤكد له أنها على طريقة أجدادها، لكنها لا تريد أن تغضب زوجها، لأن طاعته أيضا واجبة.. عاشت المسكينة في تلك الفترة من حياتها في البادية بين اعتقادين متناقضين.. حاولت دائما التوفيق بين زوجها وإخوانها.. بين البوعزاوي والتيجاني.. ما أجلدك أمي!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى