شوف تشوف

سري للغاية

الجابري: «المفهوم الجديد للسلطة جاء لتجاوز «المعوقات البنيوية» وتسريع وتيرة الإصلاح»

بنية السلطة في المغرب
الفصل السادس
بنية السلطة على عهد الحماية الفرنسية
«البيان المطرب لنظام حكومة المغرب»
أولا: قصتي مع كتاب
ليس هذا العنوان من وضعي واختراعي بل من وضع السيد عبد الحميد بن أبي زيان بنشنهو الذي حدد هويته بالعبارة التالية: «ترجمان ممتاز». وتلك درجة عليا في سلك التراجمة الذين كان معظمهم جزائريين أيام الحماية الفرنسية بالمغرب. وكان الجزائريون آنذاك يحملون الجنسية الفرنسية بحكم كون بلادهم كانت مستعمرة تعتبرها فرنسا امتدادا لأراضيها، فكانوا موضوع ثقة الإدارة الفرنسية، التي كانت توظفهم في الإدارة العمومية ليقوموا بالترجمة من العربية إلى الفرنسية وبالعكس. فكانوا واسطة بين جهاز المخزن القديم والسكان المغاربة عموما وبين إدارة الحماية الفرنسية وحكومة المخزن.
ألف الترجمان بنشنهو كتابا بالعنوان أعلاه ليكون ـ كما يقول ـ مرجعا «للموظفين الذي يفتقرون إلى معرفة نظام المغرب أثناء أشغالهم، وبصفة عامة للمغاربة الراغبين في الاطلاع على قوانين بلادهم»، يجنون منه «فوائد تعرف بها حالة المغرب القديمة والحالية من حيث النظام الملكي… والحكومة المغربية وأحكامها».
ترجع صلتي بهذا الكتاب إلى سنة 1952، وهي السنة التي تفتح فيها وعيي السياسي والوطني من خلال الأحداث التي شهدتها هي والسنة التي قبلها، والتي كان بطلها الجنرال جوان الذي عينته الحكومة الفرنسية مقيما عاما بالمغرب (ممثلا لها ويحكم باسمها) ليجعل حدا لنشاط الحركة الوطنية التي كانت تعرف تحولا نوعيا بانضمام العمال وأبناء القرى إلى صفوفها خصوصا في المدن التي عرفت ازدهارا عمرانيا استعماريا، بعد أن تحول كثير من رؤوس الأموال الفرنسية إلى المغرب في ظروف الحرب العالمية الثانية واحتلال ألمانيا النازية لفرنسا. دشن الجنرال جوان (1951) حملة واسعة من القمع استهدفت الحركة الوطنية قيادة وأطرا، وتابع خلفه الجنرال كيوم نفس الحملة التي بلغ بها ذروتها بعزل محمد الخامس ونفيه (غشت) 1953.
كنت في تلك المرحلة قد قضيت السنة الأولى إعدادي في وجدة 1951 لأنتقل في السنة الموالية إلى الدار البيضاء. كان وعيي السياسي الوطني قد تشكل قبل ذلك من خلال صحبة الوالد وانتسابي لمدرسة النهضة المحمدية بفجيج، المدرسة الوطنية التي درست فيها السلك الابتدائي والقسم التكميلي. كان الخطاب الوطني سواء في تلك المدرسة أو في النشرة الحزبية والجرائد الوطنية التي كنت على صلة بها من خلال الوالد، خطابا مؤدلجا بطبيعة الحال، كان خطابا تمجيديا، يقدم المغرب قبل الحماية على أحسن صورة، قويا ذا حكومة راقية التنظيم. وهذا كان يثير فضولي. كنت أتشوق إلى معرفة تفاصيل عن الحكومة المغربية قبل الحماية، وهو شيء لم نكن نتلقاه لا في المدرسة ولا في الوسط الحزبي. وذات يوم وأنا أمشي في الشارع الذي يقع بين قيسارية الحفارين وسور «بوسبير» في درب السلطان بالدار البيضاء إذا بعربة بائع الكتب، التي اعتدت الوقوف عندها لاقتناء ما يهمني من الكتب القديمة والحديثة، تجذب انتباهي وقفت عندها فإذا بكتاب بعنوان البيان المطرب لنظام حكومة المغرب، فاشتريته. وعدت توا إلى مقر إقامتي لقراءته. ولشد ما كانت صدمتي قوية عندما تبين لي أن «حكومة المغرب» التي يتحدث عنها هي شيء آخر تماما غير تلك التي كنت أتصورها في ذهني من خلال الخطاب الوطني.
ألقيت بالكتاب جانبا كارها له، مقررا بيني وبين نفسي أنه وضع خصيصا، من طرف خدام الحماية الفرنسية، لتكذيب ما يقرره الخطاب الوطني في هذا الموضوع. كنت أكره هذا الكتاب فعلا، ومع ذلك كنت أعود إليه بين حين وآخر. لقد كان يفرض نفسه علي بأسلوبه «البارد» الحيادي، أعني لخلوه من أي ميل لا إلى التضخيم ولا إلى التصغير والتحقير. وشيئا فشيئا صار يمثل لدي «الواقع» الذي لا بد من التعامل معه، أعني الواقع الذي «كان»، بينما الخطاب الوطني، سواء في النشرة الحزبية أو في الجرائد الوطنية أو في الكتب، يمثل «ما كان ينبغي أن يكون»، أو بالأحرى ما يجب أن نعتقد أنه كان.
المهم هو أن هذا الكتاب قد جعلني منذ ذاك الوقت أفضل بين الواقع والرغبات، وأكثر من ذلك استطعت أن أرى «حكومة المغرب» على حقيقتها، قبل الحماية وأثناءها. وبفضل هذه المعرفة صرت قادرا على فهم كثير من الأمور «الحكومية» في المغرب المستقل.
ثانيا: بنية المفهوم القديم للسلطة
من أجل هذا رأيت أن أنقل هنا تلك الصورة التي تكونت لدي عن «نظام حكومة المغرب» والتي هي جزء لا يتجزأ من ذاكرتي السياسية، وذلك قبل الكلام عن الحكومات الثلاث التي سبقت حكومة عبد الله إبراهيم، وعن هذه الحكومة نفسها التي هي موضوع هذا الفصل.
أفعل ذلك لأنني وجدت فيه فعلا خير وسيلة لفهم عوامل وأسباب ما سيتردد في هذا الفصل من «التناقض بين حكومة عبد الله إبراهيم والمصالح الإدارية»، وهو نفسه التناقض القائم بين هذه المصالح وحكومة التناوب برئاسة اليوسفي. إنه التناقض الذي يخفي وراءه ما صار يعبر عنه منذ سنوات بـ«الحزب السري تارة»، وبـ«جماعة الضغط» تارة أخرى، وبـ«الحكومة السرية» أو «الموازية» حينا.
إنه ـ في نظري على الأقل ـ نفس الشيء الذي عبر عنه جلالة الملك محمد السادس حين أشار في خطابه بالدار البيضاء إلى وجود «معوقات بنيوية» تجعل الإصلاح يسير بوتائر بطيئة. وأنا أعتقد أن «المفهوم الجديد للسلطة» الذي نادى به جلالته إنما يكتسب معناه من الرغبة في تجاوز تلك «المعوقات البنيوية»، وبالتالي لا يمكن استيعاب مدى أهميته والحاجة إليه إلا إذا كشفنا الغطاء عن البنية العامة التي كان يمارس عبرها المفهوم القديم للسلطة.
ثالثا: حكومة المخزن قبل الحماية الفرنسية
يقدم لنا الترجمان بنشنهو وصفا مختصرا لحكومة المخزن قبل الحماية الفرنسية لينصرف بعد ذلك إلى وصف هذه الحكومة هي وإدارة الحماية بالمغرب، كما بلغ بهما التطور في أواخر عهد الحماية.
يقول بنشنهو: «فحكومة المغرب كانت ولازالت تسمى المخزن وقصر السلطان، أو دار المخزن، فيه حرمه وديوانه وهو المشور وكانت دار المخزن بفاس، غير أن بكل مصر (= مدينة) كانت للسلطان دار مخزنية ينزل فيها في سفره. وأما حاشيته فمنقسمة إلى أصحاب، ومسخرين، وجيش. فالأصحاب أنفسهم ينقسمون إلى قسمين: فأهل الشكارة، وأهل الكمية. أما أهل الشكارة فهم طائفة من الجند كانوا يلازمون السلطان حضرا وسفرا ولا يفارقونه بحال، وهم أرباب الحكومة المغربية، منهم الحاجب والوزراء والكتاب الذين يرجع أمرهم إلى الصدر الأعظم (هو بمثابة مدير الديوان الملكي ويقوم بمهام الوزير الأول). وأهل الكمية مختصون بخدمة السلطان الشخصية تحت نظر قائد المشور يسمون أصحاب الحناطي، فمنهم أرباب الفراش، ومنهم القهارمة القائمون على طعام السلطان وشرابه، ومنهم أرباب الوضوء والسجادة، وكلهم من العبيد يرجع أمرهم إلى الحاجب».
«والحاجب من خاصة السلطان بمنزلة كاتبه السري، يحجز بينه وبين الرعية ويمنع الناس من الدخول على الأمير، فلا بد من الاستئذان للدخول إليه، وهو يطلعه على أسراره، وغالبا ما يكون من عيونه يخبره بما يحدث في الخارج، وهو أيضا صاحب ديوانه ليجيبه عندما احتاج إليه ليلا ونهارا، ويحرس على شخصه. وعنده الخاتم الملكي لأجل المحافظة عليه. وليس في القصر الملكي أحد له ثقة الأمير كالحاجب، وهو مستشاره السري في المهمات وحتى في تدبير الملك. ولذلك نرى أمور الملك تتمشى على أحسن حال إن كان الحاجب من أعلم الناس وأتقاهم وأشدهم خوفا على المسؤولية، وتراها فاسدة، والفوضى سائدة في البلاد، إن كان الحاجب من ذوي الأغراض والرشوة وقلة الدين». أما قائد المشور فـ«هو رئيس الحنطات الملكية، دأبه المحافظة على النظام الداخلي لدار المخزن». وله سلطة حتى على الوزراء، ينبههم إذا خالفوا النظام الداخلي للقصر كما يرتب الحفلات.
«وكان للأمير أعوان يقلدهم خططا مختلفة وهي الوزارة والقضاء وخطة أصحاب الأمصار والحسبة والشرطة. وكانت تتوزع هذه الوظائف على رجال الدولة، كل واحد حسبما يعينه الملك الذي تكون يده عالية عليهم، فكان يتم بذلك أمره ويحسن قيامه بسلطانه».
والوزراء خمسة:
ـ الصدر الأعظم وهو رئيس الديوان الملكي يدير أمور الملك. وإذا كان الملك غير راشد تولى الأمر مكانه.
ـ «وزير البحر» ويقوم بمهام وزير الخارجية اليوم.
ـ «أمين الأمناء» مكلف بالشؤون المالية والنفقات… إلخ.
ـ «العلاف» مكلف بشؤون الجند، كالمسكن والملبس والراتب…إلخ. وقد جاء اسمه من كونه يعلف الخيل.
ـ «وزير الشكايات» مكلف بالشكايات التي تقدم ضد العمال وظلمهم إلى الملك، يرتبها ويرفعها إليه.
ـ «المظالم» أي «النظر في سيرة العمال وزجرهم».
أما ميزانية الدولة قبيل الحماية فيقول عنها: «إن المداخيل كان لا ضابط فيها ولا مراقبة عليها إلا تقوى صاحبها وخوفه ربه، وامتاز أصحاب الأموال بعدم تحريهم وبالتفريط، مما أدى بالبلاد إلى الانحطاط».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى