شوف تشوف

سري للغاية

الجابري: «بوعبيد اشترط وضع السلطة التشريعية بيد محمد الخامس لأنه لن يتصرف إلا بما تمليه مصلحة الشعب»

وقع نوع من «التواطؤ التاريخي» جعل مفاوضات «إيكس ليبان» تتم شكليا في إطار يجمع «جميع الأطراف المغربية»، أما في الحقيقة والواقع فقد كانت مفاوضات بين الطرف الليبرالي المعتدل في الحكومة الفرنسية ومماثله في قيادة حزب الاستقلال. كانت مفاوضات «إيكس ليبان» عملية ناجحة على مستوى الإخراج المسرحي، فهل كانت كذلك فعلا على مستوى الفاعلية السياسية؟
لقد عاش المناضلون في تنظيمات الحزب والمقاومة والنقابة، بل عاش الشعب المغربي ككل سنة 1955 ـ 1956، هذا الإخراج المسرحي بصورة ملموسة، وعايشوا حلقاته لحظة لحظة. لقد بدأ نوع جديد من الاستياء يستشري في صفوف هذه التنظيمات، وبات المناضلون الأصفياء وغير الأصفياء وبات المغرضون كذلك، بمن فيهم عناصر التشويش المجندة من هنا وهناك، بات الجميع إذن يحمل المسؤولية لمفاوضات إيكس ليبان، أي للجنة التنفيذية للحزب التي قبلت التفاوض من موقع ضعف وفي ظل شروط كان من الواجب رفضها، وكان من الممكن تغييرها لو تحالفت اللجنة التنفيذية مع المقاومة والنقابة. فكيف واجهت اللجنة التنفيذية هذا الاستياء؟
ثانيا: إكراهات.. في المغرب وفي فرنسا!
لاشك أن اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال كانت تعرف قبل غيرها مدى الخسارة التي كانت تلحقها بالحزب تلك المناورة التي حبكها الفرنسيون والتي كانت تهدف إلى تقييد حرية تصرف المفاوضين الوطنيين في مفاوضات عودة محمد الخامس أولا، ثم في مفاوضات الاستقلال ثانيا. وإذا نحن نظرنا إلى الأمور من الزاوية التي كانت تنظر منها اللجنة التنفيذية يومئذ أمكن القول إنها كانت تجد نفسها إزاء إكراهات بعضها يرجع إلى الوضع الداخلي في فرنسا وبعضها يعود إلى الوضع داخل المغرب وفي حزب الاستقلال نفسه!
فمن جهة كانت الحكومة الفرنسية تواجه ضغوطا قوية من جانب المعمرين وأصحاب المصالح الفرنسيين، بما في ذلك الغلاة وبعض العسكريين، وكان «الجميع» يرفض إرجاع محمد الخامس لأنهم كانوا يرون في ذلك مسا بـ«الكرامة الفرنسية» من جهة، وانتصارا لحزب الاستقلال العدو اللدود للغلاة الفرنسيين من المعمرين والعسكريين من جهة ثانية، وتنكرا من جانب فرنسا لـ«لأصدقائها» الذين وقفوا إلى جانبها في معركتها ضد حزب الاستقلال ومحمد الخامس من جهة ثالثة. ومن هنا اقترح الفرنسيون على الوفد الاستقلالي المفاوض القبول بالاستقلال وترك عودة محمد الخامس إلى أن يرتب المغرب بيته على أساس الدستور والديمقراطية، الشيء الذي لن يستطيع اليمين الفرنسي والغلاة إنكاره على المغرب حينئذ. وقد عرض الفرنسيون على الملك محمد الخامس الإقامة في فرنسا «حرا طليقا» وصرف النظر عن عودته إلى المغرب ملكا، فرفض ذلك، على الرغم من أن ولي العهد ـ في ما يقال ـ لم يكن يمانع في هذا الحل.
أما من جهة المغرب فقد كان هناك رأيان: رأي الزعيم علال الفاسي الذي كان يرى أن الطريق الوحيد لمواجهة ضغوط المعمرين والغلاة الفرنسيين هو تصعيد المقاومة المسلحة والمضي في تقوية جيش التحرير وتسليحه والسير قدما في اتجاه التنسيق مع الثورة الجزائرية، وكان علال مقيما في القاهرة كلاجئ سياسي. أما الرأي الثاني فهو رأي اللجنة التنفيذية بالرباط التي لم يكن كثير من أعضائها يرتاحون للكفاح المسلح أصلا. لقد كان هؤلاء يرون في هذا الاتجاه «خطرا» على «الحزب»، أي على هياكله القديمة وقيادته التقليدية. لقد كان الوضع داخل حزب الاستقلال يهدد بالانفجار في كل لحظة. وذلك ما راهن عليه الفرنسيون وصنيعتهم «القوة الثالثة». وكان من الممكن جدا أن يحدث الانفجار بين القيادة الحزبية المحافظة وبين المقاومة والنقابة (الاتحاد المغربي للشغل) عندما قبلت اللجنة التنفيذية الدخول في مفاوضات إيكس ليبان، لولا أن الشهيد المهجي عرف كيف يقيم الجسور بين المقاومة والنقابة من جهة والوفد الحزبي المفاوض في إيكس ليبان ـ وعلى رأسه المرحوم عبد الرحيم ـ من جهة أخرى.
ثالثا: مرحلة انتقالية وحكومة ائتلافية
انتهت مفاوضات «إيكس ليبان» إلى صيغة تسمح بعودة محمد الخامس أولا، وتشكيل حكومة ائتلافية تمثل «القوى» التي دعيت للمشاركة في تلك المفاوضات ثانيا، وتكون مهمتها الدخول مع الحكومة الفرنسية في مفاوضات الاستقلال.
ـ أما عودة محمد الخامس فقد وقع الاتفاق على أن تتم عبر مرحلة انتقالية: عزل محمد بن عرفة الذي كان الفرنسيون و«القوة الثالثة» قد نصبوه ملكا، وتنصيب مجلس لـ«حفظة العرش» في انتظار عودة محمد الخامس وتشكيل حكومة انتقالية إلى جانبه. وقد نصب الفرنسيون يوم 17 أكتوبر 1955 (قبل عودة محمد الخامس بشهر) مجلسا لـ«حفظة العرش» يتألف من مبارك البكاي، والصدر الأعظم محمد المقري، وباشا سلا محمد الصبيحي، والقائد الطاهر أوعسو. كما عينوا الفاطمي بنسليمان رئيسا للحكومة وقد رفض حزب الاستقلال هذا المجلس لكونه «غير مطابق للمجلس المقترح في إيكس ليبان والذي قبله الملك في أنتسي رابي». كما رفض المشاركة في حكومة الفاطمي بنسليمان، وطلب من البكاي الانسحاب من المجلس باعتبار أنه كان هناك «تنسيق» بينهما فرفض، أما حزب الشورى فقد قبل بذلك المجلس.
ـ وأما الحكومة الائتلافية فقد أصر الفرنسيون على أن يرأسها مبارك البكاي باعتباره شخصية محايدة وأن تضم جميع الأطراف التي دعيت لـ«المشاركة» في مفاوضات إيكس ليبان. وقد عقدت اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال اجتماعا بمدريد في منتصف نوفمبر 1955 لتحديد الموقف الذي سيعرض على «المؤتمر الاستثنائي» للحزب الذي دعت إليه لنفس الغرض. حضر اجتماع مدريد كل من علال وبلافريج ومحمد اليزيدي وعمر بن عبد الجليل وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الكبير الفاسي. لم يحضر الشهيد المهدي لأنه كان منشغلا في الرباط بالإعداد التنظيمي لـ«المؤتمر». كان القرار الذي اتخذته اللجنة التنفيذية بمدريد يتألف من نقطتين: التمسك بمبدأ الاستقلال التام وعدم التنازل عنه خلال مفاوضات الاستقلال. المشاركة في الحكومة الائتلافية على أساس وضع كل السلطات في يد محمد الخامس لقطع الطريق أمام استعمال الفرنسيين لأصدقائهم في الحكومة الائتلافية وعلى رأسهم مبارك البكاي, رئيس الحكومة. أما كيفية تقديم هذا القرار إلى «المؤتمر الاستئنائي» فذلك ما كلفوا به المرحوم عبد الرحيم بوعبيد الذي كان يمسك بجماع مفاوضات إيكس ليبان.
رابعا: مؤتمر استثنائي… لموقف استثنائي!
انعقد «المؤتمر الاستثنائي» لحزب الاستقلال بالرباط في 2 دجنبر 1955. وقد بدا واضحا من الشخصيات القيادية التي لم تحضر المؤتمر أنه كان هناك داخل اللجنة التنفيذية ذاتها من لم يكن راضيا، أو على الأقل لم يكن متحمسا لما سيعرض على المؤتمر. فعلال الفاسي فضل البقاء في تطوان، ومحمد اليزيدي (بوشعيب: «ضمير الحزب») غضبان في طنجة منذ أن أخبر أنهم قبلوا المشاركة في حكومة لا يرأسها أحد قادة الحزب.
كان المؤتمر في الحقيقة تحت مسؤولية الشهيد المهدي والمرحوم عبد الرحيم. قدم عبد الرحيم تقريرا يشتمل على محورين رئيسيين:
ـ المحور الأول يدور حول قرار الحزب المشاركة في حكومة يرأسها البكاي وتشارك فيها الأطراف الأخرى. قال عبد الرحيم: لقد قبلنا برئاسة البكاي للحكومة لموقفه النبيل في غشت 1953، وأضاف و«وما أكثر مسيري الحزب وأعضائه الذين لا يقبلون ذلك إلا على مضض».
ـ المحور الثاني يتضمن رأي «الحزب» في مهام هذه الحكومة، وهي المهام التي ستكون مقصورة على المفاوضة مع فرنسا حول طبيعة العلاقات التي يجب أن تبنى بينها وبين المغرب المستقل، وبعبارة قصيرة مفاوضات إنهاء الحكم الفرنسي المباشر. أما تنظيم الشأن الداخلي في المغرب، بما في ذلك الديمقراطية والدستور، فذلك ما يخص المغاربة وحدهم، وبالتالي فهو ليس موضوعا للمفاوضة ! وهكذا فما دامت رئاسة الحكومة لن تكون من نصيب حزب الاستقلال، وما دامت مناصب مهمة في هذه الحكومة ستسند إلى شخصيات من «الأطراف الأخرى»، فيجب أن تنحصر مهمة الحكومة في المفاوضات مع فرنسا، وملفها كما هو معلوم في يد الحزب وبالذات في يد عبد الرحيم. فمن هذه الناحية إذا لا خطر. فما سيقبله الحزب سيكون، وما لا يقبله الحزب لن يكون، أما الشؤون الأخرى، وبالخصوص منها ممارسة السلطة وهيكلة الدولة «فيجب أن توضع كلها في يد الملك وحده، لأنه هو وحده الضمانة. إن هذا يعني أن السلطة التشريعية يجب أن تبقى كلها في يد الملك فلا يفوض منها شيئا إلى الحكومة، ولا يمكن أن يسلمها إلا لمجلس وطني منتخب كامل السيادة. إن اختصاصات الحكومة الانتقالية ـ موضوع الكلام ـ يجب أن تنحصر في إصدار قرارات تطبيقية خاصة بالنصوص التشريعية الصادرة عن جلالة الملك مع إمكان اقتراح مشروعات قوانين».
كان التقرير، كما هو واضح، تبريريا، ولكن يمكن اعتباره بالنظر إلى الظروف التي قدم فيها تقريرا ناجحا، خصوصا في أهم مسألة كانت تواجه الحزب، مسألة الدور الذي ستلعبه «الأطراف الأخرى» التي أقحمت في اللعبة خلال المفاوضات التأسيسية، مفاوضات إيكس ليبان. إن حصر مهمة الحكومة في التفاوض مع فرنسا معناه أن الحزب هو الذي سيمسك بالملف، كما وأن جمع السلطة التشريعية كلها في يد محمد الخامس «معناه أن الشعب هو صاحبها لأن محمد الخامس لن يتصرف إلا بما تمليه مصلحة الشعب»، وأيضا لأن العلاقة بين حزب الاستقلال ومحمد الخامس كانت علاقة تحالف منذ 1943 على الأقل، وقد توطدت في الحلف السري الذي جمعهما رسميا بمناسبة تقديم وثيقة الاستقلال في 11 يناير 1944.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى