الساسة الشعبويون.. التهديد الأخطر على الديمقراطية
كتاب «تهديد دولة الحق» لباتريس سبينوزي

يركز كتاب «تهديد دولة الحق» لباتريس سبينوزي على تأثير صعود الشعبوية، ممثلة في نموذج دونالد ترامب، على المؤسسات السياسية الأمريكية، ومن خلاله على نموذج الديمقراطية الغربية، مع تحليل التغيرات التي طرأت على علاقة مؤسسات الحكم مع باقي المؤسسات السياسية، وعلى ردود أفعال هذه المؤسسات تجاه محاولات ساسة يمينيين شعبويين لتجاوز القواعد التقليدية وتوسيع سلطاتهم.
تهديد الديمقراطية
يكتسب كتاب «تهديد دولة الحق» أهميته من خلال تناول تأثير الشعبوية على النظم السياسية الأمريكية في ظل التغيرات السياسية الجارية في الولايات المتحدة الأمريكية. وتُعد الشعبوية ظاهرة مؤثرة على استقرار النظام الديمقراطي، ولها القدرة على تغيير توجهات السياسات الداخلية والخارجية.
فمنذ عودة دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة، يلوح التهديد في الأفق. لكن هذه التهديدات قائمة أيضًا في أماكن أخرى من العالم، على سبيل المثال في الأرجنتين والمجر وإيطاليا، وحتى في فرنسا، حيث طعنت مارين لوبان بشكل ملحوظ في قرار المحكمة الذي حكم عليها بعدم الأهلية بتهمة اختلاس المال العام. ونددت بـ «قرار سياسي» من جانب القضاة، بل وتحدثت عن «انتهاك لسيادة القانون» في ضوء ما يُزعم أنه غياب للفصل بين السلطات.
في بلجيكا، وقّع رئيس الوزراء بارت دي ويفر، أخيرًا، رسالة مفتوحة مع ثمانية رؤساء دول وحكومات آخرين لمراجعة دور المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، التي يعتقدون أنها تحدّ من قدرتهم على السيطرة على الهجرة غير النظامية. وتُنتهك بعض حقوق الإنسان، وتُستهدف وسائل الإعلام الرئيسية بانتظام. باختصار أصبحت سيادة القانون ككل الآن في خطر.
يبدأ كتاب باتريس سبينوزي على هذا النحو: «دولة الحق لها عيب واحد: من الصعب تعريفها». ويوضح سبينوزي قائلاً: «دولة الحق هي دولة تقبل الخضوع للقانون، وتقبل القواعد والقيود المفروضة على سلطتها». وفي حين أن عددًا من الديمقراطيات تبتعد حاليًا عن سيادة القانون، فإن المثال الأبرز هو الولايات المتحدة، حيث يبدو أن الأمور تغيرت في غضون أشهر. ويرى الكاتب: «هناك عنف استثنائي، وكفاءة استثنائية، وسرعة استثنائية في تفكيك الديمقراطية في الولايات المتحدة، وبالتالي سيادة القانون، على الرغم من أننا كنا نعتقد أننا نتعامل مع ديمقراطية راسخة ونموذج لعدد كبير جدًا من الدول. لذا، يمكننا أن نرى بوضوح أن السياسي المدفوع بنوايا شعبوية قادر، إن شاء ذلك، على تقويض الضمانات وتقويض الحريات بسرعة كبيرة».
يتضمن هذا توترًا كبيرًا مع القضاة المستقلين وتهديدات وتشويهًا لمصداقيتهم، بالإضافة إلى تحدٍّ لوسائل الإعلام من خلال فرض عقوبات. وهذا خطرٌ يُرجَّح أن تواجهه أوروبا أيضًا. في عام 2023، حدّد التقرير السنوي للمعهد الاتحادي لحقوق الإنسان (IFDH) ثلاث قضايا محورية في بلجيكا: التهميش المتزايد للقضاء، والتهديدات ضد المدافعين عن حقوق الإنسان وضعف الحق في الحصول على المعلومات.
تُعدّ الولايات المتحدة الأمريكية نموذجًا كلاسيكيًا للديمقراطية الليبرالية الحديثة، بنظام سياسي يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها، من خلال مؤسسات راسخة مثل المؤسسة الرئاسية، الكونغرس، القضاء والأحزاب السياسية. وشكّلت هذه المؤسسات الضمانة الأساسية لاستمرار النظام الديمقراطي الأمريكي، حيث لعب كل منها دورًا محوريًا في ضبط إيقاع الحياة السياسية، ومنع تغوّل أي سلطة على أخرى، وذلك في إطار من القواعد الدستورية والتقاليد الديمقراطية المتجذرة.
غير أن العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين شهد تحوّلًا لافتًا في البيئة السياسية الأمريكية، في ظل تصاعد الاستقطاب السياسي والاجتماعي وعودة الانقسامات الثقافية والعرقية، ما مهّد الطريق لصعود خطاب شعبوي، وجد صداه في حملة دونالد ترامب الانتخابية، التي مثلت تحديًا مباشرًا للمؤسسات التقليدية، وللقيم التي يقوم عليها النظام السياسي الأمريكي. فقد خاض ترامب حملته باعتباره مرشحاً خارجياً، مهاجمًا النخبة السياسية، الإعلام، وحتى مؤسسات الحكم، مستندًا إلى قاعدة شعبية ناقمة على الوضع القائم، وتشعر بالتهميش والقلق من التغيرات الاقتصادية والديمغرافية.
وخلال فترة حكمه (2017- 2021)، اتسمت العلاقة بين دونالد ترامب والمؤسسات السياسية بالتوتر والشد والجذب. فقد سعى إلى توسيع سلطاته التنفيذية على حساب الكونغرس، وهاجم استقلالية السلطة القضائية، وانتقد قرارات المحكمة العليا، بل ولوّح بعدم الالتزام بها. وحاول التأثير في البنية الحزبية للحزب الجمهوري، دافعًا إياه نحو مزيد من الراديكالية والولاء الشخصي، على حساب الانضباط المؤسسي.
منذ توليه المنصب للمرة الثانية، أبدى ترامب رغبة واضحة في إعادة هيكلة النظام الفيدرالي لصالح السلطة التنفيذية، متجاوزًا التوازن الدستوري الذي يفصل بين السلطات الثلاث. فقد عمد إلى تعزيز سلطاته الرئاسية عبر تهميش الكونغرس، وتقويض استقلالية القضاء، واستهداف الصحافة الحرة في محاولة لتقليص أي مقاومة داخلية لسياساته. هذا النهج، إذا استمر، قد يؤدي إلى إعادة تشكيل النظام السياسي الأمريكي بشكل جذري، حيث تتحول السلطة إلى مركزية أكثر، ويتقلص دور المؤسسات الرقابية التي تُعد حجر الأساس للديمقراطية الأمريكية.
الشعبوية.. شعب ساذج يصدق نخبا فاسدة
يرجع أصل مصطلح «الشعبوية» إلى الكلمة اللاتينية populus التي تعني «الشعب»، وهي تقابل في اللغة الإنجليزية كلمتي popular وpeople على سبيل المثال، يُستخدم مصطلح populus Romanusللإشارة إلى «الشعب الروماني»، دون أن يدل بالضرورة على الأفراد بشكل فردي وتقوم فكرة الشعبوية من هذا المنظور على مبدأ الحكم من قِبَل الشعب ككل، في مواجهة مفاهيم مثل: البلوتوقراطية (حكم الأثرياء)، الأرستقراطية (حكم النخبة الوراثية) والنخبوية (حكم الصفوة) وهي أنظمة تستند إلى الامتيازات الطبقية أو الاقتصادية أو التعليمية.
وتُعد الشعبوية من أكثر المفاهيم إثارة للجدل والغموض في ميدان العلوم السياسية والاجتماعية، إذ يُستخدم المصطلح في سياقات متعددة ومتباينة. يُطلق على زعماء يساريين في أمريكا اللاتينية، كما يُستخدم لوصف أحزاب يمينية في أوروبا، وقد أدى هذا الاستخدام الواسع إلى خلق التباس في معناه.
وبشكل عام، تُعرّف الشعبوية على أنها أيديولوجية تقسم المجتمع إلى فئتين متضادتين: «الشعب النقي» و«النخب الفاسدة» وبهذا المعنى، توجه الشعبوية نقدًا جذريًا للمؤسسات التي تسيطر عليها النخب، وتدعو إلى تجسيد «الإرادة الحقيقية للشعب»، في ظل نظرة ريبة وشك إلى المؤسسات التمثيلية.
وحسب سبينوزي دائما، فإن التهديدات التي تواجه حرياتنا اليوم ليست واضحة للعيان دائمًا على أنها من الخارج. إذ لم نعد نتعامل مع ديكتاتوريات كما شهدناها في القرن العشرين، ما يعني أنه لم يعد هناك وصول للدبابات، ولا إسقاط للأنظمة، وما إلى ذلك. فاليوم، تتعرض حرياتنا للتهديد من أعداء من الداخل، من قبل أشخاص انتُخبوا بطريقة ديمقراطية بحتة. وبقدر ما يمنعنا حكم القانون من القيام بأمور معينة، يستهدفه الشعبويون ويدينونه باعتباره «عنصرًا معرقلًا». إذا نجح الشعبويون الآن في «جعل» حكم القانون عتيقًا، فإن المشكلة الحقيقية بالنسبة لباتريس سبينوزي تكمن في ما يعوضه. «اليوم، هناك عدد من الناس الذين لم يعودوا يتماهون مع الديمقراطية الليبرالية كما عرفناها دائمًا، ويجدون أن حكم القانون هذا لا يرضيهم. أو على الأقل ليسوا متمسكين به بشكل خاص، ومستعدين لتجربة شيء آخر».
يتناول الكتاب، إذن، الشعبوية اليمينية (التي تتميز بها فرنسا بالشعبوية اليمينية المتطرفة)، والشعبوية اليسارية (التي تتميز بها فرنسا بتهديد حزب اليسار الفرنسي)، والشعبوية الوسطية. ووفقًا لباتريس سبينوزي، فإن هذه الشعبوية قائمة على الانتهازية والجبن في فرنسا وبلجيكا. وخطر خروجها عن السيطرة كبير جدًا. ويحذر: «من المرجح أن يؤدي كل هذا إلى صعود حكومات تُقيد، عمليًا، حريات جميع المواطنين، كما هو الحال دائمًا عند وصول الشعبويين إلى السلطة في أي بلد».
هنا تحديدًا يجب علينا إدانة خطاب الشعبويين. أي أن سيادة القانون ليست قيدًا على الحريات، بل هي ما ضمن لنا، لما يقارب 70 عامًا بعد الحرب العالمية الثانية، الوحدة والازدهار، وقبل كل شيء السلام في أوروبا، كما يجادل باتريس سبينوزي. لطالما عانت أوروبا من الحروب، لكن إذا كنا نعيش في سلام لمدة 70 عامًا، فذلك لأن أوروبا بُنيت على القانون، وعلى سيادة القانون وعلى الحريات التي كانت منشودة لجميع الدول الأوروبية. ووفقًا للكاتب الفرنسي، فإن التشكيك في سيادة القانون يعادل التشكيك في الاستقرار والسلام اللذين سادا أوروبا لعقود.
ويُفهم من الشعبوية، حسب سبينوزي، بأنها توجه سياسي يضع «الشعب» في مواجهة «النخبة»، ويعبر عن مشاعر عداء تجاه المؤسسات الرسمية والنظم القائمة. وبدأ استخدام هذا المفهوم في القرن التاسع عشر لوصف تيارات سياسية. ومع أنه نادرًا ما يُستخدم كوصف ذاتي، فقد تبنته بعض الحركات لتأكيد ارتباطها بالجماهير. ويقوم على العودة إلى الشعب والثقة بعفويته وطاقته الثورية، ويرى فيها أداة للتغيير الجذري في المجتمع. وهنا يجدر التمييز بين الشعبوية كموقف سياسي محدد والشعبية وهي الإيمان بالشعب كمصدر للسلطة والسيادة.
وفي هذا السياق، يصف سبينوزي الشعبوية بأنها «أيديولوجية ضحلة» تتألف من بعدين أساسيين أحدهما الشعب النقي في مواجهة النخبة الفاسدة حيث تزعم تلك الأيديولوجية أن الشعب محاصر في صراع مع الغرباء. أما البعد الآخر فهو الاعتقاد بأن السياسة يجب أن تكون تعبيرًا عن إرادة الشعب وأن لا شئ يجب أن يقيدها، وبالتالي لا تقدم الشعبوية رؤية لنظام بديل مثل «الأيدولوجيات العميقة» كالشيوعية التي لديها رؤية لتنظيم السياسة والاقتصاد والمجتمع.
فمثلًا تعادي الشعبوية المؤسسات السياسية، لكنها لا تقدم إجابة عمن سيحل محلها، فهي تفتقر للوضوح والمنطلقات الفكرية الواحدة، ولذلك تعددت الرؤى الفكرية في تحديد الشعبوية، حيث قدّم جان فيرنر مولر نظرية سياسية ترى في الشعبوية قوة أخلاقية، وليست مجرد مشاعر حماسية تندفع خلفها الحشود. أما أرنستو لاكلاو فنظر إليها بوصفها استراتيجية سياسية تقسم المجتمع إلى مجموعتين أساسيتين: النخبة والشعب، ويتشكل هذان القطبان حول حدود المنازعة السياسية نفسها. في المقابل، شن جاك أرنسيير هجومًا على الشعبوية، معتبرًا أن استخدامها يشوبه الكثير من الفوضى والاستبداد، إلى جانب خلوّها من أي معنى محدد.
تُعد سيادة القانون والامتثال لأوامر المحاكم إحدى الركائز الأساسية للديمقراطيات الغربية، لكن هذا بالضبط ما يتعرض للخطر بشكل متزايد في الولايات المتحدة الأمريكية. فمن ناحية تجاهلت إدارة ترامب بالفعل العديد من أحكام المحاكم ونفذت عمليات ترحيل مخالفة لأوامر المحاكم. وأصبحت قضية كيلمار أبريغو غارسيا، الذي تم ترحيله عن طريق الخطأ إلى سجن سيكوت سيئ السمعة ذي الحراسة المشددة في السلفادور، معروفة بشكل خاص. وكانت المحكمة العليا أوعزت إلى الحكومة الأمريكية بالسعي لإعادة غارسيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بسرعة. لم يحدث شيء حتى الآن، كما انتقدت القاضية الفيدرالية باولا زينيس في جلسة استماع.
أما القضاة، مثل جيمس بواسبرغ، الذين يعارضون حكومة ترامب ويوقفون عمليات الترحيل التي يخطط لها، فيتم تشويه سمعتهم علنًا باعتبارهم «متطرفين يساريين معتوهين». ويهددهم ترامب بإجراءات عزلهم واستبدال هؤلاء القضاة بقضاة أكثر تأييدًا له. وفي الوقت نفسه يستخدم وزارة العدل لاتخاذ إجراءات ضد منتقديه. ففي الأسابيع الأولى من توليه منصبه، قام بفصل أو نقل العديد من الموظفين المتورطين في التحقيقات ضده.





