
ولد عباس الجراري سنة 1937 في العاصمة الرباط، نشأ في عهد الحماية الفرنسية وسط أسرة تتكون من ثلاثة إخوة وخمس أخوات.
تشير مصادر تاريخية إلى أن أصله ينحدر من عائلة اشتهرت بعلمائها وفقهائها، واشتهر أبناؤها بالنبوغ في ميادين العلم والتدريس والتأليف، وتنتسب إلى عرب «بني جرار»، الذين قدموا إلى المغرب في النصف الأخير من القرن الثاني الهجري.
عباس هو ابن عبد الله الجراري، المتوفى سنة 1983، كان من المقاومين للاستعمار الفرنسي، وأحد أعلام الدين والثقافة والتعليم، ويعتبره ابنه عباس أستاذ حياته الأول، إذ تأثر به كثيرا، فكان له الفضل في صقل شخصيته، فسار على نهجه في مجال التأليف ونهل من اهتماماته العلمية.
عاش بعض أطوار مرحلة مقاومة الاستعمار الفرنسي، وتشبع بالروح الوطنية وبالدفاع عن الهوية الدينية والثقافية لبلده، وتجسد هذا الهم في كتاباته المتنوعة التي مزجت بين الثقافة والأدب والنقد والشعر والترجمة.
وبسبب مواقفه الوطنية التي جلبت عليه صعوبات جمة، اضطر إلى الانتقال لمتابعة تعليمه في ثانوية اليوسفية المفتوحة في وجه أبناء المغاربة، والتي كان لها فضل في تكوين الخبرات والقيادات الوطنية وإعدادها لفترة ما بعد الاستقلال للمساهمة في بناء المغرب الحديث.
عباس الجراري.. عميد الأدب المغربي
يعد عباس من أبرز مفكري وعلماء وأحد أعلام المملكة المغربية، حتى اعتبر خزانا معرفيا، بصم عباس بمؤلفاته ومحاضراته على حضور أكاديمي تجاوز حدود المغرب. ولد عام 1937 وشغل عدة مناصب سياسية ودبلوماسية، أبرزها مستشار للملك، توفي بداية عام 2024 إثر وعكة صحية.
قيل إنه كان بصدد إصدار أجزاء أخرى من سيرته الذاتية «رحيق العمر»، وإلى آخر أيام حياته كانت لديه أنشطة ثقافية عديدة، بل إنه كان سيحضر تقديم كتاب له ترجم إلى اللغة الصينية، لكن مرضا طارئا حال دون ذلك.
حمل عباس لقب عميد الأدب المغربي، بعد أن كرس حياته للبحث العلمي والأكاديمي وللدفاع عن الأدب العربي عموما، والأدب المغربي على وجه الخصوص، وعرف بدفاعه الشرس عن اللغة العربية وآدابها، علما أنه يتقن لغات أجنبية، منها الفرنسية والإنجليزية والإسبانية.
عاصر ثلاثة ملوك مغاربة هم محمد الخامس والحسن الثاني ومحمد السادس، ويعد قامة من القامات العلمية. عاشق لفن الملحون، وكتب عن القدس والقضية الفلسطينية وعن حوار الحضارات والثقافات وقضايا الفكر الإسلامي.
تولى عدة وظائف إدارية كثيرة ومناصب عديدة، دشنها بالتحاقه بالمجال الدبلوماسي من خلال عمله في سفارة المغرب بالقاهرة عام 1962، وفي عام 1979، عينه الملك الحسن الثاني أستاذا في «المدرسة المولوية» وتكلف بتدريس الأمراء.
عين عميدا لكلية الآداب في جامعة القاضي عياض وكلفه الحسن الثاني بمهمة في الديوان الملكي، كما عينه الملك محمد السادس مستشارا له مباشرة بعد توليه الحكم.
لديه رصيد كبير من الكتابات فاقت 100 مؤلف، وبفضل عطائه العلمي الغزير حاز على أزيد من خمسين وساما ودرعا في المغرب وخارجه.
حميدة الصائغ زوجة عباس الجراري ورفيقته في درب العلم
في مكناس تميزت العديد من العائلات بإقبالها على العلم على غرار عائلات مكناسية وازنة، كالصائغ والتوزاني والعلمي والسنتيسي والصافي والعثماني وغيرها من التي اختارت العلم مسارا لها.
حميدة هي بنت المرحوم الحاج عبد المالك الصائغ والمرحومة الكبيرة الصائغ، ولدت بمكناس في 20 أبريل 1940، وهي خريجة كلية الحقوق بجامعة القاهرة ومحامية سابقة، وتعتبر نموذجا في التفاني في تربية الأولاد «هي خير معين لي في مباشرة جميع اهتماماتي وما أقوم به من أعمال»، على حد قول زوجها عباس.
كانت حميدة الصائغ ممثلة للعاصمة الإسماعيلية في المحافل العلمية، قبل بزوغ عهد الاستقلال، على غرار شقيقتها نفيسة الصائغ، التي كانت من أوائل المدرسات بالمدرسة العليا للأستاذة في الدار البيضاء.
تابعت حميدة الصائغ دراستها الجامعية في الرباط، بعد أن تزوجت من قامة فكرية فذة «عباس الجراري»، فهي رفيقة دربه وشريكة عمره وأم «عياله»، بل إن «الحاجة» حميدة يرجع لها الفضل في تعبيد طريق التألق والنجاح لهذا الهرم الثقافي الكبير، والعالم المحدث الجليل، والإمام الواعظ الفقيه، عميد الأدب المغربي، لذا كلما كرم عباس، إلا وحظيت زوجته حميدة بتكريم لدورها الكبير في صنع شخصيته، وعملت على صنع الهوية الأدبية المغربية في كتاباته التي مزجت بين القيم الفكرية والمقومات الأدبية، التي أفردته بالتميز والتألق والتموقع المستحق، والريادة المستديمة في مجال تخصصه.
ساهمت حميدة من موقعها العلمي وباعتبارها زوجة عباس الجراري في استكمال بناء صرح «النادي الجراري»، الذي أسسه والد زوجها عبد الله بن العباس الجراري عام 1930، وجعله منتدى يلتقي فيه، بعد عصر كل جمعة، رجال العلم والأدب والوطنية من مغاربة ووافدين. كما حرصت حميدة، بعد ارتباطها بعباس، على الاهتمام بالمكتبة العباسية، وساهمت في التعريف بالنادي من خلال تقديمها لبعض الكتب، أبرزها مؤلف: «من حسنات النوادي الأدبية: النادي الجراري نموذجا»، للدكتور جمال بنسليمان.
أبناء الجراري.. بعيدا عن الأدب العربي قريبا من العلوم
رزق عباس وحميدة بأربعة أبناء، وهم على التوالي: ألوف وعلا ومحمد وريم، كل اختار مساره بوازع ذاتي وبتوجيه من الوالدين، ما يجمعهم وضع مسافة مع السياسة والقطع مع شعار «كان أبي».
الابن الوحيد هو محمد الجراري من مواليد أكتوبر 1972، حاصل على دكتوراه الدولة في الإعلاميات من إحدى الجامعات الكبرى بالولايات المتحدة الأمريكية، اشتغل مدرسا في مجال اختصاصه في كبريات المعاهد الأمريكية، كما عمل في مستشفى أكرون بصفته مديرا عاما.
لكن شقيقته ألوف الجراري، فهي الابنة البكر، إذ ولدت في شهر نونبر 1965. بعد تألقها في الرياضيات والعلوم الرياضية، اختارت لنفسها هذا المسلك، ومن أجله درست هذا التخصص العلمي في جامعة بين ستيت بالولايات المتحدة الأمريكية، فضلت استكمال مشوارها الوظيفي في أمريكا كمدرسة أولا لمادة الرياضيات في بعض جامعات واشنطن، كما اشتغلت في الجامعة المغربية لمدة ثمان سنوات كأستاذة للتعليم العالي. وقد نشرت أطروحتها جمعية الرياضيين الأمريكيين عام 1995، واعتبرتها نابغة في الرياضيات، بعد حصولها على شهادة.
أما علا الجراري فلها مسار مختلف فقد اختارت أن تجعل من كندا محطة علمية لها، بدل الولايات المتحدة الأمريكية، واهتمت بمجال التدبير التجاري، وشرعت في التحضير لشهادة الدكتوراه من جامعة لافال، لولا أن فاجأتها المنية هناك في 24 يناير 1993، وقد أصدر النادي الجراري أطروحتها الأولى عن المقاولات الصغرى والمتوسطة، ونقشت جامعة لافال اسمها في الحرم الجامعي ضمن سجل الخالدين.
أما ريم الجراري، وهي من مواليد غشت 1975، فركبت بدورها صهوة الهجرة إلى أمريكا، لكنها اختارت مسلكا مخالفا لأشقائها، حيث حصلت على الماستر في التواصل من جامعة بوسطن بالولايات المتحدة، فعملت وزيرة مفوضة بوزارة الشؤون الخارجية المغربية، رئيسة لقسم المنظمات الدولية. في منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة، تخصصت ريم في إبرام شراكات مع قطاعات لها نفس الهم، انسجاما مع رؤية الإيسيسكو الجديدة وتوجهاتها الاستراتيجية، من خلال الانفتاح على التعاون مع مؤسسات المجتمع المدني، لدعم جهود الدول الأعضاء في تطوير مجالات الرعاية الاجتماعية والصحية والتربوية وغيرها من البرامج والمقترحات، خاصة المتعلقة بالعدالة الاجتماعية.





