شوف تشوف

الرأيالرئيسية

السياسة بين النص الديني والواقع 

يعرف كل دارس للأديان أن الفجوة كبيرة بين النص الديني والتجربة التاريخية للجماعة الدينية. إنْ أخذنا الإسلام مثالا، سنلحظ أن تاريخ المسلمين ينطوي على كثافة سياسية عالية فيما لا شيء يَحْمِل عليها من آمِر ديني (نص قرآني)، بل لا وجود لمَعْلَمٍ من معالم التسويغ الديني لذلك.

يكاد كل شيء في الإسلام ينطلق من السياسة وينتهي إليها؛ فدينامياتُه الدافعة – منذ لحظة الدعوة –  سياسية في ما وراء قشور عواملَ أخرى؛ ودينامياته الكابحة والانقسامية سياسية متمظهرة في وجوه دينية؛ والجماعة المؤمنة جماعة سياسية (واعتقادية في آن)؛ والاجتماع الديني- السياسي الصغير – الذي كان يدير شؤون المدينة – صار دولة عظمى تدير إمبراطورية مترامية الأطراف؛ والانشقاقات والانقسامات المذهبية والكلامية فيه ذات منشأ سياسي؛ والصراعات التي كانت فيه قبليةً، في ابتداء أمرها، أصبحت سياسية حين توسلت أدوات سياسيةً؛ وتاريخ الإسلام تاريخ صراع على المصالح؛ وهذه لا يمكن أن تكون إلا سياسية…

في مقابل هذه الكثافة السياسية، التي اتسم بها تاريخ الجماعة الإسلامية، نكاد أن لا نعثر على ما يسوغها في التشريع الديني وتعاليم الإسلام. وهذه ليست مفارقة في تجربة الإسلام وحده، بل هي عينها تلك التي يصطدم بها القارئ في تراث المسيحية أيضا: في النصوص والتعاليم (الأناجيل، أعمال الرسل، رسائل الرسول پـولس)، وفي الخبرة التاريخية التي ازدحمت بعوامل السياسة وظواهرها. والمسيحية والإسلام يتشابهان، إلى حد بعيد، في هذه المسافة الكبيرة الفاصلة بين النص الديني والتجربة التاريخية السياسية، ولا نكاد نعثر على كبير اختلاف بينهما في هذا الشأن.

إنْ كان من استثناءات يتبين بها اختلاف بينهما، فهي قليلة من قبيل أنه كان لنبي الإسلام ما لم يكن لنبي المسيحية من دور في القيادة السياسية لأتباعه؛ وأن الذين خَلَفوهُ في قيادة الجماعة من صحابته حاولوا أن يؤسسوا قيادتهم المدنية على المثال النبوي سعيا منهم إلى اجتراح شرعية سلطانهم، فصار ذلك في حكم السنة الجارية عند بعض ممن أتوا بعد الراشدين من «الخلفاء». ما دون هذه الاختلافات، قَطع الدينان الشوط عينه تقريبا: من صمت التشريع الديني فيهما عن ميدان السياسة، إلى اجتياح السياسة تاريخيهما اجتياحا ابتلاعيا، وتنزلها من اجتماعيهما منزلة الفاعل المادي الرئيس.

على مثال هذه الكثافة السياسية، التي شهد عليها الاجتماع الإسلامي، كان للسياسي حضور مرموق في التأليف الإسلامي، وفي ميادين منه مختلفة، فبدا بعبوره لها وانشغالها به كما لو أن السياسة، والاستغراق فيها، من سمات التفكير الإسلامي التي بها يتميز، على الرغم من أنه لم يتبلور علم خاص بها في الفكر الإسلامي (مثل علم التفسير، أو علم التاريخ، أو علم النحو…). ولعله لهذا السبب الذي جعل نشأة مثل هذا العلم غير ممكنة، صار هناك تزاحم على الموضوع (= السياسة) من قِبَل علومٍ أخرى تناهبتْـه (مثل الفقه، والكلام، والفلسفة…). وما أغنانا عن القول إن هذا الاهتمام وهذا الحضور الكثيفين للسياسة في الفكر الإسلامي إنما هما يَرُدّان إلى تلك المكانة الكبيرة التي شغلتها (السياسة) في الاجتماع الإسلامي ومسار نزاعاته، فانتقل الجدل فيها من ميدان الواقع والصراعات الاجتماعية إلى ميدان الفكر. يكفي المرء، تدليلا على ذلك، العودة إلى مصادر التاريخ الإسلامي للوقوف على ما كان للسياسي من عظيم الأثر في يوميات الاجتماع الإسلامي.

هكذا، إذن، نلفي أنفسنا أمام ما قد يبدو وكأنه «مفارقة» مثيرة: انعدام – أو غياب – التشريع الديني للسياسي مقـابل حضور كثيف للسياسة في علاقات الاجتماع الإسلامي، في أطواره التاريخية كافة، وانهمام شديد بمسائلها في ميادين مختلفة من الفكر الإسلامي. كيف يمكن فهم هذه «المفارقة» إذن؟

الحق أنه ما من مفارقة في هذه الظاهرة. الشعور بالمفارقة يأتي من الاعتقاد بوجوب قيام التطابق بين التعليم الديني (= من التعاليم) والتاريخ، والحال أن مثل ذلك التطابق أمر افتراضي لا يلحظ اختلافا بين نظامي الديني والدنيوي. إن الظواهر التي تنتمي إلى مجال الدنيوي تجد لنفسها ما يسوغها من عالم الدنيوي نفسه وعلاقاته، بقطع النظر عما يمكن أن يكون عليه – أو لا يكون – التشريع الديني لها: كثيفا، ضعيفا، حاضرا، غائبا…إلخ. وهكذا فإن حضور السياسة ومكانتها في تاريخ الاجتماع الإسلامي مستـمدان من حاجة موضوعية إليها في ذلك الاجتماع، قبل أي سبب أو اعتبار آخر.

عبد الإله بلقزيز

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى