
في ظل تطور وتحديث العمل السياسي بشكل يؤطر مجال التنافس بين الأغلبية والمعارضة بدول العالم، يريد البعض جر الممارسة السياسية بالمغرب من قراءة المؤشرات الحقيقية ومدى تطورها ومقارنتها بالمراحل السابقة وما تحتاجه من انتقاد مبني على معطيات ميدانية، إلى الاستغراق في الانطباعات حول الأشخاص والإسهاب في مناقشة مواضيع هامشية لايمكنها تقديم أي قيمة مضافة للصالح العام، ودورها يختصر في المزيد من التخدير وتجييش العواطف لترقيع البكارة الانتخابية.
هناك رجل أراد صباغة منزل، وعند الاستفسار عن صباغ مهني محترف للقيام بالمهمة على أكمل وجه، نصحه أحدهم بشخص يعرفه عن قرب وشرع في تعداد مناقبه وأخلاقه في التعامل مع الناس واستقامته وطيبوبته، واستغرق في ذلك بشكل كبير دون أن يتحدث عن نقطة واحدة تتعلق بالمهنة وإتقانها، ما دفع بصاحب المنزل لمقاطعته في الكلام وطرح سؤال دقيق؛ هل يجيد هذا الصباغ مهنته ويتقن عمله، وهل يمكنه الإسراع في التنفيذ ما أمكن بالشكل الذي لا يخالف الجودة؟
وعندما نذكر قصة البحث عن الصباغ المهني، فإنه يمكن قياسها بالبحث في المرحلة الحالية، عن الوجوه السياسية التي يمكنها تقديم قيمة مضافة للمشهد الانتخابي والحزبي، من خلال مؤشرات واضحة يمكن لمسها من قبل الناخب، عوض الانطباعات التي تبقى لصيقة بالشخص نفسه وليس المشروع، ولا تتعدى حدود الشعارات الفارغة والمزايدات الانتخابوية، وإشعال مفرقعات إعلامية يُسمع صداها من بعيد لكنها تبقى ظاهرة صوتية لا أقل ولا أكثر.
لسنا في حاجة إلى المزيد من هدر الزمن السياسي، في الهرطقات الفارغة والانتصارات الكلامية والمعارك الوهمية مع بعضنا البعض، بقدر ما نحن في أمس الحاجة لتخليق الحياة السياسية وفق الجدية المطلوبة، ومساهمة الأحزاب السياسية كفاعل أساسي في الميدان في طرح الحلول التي يمكنها توفير الشغل والتنمية والحد من الفقر والأمية وإنتاج سياسات عمومية تتسم بالنجاعة، بدل إنتاج الكلام الساقط والسب والشتم والسعي إلى إشعال الفتنة بتقسيم المجتمع إلى فئات داعمة تنال الرضا، وتلك المارقة التي تجب محاربتها والطعن في انتمائها ووطنيتها وغيرتها على قضايا الأمة.
إن اللّعب على وتر الملائكية في الممارسة السياسية، ثبت زيفه من خلال تتبع التسيير وطرق صرف المال العام طيلة ولايات حكومية سابقة، والكشف عن ملفات الريع والاختلالات من قبل مؤسسات الرقابة، وانهيار الجدار الأخلاقي الذي كان يختفي خلفه البعض لادعاء الطهرانية، بينما المطلوب هو الكفاءة أولا والنزاهة والشفافية، وبناء مؤسسات قوية بالقدر الذي يمكنها محاسبة المسؤولين على صرف كل درهم من الخزينة العامة.
إننا نعاني من تبعات تحول بناء الأحزاب من وسيلة لتدبير الشأن العام المحلي إلى غاية، بحيث تتنافس القيادات الحزبية في حشد الحضور في اللقاءات والقدرة على الاستمرار في القيادة وغياب الرأي الداخلي المعارض، بينما المطلوب حول تكريس الديمقراطية الداخلية مهما كان الأمر محرجا، وفتح نقاش جاد لإنتاج استراتيجيات واضحة تمكن من الخروج من الأزمة التي يكثر الحديث عنها، وكأنها ابن لقيط وليست نتاج السعي لتحمل المسؤولية واللهث خلف بريق السلطة.
إن السعي إلى تحمل مسؤولية تسيير الشأن العام بمثابة تعاقد بين السياسي والناخب حول تجويد الخدمات العمومية والتشغيل وتحسين جودة الحياة، وعلى أساس ذلك تتم عملية التقييم والمحاسبة والعقاب الانتخابي أو تأكيد الدعم واتساع القاعدة الانتخابية، بعيدا عن الغرق في بحر الانطباعات والطيبوبة ومبررات جيوب المقاومة ولازمة “مخلاونيش نخدم” وكأن ممارسة السياسة طريق مفروشة بالورود لتحقيق الأهداف المطلوبة، وليست فن الممكن لتحقيق أفضل الأهداف بأقل الإمكانيات والتغلب على الصعاب ومواجهة كل من يقف حجرة عثرة أمام قطار التنمية، وفق الصرامة والقانون والشجاعة والحكمة في اتخاذ القرار، وإذا ما باءت المحاولات بالفشل يتم الاعتراف بالمسؤولية سريعا وتسليم المشعل للبديل بدون “تبوحيط”.