شوف تشوف

الرأيالرئيسية

تحدي الشيخوخة

 

بقلم: خالص جلبي

 

البشر يشيخون، هذا حق. جاء في سورة «يس»: (ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون). وهكذا فكلنا يشيخ وكلنا يريد أن يعمر ويحافظ على الشباب.. مثل من يريد أن يأكل من الكعكعة ويحافظ عليها، وكلنا يريد أن يوقف الزمن وما هو بقادر على ذلك؛ فمن أكل انتهت الكعكة والحفلة، وكذلك فالزمن مثل الشمعة تذوب مع الوقت فتلتهم نفسها، ومن أراد أن يجمد الزمن فهي حالة واحدة فقط بالتصوير؛ فالصورة تحبس الزمن للحظة، أما عموم الزمن فهو يتدفق بدون توقف وحاجز، إلا بالركوب على ظهر شعاع الضوء كما تقول النسبية، وهو مستحيل إلا بطريقين؛ الأول كما جاء في الحديث عن تحولنا إلى أجسام نورانية عن أول زمرة يدخلون الجنة أنهم على هيئة القمر ليلة البدر، والزمرة الثانية على أشد كوكب دري في السماء إضاءة. وأما المعراج الثاني لكسر الزمن، فهي كما جاءت في القرآن عن جنة عرضها السماوات والأرض، حسب النظرية النسبية بتوقف الزمن بكسب سرعة الضوء، أو النسبية العامة بالوقوف على كتلة لا نهائية. ومن هذين يوقف الزمن فيبقى الشباب. ومن هذين المدخلين يقف الزمن فيذبح كأنه كبش أملح، وهنا ندخل فيزياء جديدة مختلفة عن الفيزياء التي نعرفها في حياتنا، حين نرى في المنام أننا نطير مثل الطيور المهاجرة، وهو ما أراه أنا شخصيا كثيرا في المنام فأرى نفسي أطير في الهواء بدون تعجب.

وأحيانا أقول في نفسي مع الموت قد ندخل عالما موازيا من مضاد المادة فتدخل الطاقة أجساما جديدة مع انقلاب شحنات الذرات، وإن (الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون). والله يعلم وأنتم لا تعلمون. 

حاليا، يشتغل فريق علمي على هذا الهاجس، ولكن هل سيصل الفريق العلمي إلى قهر الشيخوخة والعمر المديد والصحة الوافرة، فلا تكدر بمرض أو تعكر بحزن وألم وفراق وموت وشيخوخة؟ وهل سيحققون طول العمر مع الشباب؟

تبدأ القصة من جامعة «ويسكونسين Wisconsin» من (ماديسون Madison) من مركز الأبحاث الوطني للحيوانات البدائية في أمريكا (Wisconsin National Primate Research Center)، حيث انطلقت التجربة على القرود ولمدة 17 سنة، بعد تحققها على كائنات بدائية مختلفة. كان ذلك عام 1989م، وقامت التجربة على وضع 30 قردا بعمر عشر سنوات، من نوع (الريسوس Rhesus Monkeys) في مجموعتين من الأقفاص، ضم كل قفص 15 قردا؛ فأما المجموعة الأولى التي ينتسب إليها القرد (أوين Owen) فقد سمح لها أن تأكل لما فوق الشبع، وتلتهم كل طعام بدون تحديد الكالوري، فأكلوا كما جاء في الحديث: الكافر يأكل بسبعة أمعاء والمؤمن يأكل بمعي واحد. وأما المجموعة الثانية التي ينتسب إليها القرد (كانتو Canto)، فقد حرمت من الطعام، وجُوِّعت وقُتِّر عليها، وحدد الكالوري بكمية أقل بـ30 في المائة مما تحتاج، وهكذا صامت صوما مديدا لمدة سبع عشرة سنة ويزيد. مع هذا تمت مراعاة إطعام الفريقين من حاجتهما اليومية، من المعادن والماء والفيتامينات. ولكن الطعام كان مباحا بدون حدود لمجموعة القرد (أوين)، ومحرما ناقصا بمقدار الثلث لمجموعة القرد (كانتو). فأما الأول فملأ من شحم عضديه، وأما الثاني فبات يصوم ويشد على بطنه. وكان الباحث «ريشارد واين درش Richard Weindruch» يراقب العملية بصبر ودقة وإحصاء. وبعد كل هذه المدة بلغ كل من فريقي القرود في المجموعتين العمر الافتراضي 26 عاما، بحيث يمكن مقارنة شيخوخة كل فريق مع الآخر. وهنا بدأت الفروق جلية كما قال الباحث، فأما مجموعة أوين (الأكل بدون حدود) بما لذ وطاب، فقد ظهر فيها التجعد على الوجوه، وتشحم الكبد، والضعف العام، والهمة الفاترة، وتساقط الشعر، والانكماش في المكان، والكسل في الحركة، وتهدل الجلد، مع عيون غائرة انطفأ فيها لمعان الحياة، في ظل شيخوخة طامة ونكس قاتل. أما (كانتو) من المجموعة الصائمة فكان رشيقا نشيطا، بدون كرش، بجلد مشدود، يقفز بفرح، ويسلم على الزوار بمرح، ويتناول طعامه برشاقة، ويقشر الموزة بخفة، ويلتهم محتواها بشغف، جلده مرن مطاطي، ووجهه عامر طافح، وتلمع عيونه بالحياة. وكان جل طعامه من الفاكهة. 

هذه التجربة الرائدة كان القصد منها الوصول إلى السؤال الأزلي الذي طرحه جنكيز خان على الحكيم الصيني، فكان جواب الحكيم الصيني للطاغية المنغولي: يا سيدي ليس عندي من إكسير للحياة الأبدية، ولكن بقدرتي أن أنصحك كيف تعيش حياة مديدة بصحة طيبة. وهذا الذي يسعى خلفه البشر فلا يستطيعون ولا يحققون، لذا كان وزير الخارجية الكندية محقا أن يعلن عن تطليق السياسة والعودة إلى الطبيعة، بعد أن لاحظ تفجر الدم من منخريه وعمره 63 عاما. 

كانت النتيجة حاسمة في مستويين؛ فأما مجموعة أوين الملتهمة للأطعمة فقد مات أكثر من نصفها، وأصيبت بنخر في الكبد، وتهدل في القلب، واكتنز أكثر من 70 في المائة من جسمها بالشحم، وعاش من تبقى من عناصرها بصحة متردية، ومات من أصل 15 قردا ثمانية قرود! وأما مجموعة كانتو النشيطة (الصائمة) فقد مات منها الثلث (خمسة)، وعاش بقية الثلثين بفرح وصحة. ويقول الباحث «واين درش» الذي قاد التجربة كل هذه الفترة بصبر ودأب: ليس هذا فقط، بل بدأنا نستوعب أهمية فائض الحياة الذي يحققه الصيام. وهكذا فالصيام يمد في العمر، وفي القرآن «وأن تصوموا خير لكم»، ولم يجرب المسيح من الشيطان إلا بعد صوم ثلاثين يوما، فلما جاع أخيرا جاءه الشيطان يجربه، ففاز فوزا عظيما، وانتصر على أوهام الشيطان؛ حين أراد امتحانه. في مجموعة تجارب؛ أن يرمي نفسه من شاهق فتتلقفه الملائكة، وأن يطلب ثروات العالم، أو أن يعيش من الطعام دون الكلام؟ فكان جوابه لا تمتحن الرب إلهك، وملكوت السماوات أفضل من غرور العالم، ولا يحيا الإنسان بالخبز وحده، بل بكل كلمة طيبة! مثلها حصل مع موسى ونبي الرحمة صلى عليه وسلم. وعند الحيوانات ثبت أن الصيام يمد عمرها، ثبت هذا عند خلايا الفطور والعناكب والذباب والسمك والفئران والجرذ، ويسمون هذا (تحديد الكالوري)، ووضعوا له قاعدة عامة تقول: من يأكل 30 إلى 50 في المائة أقل، يعيش أكثر بـ30 إلى 50 في المائة من نسبة العمر.  

 

نافذة:

الزمن مثل الشمعة تذوب مع الوقت فتلتهم نفسها ومن أراد أن يجمد الزمن فهي حالة واحدة فقط بالتصوير فالصورة تحبس الزمن للحظة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى