شوف تشوف

تشريعات متجاوزة

كلما تفجرت قضية تتعلق بحالات ذات حساسية خاصة في نفوس المواطنين، تفجرت معها العديد من التعليقات وردود الأفعال قليل منها ما يتسم بالموضوعية، فيما تكون غالبيتها انفعالية، ومنها تلك التي تحاول الركوب على الحدث سياسيا، أو استغلاله في تلميع الصورة المهنية لبعض أشباه المعلقين الذين يعتبرون أنفسهم مؤثرين، أو لبعض المحامين والمحاميات، ومنها ما يختار معاكسة الموقف العام من باب خالف تعرف، أو منها ما يصدر من باب تصفية حسابات قديمة مع هذا الطرف أو ذاك، ومنها مطالب منفعلة لا يهمها سوى القصاص من هذا، وإقالة ذاك، غير أنه بمجرد هدوء العاصفة تعود حليمة إلى عادتها القديمة، في انتظار فضيحة جديدة أو حادث مأساوي يستحق المتابعة.
مناسبة هذا القول، ما تابعناه من ردود أفعال ومحاولات ركوب، و”تشيار” بالمواقف حيال ما حدث للطفل عدنان الذي وجد مقتولا بعد أسبوع من اختفائه، وهو حادث مأساوي وشنيع يدعونا إلى الوقوف على بعض جوانبه، لاستخلاص ما يمكن استخلاصه من دروس، وتدارك ما يمكن تداركه، لإنقاذ مجتمعنا من الانهيار التام، وحالة التيه وفقدان البوصلة التي بدأت معالمها تتكرس أكثر في هذا الزمن الكوروني.
بداية، لا يمكن لأي إنسان إلا أن يرثي لمصير الطفل الضحية، وأن يتعاطف مع أسرته المكلومة، التي رزئت في فلذة كبدها بهذه الطريقة الوحشية.
لكن، لا يمكن للبوز الإعلامي الذي أحدثه خبر اختفاء الطفل وحالة الترقب التي واكبته إلى حين العثور عليه جثة هامدة، أن يغطي عنا حقائق لا مفر منها، أولها أن نشر صور المشتبه فيه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ربما قد يساهم في دفع الجاني إلى التخلص من ضحيته عبر القتل وإخفاء الجثة، وأن ما يعتبره رواد الفيسبوك مساهمة في فضح بعض المجرمين ونشر صورهم، قد يصبح في بعض الأحيان وسيلة للانتقام وتلفيق التهم وتصفية الحسابات، تجاه أشخاص أبرياء، فأنت مثلًا يكفيك أن تصور شابين على متن دراجة نارية وتتهمهما بسرقة محفظة مواطن أو مواطنة، وترفقها بتعليق يدعو إلى توزيع الصورة على أوسع نطاق لفضح السارقين، حتى تنتشر صورة المعنيين بالأمر في كل الصفحات مثل النار في الهشيم، بدون تأكد أو تثبت من صحة الخبر، لتسارع الأجهزة الأمنية إلى اعتقال المعنيين بالصورة لإحالتهما على العدالة لتقول فيهما كلمتها، فإذا لم يثبت في حقهما ما يدينهما وتم إطلاق سراحهما اعتبر ذلك، عن جهل بالمساطر، تساهلا من الشرطة والقضاء مع الجريمة.
ثاني الملاحظات أن هناك من استغل الظرف لكي يروج لمطالبه الداعية إلى الإبقاء على عقوبة الإعدام، وذلك ليس من باب الإيمان المبدئي بالحق في الحياة، بقدر ما هو موقف للتشفي في خصوم سياسيين على الطرف النقيض من موقفهم، وأنا وإن كنت مع تطبيق عقوبة الإعدام ومن أول الداعين إلى سن عقوبة الإخصاء لمغتصبي الأطفال، أرفض أن يستغل “قميص عدنان” ذريعة لتصفية الحسابات السياسية البائتة.
ما نحتاج إليه اليوم ليس البكاء على الأطلال، وندب حظنا العاثر، عند كل اغتصاب لطفل أو طفلة، أو انتحار لقاصر أو قتل له بوحشية، بقدر ما نحن في حاجة إلى تظافر جهود جميع المختصين الذين لم يصابوا بلوثة السياسة، من علماء النفس والاجتماع وفقهاء القانون والإعلاميين وغيرهم، لكي نؤسس لنقاش عمومي بناء ومثمر، ونقيم حالة المجتمع والقانون عندنا، ومدى مواكبة التشريع للتطورات المجتمعية والاقتصادية والتكنولوجية التي أدت إلى تحولات حتمية عميقة في السلوك البشري للمغاربة، وصولا إلى اقتراح حلول ونصوص قانونية عادلة لتأطير المجتمع واستشراف مستقبل مشرق للأجيال القادمة.
والحقيقة أن تخلف النصوص القانونية وشيخوختها عندنا، ما هو إلا انعكاس لتخلف مؤسستنا التشريعية، وتخصصها في “تشريع الفم” عوض القوانين، وإغراقها في الحسابات السياسوية الانتخابوية، الذي يجعلها أداة فرملة للتطور بدل التحفيز عليه ومواكبته.
فيكفي الرجوع إلى النصوص القانونية التي يفترض فيها حماية حقوق القاصرين التي تعود جذورها إلى فترة الحماية لكي نشهد أنها قاصرة عن القيام بدورها المطلوب، ومليئة بالثقوب التي تتسرب منها العديد من ملفات الفساد وحالات الإفلات من العقاب، التي تعج بها ساحات المحاكم عندنا، والتي تنتهي غالبا بإطلاق سراح المغتصبين أو الحكم عليهم بعقوبات مخففة لا تتناسب مع خطورة فعلهم الجرمي، مما يشجع غيرهم على الإتيان بنفس الأفعال.
والسؤال الذي يحيرني دائما هو ما هو سبب إبقاء المشرع حتى الآن على جريمة تسمى بهتك العرض بدون عنف، والمنصوص عليها طبقا للفصل 484 من القانون الجنائي، والذي قد يكون ضحيته قاصر أو عاجز أو معاق، وهي الجريمة التي يعاقب عليها المشرع بعقوبة مخففة تتراوح بين سنتين وخمس سنوات، غالبا ما تخفض من طرف القضاء إلى عقوبات موقوفة التنفيذ، ولا تعتبر جناية معاقبا عليها بالسجن من عشر إلى عشرين سنة إلا إذا نتج عنها افتضاض.
شخصيا أعتبر أن المشرع حين ميز بين هتك العرض بعنف وهتك العرض بدون عنف، يكون كمن يدعو البدوفيلي إلى الرأفة بضحيته وعدم استعمال العنف عند اغتصابها، لكي يحصل على حكم مخفف من جهة، هذا في حال ثبوت الجريمة في حقه، وهو من جهة أخرى يشجع البدوفيلي على إتيان الأطفال الذكور بدل الإناث، لما في إتيان الإناث من مخاطر افتضاض البكارة، والوقوع تحت طائلة الفصل 488 المشدد للعقوبة.
كما أن تخصيص عقوبة مشددة لواقعة الافتضاض طبقا للفصل 488 في حد ذاتها ينم عن منظور متخلف لحرمة جسد المرأة، ولكيانها، لأنه يمنح حماية أكبر للمرأة المغتصبة إذا كانت بكرا فيما إذا كانت ثيبا لا تتمتع بنفس الحماية القانونية، حتى ولو كانت طفلة يقل عمرها عن 18 سنة.
ولذلك لا أظن أنه تمكننا حماية القاصرين بمثل هاته النصوص القاصرة والمنسية، لأن كل تساهل تشريعي في التعامل مع هذه الجرائم لن يكون إلا فجوة قانونية تمكن عديمي الضمير ممن يجيدون الاحتيال على القانون من الإفلات من بين ثناياها من العقاب الدنيوي، في انتظار العقاب الإلهي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى