
لم يكن ابن خلدون (1332م-1406م) مؤسسا لعلم الاجتماع فحسب، بل كان من أوائل المفكرين وقد اختط لنفسه منهجا علميا مكنه من قراءة الظواهر الاجتماعية والسياسية ودراسة التحولات والتغيرات الطارئة على أحوال المجتمعات والدول. لقد ساهمت رحلاته وانخراطه المبكر في الحياة السياسية في المغرب، في عهد الدولة المرينية، وتقلده لمهام سياسية، في أن يكتسب خبرة ومعرفة مكنته في الأخير من أن يكتشف ما أسماه بعلم العمران البشري ووضْعِ خطاطة ملخصٍ لحياة الدول ما بين الازدهار والاضمحلال، والقواعد المؤسسة لهذه التحولات. استطاع ابن خلدون في “مقدمته الشهيرة” أن يرسم خطاطة هي الأولى من نوعها في نشأة الدول وتفككها والعوامل المؤدية… إضافة إلى جوانب أخرى من أهمها الجانب الاقتصادي والسياسات النقدية والمالية والبنيات الاجتماعية…
فواجع ومصائب
عاش ابن خلدون حياة مضطربة وغير مستقرة، كما يذكر في كتابه “التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا”، ما بين المناصب السامية والعزل والسجون، وكيد الحساد، رغم إشادة معاصريه بذكائه المفرط وطموحه الكبير إلى المراتب والمناصب العليا، حيث غادر في الأخير المغرب بعد سلسة من التوترات السياسية إلى مصر، حيث تقلد منصب قضاء المالكية بها فأحاطت به مكائد الوجهاء والحساد، تاركا أهله وأولاده بتونس، وفي انتظار لحاقهم به، حلت بهم عاصفة في البحر ففقد كل أهله. يقول: “فكثر الشغب علي من كل جانب، وأظلم الجو بيني وبين أهل الدولة، ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد، وصلوا من المغرب في السفينة فأصابها قاصف من الرعد فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود فعظم المصاب والجزع. ورجح الزهد، واعتزمت على الخروج من المنصب، فلم يوافقني عليه النصيح ممن استشرته، خشية من نكير السلطان وسخطه، فوقفتُ بين الورد والصدر، وعلى صراط الرجاء واليأس، وعن قريب تداركني اللطف الرباني… وشملتني نعمة السلطان في النظر بعين الرحمة، وتخلية سبيلي من هذه العهدة التي لم أطق حملها، ولا عرفت فيما زعموا مصطلحها، فردها إلى صاحبها الأول وأنشطني من عقالها؛ فانطلقت حميد الأثرة… ورتعتُ فيما كنتُ راتعا فيه قبلُ من مراعي نعمته وظل رضاه وعنايته، قانعا بالعافية… عاكفا على تدريس علم أو قراءة كتاب، أو إعمال قلم في تموين أو تأليف، مؤملا من الله، قطع صبابة العمر في العبادة، ومحو عوائق السعادة بفضل الله ونعمته… ثم مكثتُ بعد العزل ثلاث سنين، واعتزمتُ على قضاء الفريضة، فودعتُ السلطان والأمراء، وزودوا وأعانوا فوق الكفاية. وخرجتُ من القاهرة إلى مرسى الطور بالجانب الشرقي من بحر السويس…”.
لقاء مع تيمورلنك
كان من الصدف الغريبة أن يكون ابن خلدون حاضرا في حصار تيمورلنك لمدينة دمشق، ومن ضمن المفاوضين لبحث شروط استسلامها وتأمين سكانها. حاول ابن خلدون من جهته أن يكتسب ثقة أحد أكبر القادة توحشا وسفكا للدماء، لكنه لم يظفر في النهاية سوى بتأمين عودته إلى مصر صحبة مرافقيه، وأن ينقل لنا شهادة نادرة عن شخصية تيمورلنك الأكثر توحشا وغرابة في تاريخ العالم.
… “فدخلتُ عليه، وهو في إيوانه، فلما رآني مقبلا مَثَل قائما وأشار إلي عن يمينه… فجلستُ قليلا، ثم استدرتُ بين يديه، وأشرتُ إلى الهدية وتقبل ذلك كله… ثم حومتُ على الكلام بما عندي في شأن نفسي وشأن أصحابٍ لي هنالك. فقلتُ… لي كلام أذكره بين يديك، فقال: قل. فقلتُ أنا غريب بهذه البلاد غُربتين، واحدة من المغرب الذي هو وطني ومنشئي وأخرى من مصر وأهلُ جيلي بها، وقد حصلتُ في ظلك، وأنا أرجو رأيك لي فيما يُؤنسني في غربتي، فقال: قل الذي تريد أفعله لك… فشكرتُ ودعوتُ، وقلتُ: وبقيت لي اخرى، فقال: ما هي؟ فقلتُ: هؤلاء المتخلفون عن سلطان مصر… فقال وما تريد لهم؟ قلتُ: مكتوب أمان يستنيمون إليه، ويعولون في أحوالهم عليه. فقال لكاتبه: أكتب لهم بذلك، فشكرتُ ودعوتُ. وخرجتُ مع الكاتب حتى كتب لي مكتوب أمان وانصرفتُ إلى منزلي”.
… وكتبتُ حينئذ كتابا إلى صاحب المغرب، عرفتُه بما دار بيني وبين تيمورلنك، وكيف كانت واقعة الشام…: “وهؤلاء التتار هم الذين خرجوا من المفازة وراء النهر… مع ملكهم الشهير جنكيز خان وملَك المشرق كله من أيدي السُلجوقية ومواليهم إلى عراق العرب… والقوم في عدد لا يسَعُه الإحصاء، إن قدرتَ ألف ألفٍ فغير كثير، ولا تقول أنقص، وإن خيموا في الأرض ملؤوا الساح، وإن سارتْ كتائبهم في الأرض العريضة ضاق بهم الفضاء، وهم في الغارة والنهب والفتكِ بأهل العمران، وابتلائهم بأنواع العذاب، على ما يحصلونه من فئاتهم آية عجبٍ، وعلى عادة بوادي الأعراب.
وهذا الملك تيمورلنك من زعماء الملوك وفراعنتهم، والناس ينسبونه إلى العلم، وآخرون إلى انتحال السحر، وليس من ذلك كله في شيء، إنما هو شديد الفطنة والذكاء، كثير البحث واللجاج بما يعلم وما لا يعلم، عمره بين الستين والسبعين، وركبتُه اليمنى عاطلة من سهم أصابه في الغارة أيام صباه على ما أخبرني، فيجرها في قريب المشي، ويتناولُه الرجال على الأيدي عند طول المسافة، وهو مصنوع له، والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده”.