شوف تشوف

الرأي

سلالات العباقرة

خالص جلبي

في يوم أرسلت شابة جميلة رسالة إلى برنارد شو، الساخر البريطاني والفيلسوف، تقول فيها: أريد أن أتزوج منك فيأتي طفل يحمل جمالي وذكاؤك، فيكون أعجوبة العالم! تأمل الفيلسوف كلمات الفتاة وأجابها: أخشى أن يحصل العكس فيكون أضحوكة العالم! هي نكتة نرويها، ولكن العلم يطرح السؤال المحوري والتاريخي: إذا كان ثمة عباقرة في التاريخ فلنحاول أن نأخذ من أنسالهم من يحمل جيناتهم المتفردة، فنطور الجنس البشري نحو الأفضل دوما.
نحن نتذكر من تاريخنا حين وضع (ابن مسكويه)، الذي عاش في أواخر القرن الرابع الهجري ومطلع الخامس (325 ـ 421) كتابا بعنوان «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق»، قام فيه بتأسيس علم نفس إسلامي من أجل الوصول إلى الإنسان الكامل.
الشيء نفسه فعله (عبد الرحمان بدوي)، الفيلسوف المصري صاحب أضخم موسوعة فلسفية عربية بتسعين كتابا، حين وضع كتاب «الإنسان الكامل في الإسلام»، ولكن (روبرت غراهام) حاول في أمريكا استنبات العبقرية من مدخل بيولوجي، فأسس بنك (مني العباقرة) وهي خطوة بين مشروع اليوجينيا القديم والاستنساخ، الذي نجح فيه الأستكتلندي إيان ويلموت عام 1997م.
في الواقع تبقى تربية الإنسان من أعقد وأشق الأمور، ولكن إذا نجحنا فيها ارتحنا كثيرا، فخرج إنسانا عاقلا ولم يخرج مريضا نفسيا أو طاغية. ومدخل الإنسان للرقي أربعة:
ـ أولا: الجينات التي يأخذها الإنسان من والديه، ولم تأت الرسالة لنبي مصاب بعاهة فوجب أن يكون من الناحية الجسدية في أحسن حال، والله تكلم عن (طالوت) أنه آتاه بسطة من العلم والجسم.
ـ وثانيا: المناخ الاجتماعي والوسط البيئي الذي ينبت فيه طبقا عن طبق. فالمناخات الحارة أو الجبلية المرتفعة، حيث ينقص الأكسجين أو شديدة البرودة القطبية كلها مناخات ساحقة غامرة تعطل الملكات الإنسانية. ويضاف إلى العنصر الجيني البيولوجي والمناخي الاجتماعي أثر الغذاء، فكلها عناصر تتدخل في إنتاج العبقرية.
والأمريكي (روبرت غراهام) الذي عرضت قناة الديسكفري تجربته أسس معهدا في كاليفورنيا، وكان يتصل بالعظماء والنوابغ وحاملي جائزة نوبل والأكاديميين غير العاديين، بالإضافة إلى المهندسين المبدعين يطلب منهم عينة مني (من مقذوفهم الذكري) لتلقيح امرأة ترغب في ذلك لسبب أو آخر. وهو أمر مشى في الغرب وكان عندنا حجرا محجورا خوفا من اختلاط الأنساب، وأنا أعرف من أخذت من أختها بويضتها ثم حملتها في رحمها، بعد أن لقحتها من زوجها فخرجت إنسانة سوية من أب واحد وأم واحدة لها البويضة والثانية لها الرحم، وما يحصل من تلقيح الأنابيب هنا في المغرب شيء كثير.
وممن أخذ المني منهم المهندس الذي صمم مشروع حرب النجوم لريغان، الرئيس الأمريكي الأسبق. ومنهم واحد من حملة جائزة نوبل، ومنهم من كان الناجح في تجارته ذا البنية الرياضية المتفوقة، طويل القامة، رشيق القد، وسيم الشكل؛ فكل هؤلاء الناس حاول الدكتور غراهام أن يحصل المني منهم ثم يحفظه مبردا في الآزوت السائل 160 تحت الصفر، وإعطائه للنساء اللواتي لا يحملن من أزواجهن وبرغبتهن الخاصة.
وهو أمر له مشاكله الأخلاقية والقانونية والنفسية، وهو ما شاهدناه في برنامج الديسكفري، حيث بدأ البحث عن والد الطفل الذي استخدمت حيواناته المنوية في التلقيح.
ونظرية الدكتور (روبرت غراهام) تقوم على أن العبقرية أساسها بيولوجي، ويمكن إذا أخذنا الحيوان المنوي من المبرزين العباقرة الذين كان مقياس الذكاء عندهم فوق 140 أن ينشروا بذورهم لإيجاد سلالة متفوقة.
والعلم حتى اليوم لا يستطيع أن يراهن تماما على سبب العبقرية، أو كيفية صناعتها على وجه اليقين. ولقد فحص دماغ أينشتاين تشريحيا عدة مرات فلم يظهر أي تميز، كما أن تورجينيف، الروائي الروسي، وآخر فرنسي (أناتول فرانس) امتاز الأول بدماغ هائل والثاني بجمجمة صغيرة، فكان كلاهما عبقريا في الرواية.
وهناك بالطبع من يدعي أن هذا بالإمكان، ولكن الإنسان كائن في غاية التعقيد، وكل من يراهن على عنصر دون آخر يغامر بحماقة. والتاريخ أظهر خروج أناس عباقرة من ظهور أناس عاديين، كما عند أينشتاين وأبويه اللذين كانا من عامة الناس. والعكس بالعكس فقد خرج من سلالة العباقرة أناس عاديون. وكل إنسان هو كون قائم بذاته وكل منا هو عبقري بدرجة واتجاه، ولكن يحتاج هذا للكشف عنه حسب اهتمامات كل إنسان، والعبقرية تتولد من الاهتمام والمتابعة. وأنا شخصيا أكرر لمن حولي مقولة أديسون إن العبقرية هي نسبة واحد في المائة والجهد 99 في المائة، وفي بحث علمي قالوا إن العبقرية هو التراكم المعرفي من وحدات معرفية سموها (شانك) تبلغ مائة ألف وحدة معرفية، وتتراكم في مدى عشر سنوات.
وابن مسكويه بحث الموضوع من جانبه التربوي أن كل إنسان هو قطعة من الألماس تحتاج إلى صقل. وتكلم عن تعريف النفس وقوى النفس والفضائل الثلاث العفة والشجاعة والحكمة، التي هي حاصل ما ينتهي إليها الأخلاق.
وتكلم في الفصل الثاني عن صناعة الأخلاق ودستور تهذيب الأطفال وغاية الكمال والسعادة التامة. وهو ما أتى به الفيلسوف الهولندي سبينوزا، حين وضع كتابه «الأخلاق مؤيدة بالدليل الهندسي»، ثم تكلم ابن مسكويه في الفصل الثالث عن الفرق بين الخير والسعادة، ثم عن أعمال الإنسان وأسباب المضرات ومنازل المتعبدين، ليختم كتابه في إشراق النفس وأنواع المحبة ومعالجة الأمراض النفسية. وفي المقالة الأخيرة السابعة تكلم عن الطب النفساني وعالج فيها مجموعة من الأمراض مثل: التهور والجبن والعجب والافتخار والمزاح والتيه والغدر والضيم والغضب والخوف وأنواعه، ثم خوف الموت وعلاج الحزن. وبهذه الباقة السباعية من المقالات كان ابن مسكويه مؤسسا لعلم النفس الأخلاقي. والدكتور (غراهام) الذي مات عام 1997م، وأغلق معهده من بعده وأثبتت تجاربه على حوالي 200 شخص أن من جاؤوا من مني المميزين لم يختلفوا كثيرا عمن حولهم، ولكن أمريكا أم العجائب وحتى اليوم فقد تم تلقيح وإنجاب 60 ألف طفل من هذا النوع في مخابر غير التي أسسها غراهام، والطلب يشتد يوميا خاصة على الأكاديميين الذين يحملون شهادة الدكتوراه. والذكاء ذكاءان: العقلي وهو ما تعرفه مدارس علم النفس التقليدية وهو قسم من ذكاء الإنسان، وهناك الذكاء العاطفي الذي تحدث عنه دانييل غولمان في كتابه «الذكاء العاطفي»، وهو بحر لم يسبح فيه العلم بعد. ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى