الرأي

«الفابور»

يونس جنوحي

في السابق كان يتطلب إسقاط كاتب معروف في خطأ أمام قرائه، مجهودا كبيرا ومصاريف طائلة من النبش في كتاباته، ومقارنتها مع كتابات آخرين، والبحث عن «سرقة فكرية» ما للطعن في إبداعه.

اليوم أصبح تصيد أخطاء الكُتاب أسهل بكثير من القراءة لهم. العالم كله في قبضة الكف، ويكفي كتابة مستهل مقال ما، لمعرفة الجهة التي سُرق منها أي مقتطف منه. ليس هناك أسهل من كشف السرقات الفكرية، أو ما أصبح بعض الكتاب يصفونه بـ«الاقتباس».

والحقيقة أن هذا الاقتباس مرتبط بـ«الاحتباس» الناتج عن أزمة الإبداع لدى كثير من الناس. قد يختلف كاتبان أو باحثان حول استعمال نص ما في عمل معين، لكن أن يسرق كاتب مجهودات آخرين ويقدمها على أنها بحث جامعي رصين، وهو لم يضف إليها أي شيء إلا اسمه و«الثمن» في الغلاف، فهذا في الحقيقة قمة في الصلافة.

مناسبة هذا الكلام ما كشفته سيدة روسية، بخصوص أستاذ سابق لها أيام ألمانيا الشرقية. إذ إن السيدة كانت قد أنتجت مجموعة من الأبحاث السريرية، التي كلفها بها الدكتور المشرف على بحثها الجامعي، في إطار مشروع لعلم النفس. فإذا بها تكتشف سنة 2019، مع بداية انشغال الناس بكورونا، أن الدكتور وضع مجموعة من الدراسات في موقعه الخاص على أنها من إنتاجه، وحذف منها بسوء نية، كما كشفت الأبحاث، اسم السيدة التي أنتجت أزيد من عشر محاولات في تلك الدراسة، وحصلت بموجبها على نقط موجبة لحصولها على شهادتها الجامعية، قبل ثلاثين سنة.

والنتيجة أن الدكتور اعتذر وسحب البحث، وأعاد الاعتبار للسيدة التي طالبت بتعويض مادي، لأن الدكتور استعمل مجهودها أيام كانت طالبة عنده، ونسب ما قامت به من بحث أكاديمي لنفسه.

هذه القصة تذكر بموضوع فيلم بعنوان «الزوجة»، يتناول حياة كاتب «ما»، حصل على جائزة نوبل في الآداب. بينما كان في الحقيقة رجلا متواضعا في إبداع الأدب، ولم يكن هناك أي شيء مميز في كتاباته، لولا أن زوجته كانت تقضي سنوات من عمرها معتكفة على قراءة أعماله وإعادة صياغتها من جديد، منذ أن كانت شابة طالبة عنده في الخمسينيات من القرن الماضي، إلى أن أصبحا عجوزين يذكران بعضهما البعض بمواعد أخذ الدواء.

وتدخل صحافي «فضولي» في القصة، تابع إنتاجات الكاتب منذ سنوات، وقارنها مع بعض القصص التي كتبها الأستاذ، قبل أن تدخل السيدة حياته، وكشف السر بشكل متزامن مع حصول الكاتب الشهير على جائزة نوبل.

ولعل اللقطة التي تحبس الأنفاس في الفيلم، تلك التي تصور عراك الزوجين داخل السيارة الفارهة، التي وضعها القائمون على جائزة نوبل رهن إشارتهما لنقلهما من مكان العشاء إلى الفندق، حيث في غمرة صراعهما بسبب سرقته لسنوات عمرها ونسب إنتاجها إلى نفسه، طارت الميدالية الذهبية لجائزة نوبل من نافذة السيارة وسقطت فوق الثلج.

ترى، كم من شخص يدعي اليوم المعرفة الأكاديمية، ليس سوى لص لإنتاج طلبته القدامى؟ وكم من طالب موهوب تعثر مساره الجامعي، بسبب خلاف مع أستاذ مشرف دخل فيه الشخصي بالأكاديمي.

في كل مكان من العالم، نادرا ما يُحاط أصحاب الحقوق بما يستحقونه من عناية، عرفانا بما أنتجوه من أفكار أو فنون أو أدب.

هناك سرقات فكرية أينما أدرت وجهك. مغنون يطالبون بحقوق أغانيهم، التي تستعمل في إعلانات المواد الغذائية دون استشارتهم، وكُتاب يطالبون دور النشر بدفع مستحقاتهم، بينما هذه الأخيرة تشتكي من «القراصنة» الذين يطبعون روايات الجيب والأعمال الكاملة لنجيب محفوظ ويبيعونها في الرصيف. أما الأفلام وحقوق نقل دوريات كرة القدم، فهناك «أفلام» في طريقة قرصنتها. أليس هناك من يسألك دائما عن حساب مجاني في «نتفليكس»؟ الأمر سيان إذن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى