يونس جنوحي
في فبراير من العام الماضي، تقرر أن تنتقل ملكية مسرح “سيرفانتيس” الكبير إلى الدولة المغربية. مسرح يعتبره أهل الاختصاص الأول في إفريقيا. صرح معماري انتهت أشغال بنائه سنة 1913، وافتُتح لاستقبال الزوار ولُعبت فوق ركحه أول مسرحية إسبانية ثم تلتها بعد ذلك مسرحيات وعروض فنية أخرى لجنسيات أخرى تمثل الجاليات الأجنبية التي عاشت في طنجة الدولية.
توقفت أشغال الترميم لعامين كاملين، قبل أن يجري استئنافها مؤخرا.
يمر الزوار يوميا بالقرب من المعلمة الثقافية غير مكترثين لما يجري في الداخل. الثقافة لم تعد تعني إلا قلّة فقط من الناس. لن يُمانع أغلب المواطنين إن تحول المسرح يوما إلى سوق مفتوح، لتقريب الخضر والفواكه من المواطنين، ووحدهم الغيورون على الثقافة سوف يُنددون بالخطوة، ويُنسى كل شيء في الأخير.
لكن في حالة مسرح سرفانتيس، والحمد لله، لا يمكن أن تُرتكب حماقة مماثلة، أو بالأحرى لم يعد ارتكابها ممكنا بحكم أنها فُوتت رسميا إلى الدولة وليس إلى المستثمرين. ورغم بطء الأشغال وتأخرها، بحكم أنها استُئنفت مرة أخرى في غشت من العام الماضي، إلا أن الطريقة التي سوف تعود بها الحياة إلى هذه البناية تُسائل الذاكرة الجماعية.
من العار فعلا أن يُفتتح المسرح بعد سنوات طويلة من الإغلاق، وبعد 111 سنة على تأسيسه، وألا توجد في ردهاته أي إشارة إلى ما كان عليه في السابق.
هناك تحد آخر، تتعدى صعوبته تحدي ترميم الجدران أو تغليف الكراسي أو حتى استبدالها بأخرى، وهو استعراض ذاكرة المكان.
هل فكر المسؤولون عن المسرح حاليا في عرض أرشيفه وتمكين الزوار من الاطلاع عليه والفرق العالمية التي لعبت فوق خشبته؟ وحتى إذا غابت عن المسؤولين الحاليين عناصر أرشيفية تستحق العرض، فإن دورهم يتمثل في البحث عنها، وتعيين لجنة متخصصة للتنقيب عن أرشيف “سيرفانتيس” في المغرب وفي إسبانيا أيضا، وجمع الصور الفوتوغرافية التي تؤرخ للحقب الثقافية والمدنية وحتى العسكرية التي عاشها هذا المسرح وكان سقفه مأوى لبعض أحداثها العصيبة.
عمالقة الفن في القرن الماضي مروا من “سيرفانتيس” خلال زيارتهم إلى المغرب. فرق مغربية تعلمت أصول المسرح هناك، قبل حتى أن تتأسس وزارة الثقافة!
عندما كانت الحرب الأهلية الإسبانية تحصد أرواح الإسبان وتلاحقهم حتى في منامهم، أيام “فرانكو”، كان مسرح سيرفانتيس ملجأ للمبحوث عنهم، بمباركة من المشرفين على البناية، والذين لم يترددوا في إيواء الهاربين من المُخبرين والبوليس السري. وفي الحرب العالمية الثانية، سرت إشاعات مفادها أن المسرح قد يُقصف أو يُفجر بالقنابل في أي لحظة، لكنه بدل أن يلعب دوره الثقافي والفني وحسب، فتح بابه على مصراعيه أمام الرافضين لما يجري في أوروبا من مجازر يومية في حرب الحلفاء ضد النازية.
وفي الانتكاسات الصحية أثناء انتشار الأنفلونزا الإسبانية سنة 1920، تحول مسرح سيرفانتيس إلى ما يشبه قاعة كبيرة للحجر الصحي، قضى فيها المصابون فترة “الكارانتينا” -الحجر الصحي- لتطويق الوباء ومنع انتشاره في أوساط سكان المدينة الدولية.
ترميم صرح بهذا الحجم، وهذا الزخم، لا يمكن أن يتوقف عند طلاء الجدران وسد الثقوب بالجبس وترميم الزخارف الإسبانية وطلاء الخشب واستبدال قطعه التي أكلتها الفئران لعقود. التجارب الدولية في ترميم البنايات الثقافية، والتي لا ندري هل انفتح عليها أصحاب الحال عندنا أم لا، تعتبر أن ترميم الأماكن لا يتم إلا بترميم الذاكرة أولا. الأمر أشبه بمحاولة إنعاش مصاب بالزهايمر. لا يكفي أبدا أن نُحممه ونأخذه إلى الحلاق وأصحاب تدريم الأظافر.. الأمر يتطلب جلسات إنعاش مطول للذاكرة باستحضار الصور وعرض الوثائق، واستحضار الروائح هي الأخرى إذا تطلب الأمر ذلك!