الرئيسية

عندما يغضب القصر الملكي

«إلى طاغية الإنجليز القاطن في بلاد الفرنسيس يعقوب المسمى بلسانهم جيمس». ليست هذه إلا البداية لرسالة نارية كان المولى إسماعيل قد أرسلها إلى جيمس الثاني. وبعد تلك البداية النارية التي لم تكن مطمئنة أبدا، جاء ما يلي: «وأنت إن خممت مع رأسك وفكرت في نفسك واخترت الدار الآخرة على الدنيا ودخول الجنة على النار، فأنت عرفت سبيلها فاتبع هذا الدين الحنفي وانطق بالشهادتين، فإن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة».
هذه ليست إلا نقطة من بحر الرسائل الرسمية التي تؤرخ لخبايا المراحل السياسية التي مر بها المغرب، خلال قرون خلت.
عندما زار مجموعة من الباحثين المغاربة مكتبة جامعة كاليفورنيا قبل عقدين من اليوم، كانت صدمتهم كبيرة عندما وجدوا بعض النسخ النادرة لمجموعة من الكتب التي اهتمت بتاريخ المغرب. لم تكن تلك الخزانة وقتها قد وفرت إمكانية تحويل أرشيفها كاملا إلى صيغة رقمية تسهل الولوج إليها من أي مكان في العالم، وهكذا كان صعبا الانكباب على الأرشيف في مدة الزيارة التي كانت قصيرة.
غصة في الحلق هي ما يمكن أن يشعر به أي مغربي عندما يرى جزءا مهما من تاريخ بلاده مدونا بعناية في أرشيف الآخرين، خصوصا إذا علم أنه من الصعب الوصول إلى الأرشيف الرسمي للمملكة، ونقصد به هنا أرشيف الوثائق الرسمية الملكية التي لم يستطع الوصول إليها إلا الذين تقلدوا منصب مؤرخ المملكة، ليستثمروا تلك الوثائق في تأليف بعض الكتب التي صنعت تاريخنا الرسمي.
في ذلك الأرشيف الأجنبي، توفرت ترجمات لبعض الرسائل النارية، تبقى أقواها رسالة المولى إسماعيل إلى جيمس الثاني، الذي كانت وضعيته وقتها مهزوزة. تقول الرسالة، التي سنأتي إلى تفاصيلها وسياقها، في بعض مقاطعها: «فالغ عنك ما تقدم بينك وبين قومك فإن الصواب معهم في الإنكار عليك بسبب الدين الذي أتلفت معهم فيه، واعتذر لهم وعاودهم وراجعهم. ووالله لولا أننا أناس عرب لا معرفة لنا بالبحر أو كان عندنا من يحسن معرفته أو نستوثق به في الجيش ونطلقه بين يديه حتى نكاتب الإنجليز ونبعث لك من الجيش ما تدخل به عليهم وتتولى به ملكك. ولكن مسألة واحدة نعرفك إياها، فحاول أن تتنصل من بلاد الفرنسيس واقصد لشبونة من بلاد البرتغال وها زوجة أخيك البرتغالية اليوم هناك، ولقد كان لها عند أهل ديوانكم وجه وكلام ومن هناك تقترب المسافة بينك وبين قومك وتسهل عليك مناولة الكلام معهم، لكن بحيث لا يكون للفرنسيس بك شعور وأما إذا عرفوا منك فلا يتركونك..».
هذه الرسالة محفوظة في إصدار لمديرية الوثائق الملكية، في المجموعة الأولى من الوثائق، وهي، أي الرسالة، تجمع بين النصح والوعيد، إذ إنها بدأت بوصف المرسل إليه بالطاغية، وتضمنت فقرات كثيرة من الوعظ والإرشاد والدعوة لاعتناق الإسلام، بالإضافة إلى النصائح الأخوية..
هذا الأمر لم يكن غريبا على المولى إسماعيل، فشخصيته التي جمعت بين الغرابة والغموض، انعكست على الرسائل الملكية التي كانت تصدر باسمه في ذلك الوقت.
كان جو كتابة الرسائل الملكية وقتها مشحونا، وفي الأغلب يتكلف كتاب خاصون بكتابتها، إما بتوجيههم بخصوص مضمونها والنقاط التي يجب أن تتفصل فيها الرسالة، وإما بإملائها شفهيا، والمولى إسماعيل كان يتلو رسالته شفهيا ويتولى الكاتب أمر توثيقها، لأنه كان حريصا على أن تصل كل كلمة مما كان يجول في نفسه، إلى الجهة التي ستصلها الرسالة، سواء أكان المرسل إليه واحدا من أبنائه الكثيرين، أو زعيم دولة حتى لو كانت قوية عسكريا واقتصاديا. بينما عكف سلاطين آخرون على تكليف من ينوب عندهم في تدبيج نصوص الرسائل الملكية، واكتفوا بتحديد موضوع الرسالة وما يجب أن تتضمنه ليتركوا لكتابهم حرية صياغتها، خصوصا وأن بعض الكتاب كانوا يضبطون أسلوب الرسائل السلطانية والتقاليد المرعية في هذا الباب..

الأساليب السرية لكتاب الدولة في صياغة الخطابات
بعض الذين اشتغلوا في منصب كتاب الدولة، خصوصا في عهد المولى سليمان، كانوا يستقوون بمركزهم الاجتماعي لكونهم يشتغلون في «المخزن»، وهذا الأمر لوحده وقتها، كما في أوقات أخرى، كان كافيا لفتح الأبواب المغلقة.
في آخر أيام المولى سليمان، كانت التجارة مزدهرة، رغم أنها كانت متضررة من انغلاق الدولة سياسيا وعدم انفتاحها على اتفاقيات مع السفن الأوربية، لكن تلك الفترة شهدت ازدهارا تجاريا وظهور طبقة من الأغنياء المغاربة الجدد.. يهودا ومسلمين أيضا.
المراسلات وقتها لعبت دورا مهما في دعم بعض الأسماء وتعبيد الطريق أمامهم لكي يصبحوا من الأعيان ويستفيدوا من امتيازات تجنبهم أداء الضرائب الثقيلة للدولة، وهنا بالضبط لعب بعض الكتاب دورا مهما في تكوين ثرواتهم الخاصة، بعيدا عن خزائن الدولة، بحيث كانت بعض المبالغ تذهب إلى جيوبهم مباشرة، والمقابل كان تمتيع بعض التجار بامتيازات «مخزنية» دون غيرهم.
لكن هؤلاء الكتاب لم يكونوا ليتجرؤوا على إصدار رسائل سلطانية من تلقاء أنفسهم، وإنما كان «لعبهم» يقتصر على إصدار توصيات بحكم منصبهم المخزني، أما الرسائل السلطانية التي كانت توصي بتسهيل معاملات بعض التجار أو تمكينهم من احتكار حق استيراد بعض السلع، فقد كانت نادرة، ولم يستفد منها إلا قلة من التجار الذين استطاعوا إقناع السلطان بوضع ثقته فيهم، شريطة التزامهم بأداء ضرائبهم للدولة، وهو ما لم يقع.
النتيجة كانت أن القصر أصدر رسائل وعيد قاسية في حق هؤلاء التجار، ومن بينهم بعض التجار اليهود الذين فروا إلى خارج البلاد مخافة العقاب من تملصهم من الالتزام بأداء الضرائب للدولة. كانت تلك الرسائل تصدر من القصر وتوجه إلى موظفي المخزن بحسب اختصاصاتهم، ليعملوا على تنفيذ مضامينها.
وبعيدا عن أجواء الاحتقان، فإن هناك رسائل رسمية أخرى، كان الغرض منها تنظيم النزهات وأنشطة الترويح عن نفس الملوك، وكانت بدورها رسمية وصادرة عن القصر. عبد الرحمن بن زيدان، مؤرخ القصر سابقا، وأحد السباقين إلى مطالعة تاريخ الرسائل الملكية، أورد بعض نماذجها ونماذج الردود التي كان القصر يتوصل بها. وهنا واحدة من الرسائل الصادرة عن القصر بناء على رسالة سلطانية لتنظيم نزهة للمولى الحسن الأول. وكاتب الرسالة هو أحد الموظفين المخزنيين بالقصر واسمه موسى بن أحمد: «سيدنا وابن سيدنا سيدي مولاي الحسن، حفظك الله وسلام عليك ورحمة الله من خير سيدنا أيده الله ونصره وأدام جوده وعلاه. وبعد فقد كتب أهل الدار لسيدنا يطلبون منه يجعلون نزهة فرحا وتهنئة براحته، وأذن لهم في ذلك، وعليه فيأمرك دامت سعادته أن تدفع لهم خمسين مثقالا بوجهها يشترون بها إقامة النحور، وادفع لهم إقامة الطعام مما يخصهم كله دقيقا ودجاجا وغيره مما يحتاجون إليه مدة ثلاثة أيام، وادخل لهم رباعة من الزنفيات (المغنيات) فقط، وأن توقفوا على من يدخل من برة (الخارج) فيدخلون دار الشرفاء أعمامك على العادة دار مولاي علي ودار مولاي بوعزة وبنتي مولاي المامون ولالة زينب بنت مولاي الشريف ودار عمك مولاي موسى وأخيه ليس إلا. والزنفيات يجلسن ثلاثة أيام فقط ولا يزدن عليها، وعلى محبة سيدنا والسلام».
ويتوفر الأرشيف الرسمي على عدد كبير من الرسائل التي استشف منها هذا المؤرخ، عبد الرحمن بن زيدان، معلومات مهمة عن يوميات السلاطين وعاداتهم، وطلباتهم إلى ولاتهم وعمالهم على الأقاليم، بحيث تحولت تلك الرسائل السلطانية إلى وثائق للأرشفة.

عندما وصف المولى إسماعيل الملك جيمس بالطاغية
الذين جاؤوا ملوكا بعده كانوا أكثر من الذين سبقوه إلى عرش المملكة، لكنه يبقى أكثر الملوك المغاربة إثارة للجدل. عندما تعود مرة، وأخرى، إلى حياة المولى إسماعيل، تجد بما لا يدع مجالا للشك أنه من أكثر الحكام الذين أصدروا الرسائل الغاضبة في تاريخ المغرب، مقرّعا تارة ومعلنا الحرب تارة أخرى ضد دولة أجنبية.
في رسالته إلى جيمس الثاني، كان المولى إسماعيل يخاطب نظيره بلهجة عنيفة، بعيدة تماما عن الرسميات وخطابات الديباجات العريقة والبروتوكولات.. حتى أن المولى إسماعيل وصف جيمس الثاني بطاغية الإنجليز، حيث جاء في نص الرسالة التي تحتفظ بها مديرية الوثائق الملكية، ما يلي: «إلى طاغية الإنجليز القاطن في بلاد الفرنسيس يعقوب المسمى بلسانهم جيمس». لتعرج الرسالة إلى المرور لنقاش حول ما أسماها المولى إسماعيل في رسالته: أمور الدين والدنيا.
فقد اعتبر المولى إسماعيل أن جيمس الثاني مجرد حاكم طائش، وأراد أن يعلمه بعض الأمور الدينية المتعلقة بأهل الكتاب والأمور الدنيوية كان يقصد بها العلاقة بين البلدين.
لم يكن غريبا على المولى إسماعيل أن يصدر هذه الرسالة إلى ملك دولة أخرى، فقد اعتاد أن يرسل أقوى منها إلى أبنائه عندما كان يعينهم نوابا له في المدن والمناطق التي كانت تشهد في عهده توترات سياسية.
المثير في رسالة المولى إسماعيل أنها كانت تحمل أبعادا دينية أكثر مما كانت تهتم بالسياسة، ولم يفته أن ينبه جيمس الثاني إلى هذا الأمر، حيث جاء في الرسالة استدلال صريح بآيات قرآنية مفادها أن الغرض من الحياة هو عبادة الله بالدرجة الأولى، أما أمور الدنيا فتأتي في الدرجة الثانية.
الرسالة دخلت لتفصل في أمور المعتقد الديني، بلهجة لا تخلو من حزم، وكأن المولى إسماعيل كان يريد بها تنبيه جيمس الثاني إلى أن القرآن الكريم يتضمن آيات تشير إلى قصة المسيح، وهو الأمر الذي لا بد وأن يكون قد شكل إحراجا لجيمس الثاني، لأن المولى إسماعيل كان صريحا ليعبر بدون ترميز عن تشكيكه في الرواية المسيحية لقصة صلب المسيح، والمعروف وقتها أن الملكية في بريطانيا كانت أيضا تستمد شرعيتها من الكنيسة، ولم يكن بالأمر الهين أن تشير رسالة رسمية إلى مسألة الاختلاف الديني، في ظل أجواء سياسية متوترة أصلا.
إليكم هذه الجملة من الرسالة: «.. وأنت إن خممت مع رأسك وفكرت في نفسك واخترت الدار الآخرة على الدنيا ودخول الجنة على النار، فأنت عرفت سبيلها، فاتبع هذا الدين الحنفي وانطق بالشهادتين، فإن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ولو قالها مرة في عمره ويدخلها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن له في أهل الكبائر والجرائم والذين نفذ فيهم الوعيد شفاعة عظمى خصه ربه بها في الموقف العظيم. ووالله إن أنت اعتقدت هذا الاعتقاد ووفقك الله إليه وعملت ما عمله قيصر من اعتقاده بقلبه وتيقنه به في نفسه حتى تحمد ذلك حالا ومآلا إن شاء الله.
فهذه المسألة الدينية التي نصحناك بها. والمسألة الدنيوية هي إذا أنت أحببت الإبقاء على دين الكفر، فدين قومك الإنجليز أخف وأيسر عليك من عبادة الصليب ومتابعة الذين يجعلون لله الولد وينزهون عنه رهبانهم، وأي شيء رأيت في تغريبك عن وطنك وبعدك عن بلدك وخروجك عن ملة أبيك وجدك وتدينك بدين غير دين قومك، وإن كان الجميع على ضلال، فدينكم أنتم معشر الريكس أيسر من أولئكم المتوغلين في الكفر، وحتى امرأتك الفرنسية التي كانت تحوزك على التعبد بدينها ها أنت افترقت معها، فعلى ماذا أنت باق في جوار الفرنسيس تاركا ملتك؟».
بقية الرسالة لا تخرج عن هذه اللهجة، فحتى عندما دعاه المولى إسماعيل إلى اعتناق الإسلام، لم يغفل أن يشدد لغة الخطاب، خصوصا في البداية ليعبر له عن غضبه وعدم رضاه عن العلاقة التي جمعتهما معا.

تقريع الولاة والعمال.. رعب لهجة خطابات الإعفاءات
لم يكن الوضع ليختلف لا في عهد المولى إسماعيل ولا في عهد من بعده، وصولا إلى عهد المولى الحسن الأول، فقد كانت الرسائل الملكية الغاضبة، خصوصا بين الفترتين، تحمل في طياتها كثيرا من القرارات التي لم تكن وقتها ولا بعده، قابلة لأي نوع من النقاش.
الأوامر الملكية كانت تنفذ فور توصل المعنيين بها، ولو كانت ستجر متلقيها إلى حتفهم، خصوصا في الفترات التي كان فيها عدم الاستقرار السياسي مسيطرا على الأوضاع في المغرب.
فقد أوردت بعض المصادر التاريخية الشهيرة، مثل «الاستقصا» لصاحبه الناصري، و«العز والصولة»، إشارات إلى أن رسائل ملكية رسمية كانت وراء إطفاء نار الحروب التي كان وراءها عمّال وقياد غاضبون أرادوا الانقلاب على الدولة، مستغلين الفترات الانتقالية للحكم بين أبناء السلاطين الذين تعاقبوا على حكم المغرب.
ففي بداية عهد الحسن الأول، كانت هناك بعض التحركات غير العادية في نواحي مراكش، وكانت تحركها بعض الزوايا التي أراد زعيم أحدها أن ينقلب على أحد القياد، الذي طال شططه الناس ولم يفلحوا في إيصال شكواهم إلى القصر، فقرروا التمرد والعصيان إلى أن يتم استبداله. زعيم الزاوية أراد الركوب على الحدث، ليعلن استقلاله عن أي سلطة وشرع في حشد أتباع الزاوية وإطعامهم، خصوصا وأن السنة كانت سنة جفاف وقحط وكان هم الناس تدبر قوت يومهم في وسط لم يجدوا به حتى ما يسدون به الرمق.. لكن رسالة واحدة فقط من المولى الحسن الأول، جاء بها قائد فريق من الجنود لإعادة ضبط الأوضاع في المنطقة، كانت كافية لتهدئة الناس وامتصاص الغضب، بإقالة القائد المتجبر، ومعاقبة الزاوية التي دخل بعض أنصارها في مواجهة مع الجنود وانتهت بهزيمة أنصار الزاوية، لتعود الأمور إلى نصابها، بحيث لم يتحرك الجنود في اتجاه القصر إلا بعد أن تم تعيين قائد جديد.
لم يكن القياد الجدد يعرفون بأمر تعيينهم مكان سابقيهم إلا عبر الرسائل السلطانية الرسمية التي كان يتكلف العسكر بتلاوتها في الأسواق والأماكن العامة، لضبط النظام وإطفاء نار الفوضى..
قصة أخرى، من عهد الابن الثاني للمولى إسماعيل، لعبت فيها الرسائل السلطانية دورا كبيرا في إنهاء الفتنة. إذ إن حربا حقيقية اندلعت في فاس، أحرقت فيها المنازل ووصلت نارها إلى الحقول التي كان يمتلكها الأعيان، بعد فرض الدولة لنظام ضرائب جديد، كان يصطلح عليه بنظام ضرائب «البوابات». وكان هذا النظام يقوم على مبدأ استخلاص الضرائب من المواطنين في بوابات الأسواق قبل بيع سلعهم داخل السوق، وكانت هذه الضريبة تقصم ظهر أغلبية الفقراء، لأنهم لم يكونوا يتوفرون على ما يؤدون به ضريبة للدولة على ما يأتون به إلى الأسواق، خصوصا وأن أغلب ما يأتون به كان موادا فلاحية وأطعمة. أما الأعيان فقد كانوا يرفضون أداء الضرائب لأسباب أخرى تفوح منها رائحة السياسة.
بالعودة إلى رسالة ابن المولى إسماعيل، فإنه استعار لهجة رسائل والده، خصوصا وأن الأرشيف الرسمي يتضمن رسائل من المولى إسماعيل إلى أبنائه، كانت قاسية جدا ووصلت حد التقريع. اللهجة نفسها لجأ إليها ابن المولى إسماعيل ليتوعد المشاركين في أحداث الإحراق بالعقاب، وهو ما جعل فاس تعيش هدنة في اليوم نفسه الذي تلى فيه «البراح» الرسالة التي كان القصر قد أرسلها إلى القائد مباشرة.

رسائل تسببت في طرد الوفود من باب القصر الملكي
حتى لو كانت الرسالة بريئة، فإن سياق إرسالها ليس كذلك بالضرورة. ينطبق هذا الأمر على ما كان يتوصل به القصر الملكي ما بين فترة 1840 و1900 من رسائل رسمية، خصوصا من الدول التي لم تكن لها قوة حضور في المغرب، مثل إيطاليا وألمانيا.. فحتى بعد إرسال رسائل رسمية إلى القصر، كان الرد المغربي عليها مقتضبا، وأحيانا تبقى تلك الرسائل بدون رد.
قصة الألمان مثلا، جديرة بالتأمل. فبعد رسائل رسمية ودية، قامت ألمانيا بإرسال وفد رسمي لا يتجاوز عدد أفراده 4 أفراد إلى المغرب في فترة انتقال السلطة إلى المولى عبد الحفيظ خلفا لأخيه، لكنه لم يستقبل الوفد الألماني. وبحسب المعلومات المتوفرة بهذا الخصوص، ومصدرها إنجليزي، فإن المولى عبد الحفيظ تجاهل استقبال الوفد الألماني، الذي كان يحمل بعض الهدايا للسلطان بمناسبة وصوله إلى السلطة، بناء على نصائح بريطانية!
أي أن البريطانيين استعملوا ثقلهم في المغرب وتشعب علاقاتهم وتعدد المغاربة الذين كانوا يستفيدون من الحماية البريطانية، لكي يعززوا وجودهم في المغرب أكثر، ويقنعوا القصر بعدم استقبال الألمان، بالرغم من أنهم سبق لهم إرسال رسائل ودية وتهنئة رسمية، لكن القصر لم يبادر إلى الرد عليها.
وتقول بعض الروايات التي يصعب التأكد من مصداقيتها ما دامت لم تدعم بوثائق من الأرشيف، إن بعض الرسائل الرسمية أحرقت حتى لا يتم الاحتفاظ بها، لكن هذا الطرح يبقى ضعيفا جدا، ما دام عبد الرحمن بن زيدان، المؤرخ السابق للمملكة، لم يشر أبدا إلى هذه الفرضية، خصوصا وأنه استطاع بفضل منصبه السابق في القصر، أن يصل إلى الوثائق الرسمية وأرشيف المراسلات. والأمر نفسه ينطبق على المؤرخ السابق عبد الكريم الفيلالي، فرغم الجرأة التي اشتهر بها في كتاباته ومهاجمته لبعض الوجوه الشهيرة من عالم السلطة والمناصب، إلا أنه لم يشر أبدا إلى مسألة إتلاف الرسائل الرسمية، سواء كانت مغربية، أو أجنبية.
بعض الرسائل التي قيل إن مصيرها بقي مجهولا كانت قد تسببت في أزمات دبلوماسية، في وقت كانت فيه البلاد تعيش تذبذبا وعدم استقرار سياسي. فأحد الوفود الأجنبية، والأرجح أنه ألماني، اضطر إلى العودة أدراجه من أمام قصر فاس، بسبب الرسالة الرسمية التي كان يحملها الوفد، والتي كانت تعرض جملة من الاتفاقيات مع المغرب بشروط معينة، وكانت تلك الرسائل سببا في طرد الوفود حتى قبل لقائهم رسميا مع السلطان، ففور ترجمة مضمونها، يُصرف الوفد بعد الاعتذار لأفراده عن عدم إمكانية لقاء السلطان لتبليغه مضامين الرسالة التي كلفوا بإيصالها له.. السيناريو ذاته تكرر مع وفد إيطالي، أيام المولى عبد العزيز، بضغط من الإنجليز الذين لم يستسيغوا أبدا محاولة الإيطاليين البحث عن موطئ قدم لهم في المغرب، وتزامن وصول الرسالة مع وجود أصدقاء بريطانيين للمولى عبد العزيز داخل القصر، وأشاروا عليه بصرف الوفد وعدم الرد على الرسالة وقدموا له تعليلات بشأن الأطماع الإيطالية وسوء نية الحكام الإيطاليين، فاستجاب المولى عبد العزيز لمشورة الإنجليز وصرف الوفد الإيطالي دون استقبال أو عناية، والسبب مضمون الرسالة التي تقدم بها الإيطاليون، والتي كانت تعرض على المغرب إبرام اتفاقية تجارية، وتمكين بعض التجار الإيطاليين من الحصول على بعض المواد ونقلها بحرا إلى إيطاليا، مع مراعاة تمكينهم من امتيازات كبيرة، أولها الإعفاء من أداء الضرائب. فكانت النتيجة إهمال الرسالة والوفد.

المولى سليمان.. الرجل الذي أملى خطابات نارية وقاطع البريد
رغم أنه عاصر الثورة الفرنسية وعهد نابليون، إلا أن المولى سليمان كان أكثر الملوك المغاربة مقاطعة للرسائل الأجنبية. في عهده، ما بين سنوات 1797 و1822، كان المغرب قلعة لا يعلم الأوربيون ما يدور داخلها. فبعد أن ورث الحكم عن والده محمد الثالث، كان المولى سليمان يرى في أوربا مصدر كل الشرور، ولا بد أنه كان يرى كيف أن أوربا جرت والده إلى كثير من المطبات، خصوصا وأن الفترة السابقة لحكم المولى سليمان، شهدت مناوشات ومواجهات ضارية في السواحل بين الإسبان والبرتغال من جهة، والمغرب من جهة أخرى، وانتهى أغلبها باحتجاز الأسرى وتحطيم السفن..
كان المولى سليمان لا يتردد في كتابة رسائله إلى ولاته، أو نوابه، عن طريق كُتّابه، ولم تكن رسائله بدورها لتخلو من لهجة حزم، ولو أنها كانت أكثر رسمية من رسائل المولى إسماعيل وأبنائه. فالمولى سليمان كان يعتمد في سياسته على الاهتمام بالشأن الداخلي أكثر من فتح الجسر مع الأجانب، وهو ما جعله يضبط حالة الداخل جيدا، وهكذا ترك بعد وفاته، أرشيفا من الرسائل السلطانية التي كان مجملها عبارة عن توجيهات لولاته، وإشادة ببعض العلماء.
فعلاقة المولى سليمان بالعلماء كانت شبيهة بعلاقة المولى إسماعيل بهم، وقد ظهر الأمر جليا من خلال الرسائل السلطانية التي توفرت في أرشيف القصر الملكي. فقد كان أغلبها عبارة عن مناقشات في المراجع الدينية وعلوم الحديث والتفاسير والفتاوى أيضا، وكان بعضها يتضمن أشعارا ونظما لبعض القواعد التي كان المولى سليمان يذكر بها العلماء أو يذكرونه هم بها، عندما كان يستفسرهم عن نازلة من النوازل.
وتبقى هذه العلاقة الوطيدة التي ربطها المولى سليمان مع العلماء، هي المحرك الأساسي لسوء علاقته بالعالم الخارجي، فهؤلاء العلماء هم الذين أشاروا عليه بتجنب الغرب تماما وعدم فتح الباب لمراسلات أو أي تواصل، سواء مع الفرنسيين، أو الإنجليز، أو أي جنسية أوربية.
بينما في الداخل، كانت الرسائل هي قناة الوصل التي جعلت المولى سليمان يشرف على سير قضايا الدولة، وما يحال على القضاة من قضايا معقدة.. هذه الرسائل جعلته يتابع عن كثب نبض الشارع، لذلك ربما كان عهده متميزا بنوع من الاستقرار السياسي، إذ لم تكن التمردات في عهده بالشكل الذي كانت عليه عند من سبقوه، ولا في ما جاء من أحداث.
لكن الرسائل الغاضبة للمولى سليمان كانت تصب في باب صرامته في إدارة شؤون الدولة وعدم تساهله مع المتقاعسين من خدام المخزن، لذلك كانت بعض خطاباته المرسلة صارمة ونارية، لكنه قاطع الرسائل خارج هذا الإطار، ولم يكن يتوصل بها ولا يرسلها. رغم أن بعض المصادر التاريخية تقول إنه توصل ببعض الرسائل من أوربا، لكنه لم يكن متحمسا لاستقبال وفد أجنبي ولا الرد على تلك الرسائل التي كانت تطلب فتح جسور التواصل، واقتصر المولى سليمان في علاقته بالخطابات والرسائل، على توطيد علاقته بممثليه وولاته داخل المغرب.
هكذا كان عهد المولى سليمان فرصة نادرة لتوثيق حالة خاصة من انكماش الدولة على نفسها، بعد أن كان المغرب في عهد المولى إسماعيل، أي قبل المولى سليمان بأزيد من قرنين من الزمن، يبعث الرسائل النارية والمؤثرة إلى أقوى الملوك في بريطانيا وفرنسا. هذا الانكماش، كما أسماه المؤرخون الذين وثقوا لفترة المولى سليمان، دفع المغرب ثمنه غاليا بعد سنة 1822، إذ كان على الدولة أن تغرق من جديد بالرسائل التي كانت تحمل بين سطورها الكثير من الألغام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى