شوف تشوف

الرأي

غابة من السيقان والإسفلت

أبدى الشيخ المكي الناصري امتعاضه من عرض القاعات السينمائية شريطا يحمل عنوان «غابة من السيقان»، لأن إحالته تشير ضمنيا إلى التفاف الساق بالساق. لم يكن المركز السينمائي في دائرة نفوذه، وأصر على استبدال اسم الشريط، وفي ذهنه أن ذلك أضعف الإيمان، على طريق تغيير المنكر ولم يكن للشيخ الناصري غير لسانه يجاهر به. بعد أن توقف قلب حزبه الإصلاحي عن النبض. ومكنه مروره من وزارة الثقافة من الاحتكاك بأفكار وتيارات كان ينظر إليه من زوايا متشددة.
قال العلامة الذي عرف مطلع تفسيره للقرآن الكريم بنداء «يا عباد الله»، إذا كانت السينما شرا لابد منه، فلا أقل من حجب ملصقات الأفلام ذات الإيحاءات الخادشة للحياء. ومادام الناس أحرارا في الولوج إلى القاعات السينمائية أو النأي عنها، فالملصقات يقابلها مفهوم التحريض، وهو شيء ذميم في غير ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم. ولولا استعارة كثافة أشجار الغابة في الدلالة على التحام السيقان أو بعدها عن بعضها لما أثار الأمر أي شبهة.
سأل الوزير الناصري الزجال أحمد الطيب العلج عما يقصده بالقول إنه «ضد الحكمة» كما جاء في أغنية «ما أنا إلا بشر»، فرد عليه بأن المشارقة يصفون الطبيب بالحكيم، وقد تعمد القول إنه ضد الأطباء الذين لا يشفون العليل من سقم العشق. وقيل للمطرب الشعبي حميد الزاهر: ماذا تقصد بأن الحب «يرجع نصراني»، فأجاب بأن ذلك معناه أن يصبح نقيضا، واستدل بوصف «كرموس النصارى» الخالي من أي إحالة إلى التمييز.
لا علينا فقد ارتبطت تقليعات لباس المرأة بالكشف عن المفاتن. وكانت جرأة خياطين تقليديين كبيرة، حين نزعوا عن جلباب المرأة غطاء الرأس، ثم أحدثت التنورة إلى ما فوق الركبة هزات في النفوس. لذلك لم تكن الغابة في عنوان الشريط المصري هي مصدر الإثارة، بل السيقان، ولو تغير العنوان إلى «غابة من الأيادي» لما أحدث أي رد فعل.
ووجدت أن الغابة التي ينعت بها القانون المتغطرس، إذ يتسلط القوي على الضعيف ويستبد الغني بالفقير، اقتحمت عالم الغناء كما لم تفعل فضاءات ومعالم أخرى، باستثناء القمر وشمس الأصيل وتموجات البحر وتدفق الأنهار. فالأغنية الشعبية التي لا يعرف كاتبها، تقول لازمتها: «وريني وحشك يا الغابة»، وقد أضفت على المستور المختبئ في الأدغال بعدا جماليا. فكما المرأة لا تستطيع أن تقدم أكثر مما تتوفر عليه من الجمال، فالغابة ليس في مقدورها أن تكشف عن غير الوحيش الذي يدب فيها. إلا أن تحدي المطرب الشعبي يفيد بمعان عدة، فهو يوحي بقدرته على اقتناص صيد الغابة، مهما كانت شراسته، كما يضمر صورة أخرى، عندما يصبح «الوحيش» أليفا يعاشر البشر.
هذا التحدي المشوب بالخوف والرغبة في الاكتشاف، أدخل الغابة إلى خانة التطبيع والتطبع، واهتدى الإنسان إلى فكرة نقل الغابة إلى العالم الحضري لدى إقامة المنتزهات وحدائق الحيوانات، كي يتفرج على شراستها إذ تصبح وديعة وسجينة الأقفاص. وحلم المخرج الراحل محمد الزياني الذي شغل منصب مدير المركز السينمائي المغربي ذات فترة، بإنتاج شريط يصور الحيوانات وهي تتفرج على الإنسان من وراء الأقفاص. وأطلق على مشروعه الذي لم ينجزه عنوان «غابة الإنسان»
غير أن مطربا شعبيا انبرى على نحو مغاير لاستحضار الغابة كرادع أخلاقي. فقد ترددت على نطاق واسع حكاية المرأة التي ذهبت رفقة عشيقها إلى الغابة وهي تحمل مولودها بين الأحضان. ثم تركته تحت ظل شجرة لاقتناص لحظة نزوة منزوية. وحين عادت تبحث عنه كان الأوان قد فات، تقول الأغنية: «تبعت الحبيب وخلات ولدها للذيب»، في إشارة إلى أن ذئبا مفترسا كان يترصد اللحظة. ففي البعد الأخلاقي أن الانحراف يقود إلى المهالك. ولا يعرف إن كان أصل القصة أنها وقعت فعلا أم من نسج الخيال الذي يسبح مع المتخيل عن عالم الغابة.
إلا أن المزارعين الذين يجاهرون بالشكوى من هجمات قطعان الخنزير البري الذي يبدد المحاصيل الزراعية ويعبث بالحقول والمساكن والأحواض، لا يفعلون ذلك من باب الخيال، ولازالت القوانين التي تنظم المراعي ومظاهر الحياة إلى جانب الغابات في حاجة إلى تطوير، كما هي ملفات تحديد الأملاك الغابوية. وإذا كان الخنزير يعرف بشراسة في قضم أي شيء بما في ذلك العظام والمتلاشيات، فإن أطماع البشر في تحويل فضاءات الغابات إلى مدارات حضرية، لا يوازيها سوى اقتلاع أكسجين الحياة من المجال الحضري.
أغنية «ذيب الغابة» لمجموعة «جيل جيلالة» اختزلت الصورة في شكل فني بديع، ومزجت بين ثلاثية الكلمات والدلالات، الغابة والنصب والوباء الجارف، ومن أجل سلامة الوزن والإيقاع ربطت بين الغابة و«النصابة والوابة»، أي النصابين والوباء. في الإيحاء إلى ثالوث الفساد الرهيب، حيث لا ينفع سوى الدعاء بتجنب الكارثة، نجانا الله وإياكم من عواقبها.
على قياس فهم البدوي الذي سمع الناس تتحدث عن الفساد الذي عم البر والبحر والسماء، فأضاف إليها مقولته: «حتى فالجبل عندنا» قد يأتي آخر ليقول: «وفي الغابة أيضا»، لكن أغنية «هوارة» عن الغابة باللغة الأمازيغية ارتقت بالصورة والمشاعر. والثابت أن الوصف الذي أطلق على التصرفات المجازفة في انتهاك القانون، والذي مفاده «قانون الغاب»، كان وسيبقى في محله اختزالا دقيقا للقيم والمفاهيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى