شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف الأسبوع

فرنسيون ضد فرنسا

شخصيات فرنسية تعرضت للتصفية والعدوان بسبب مواقفها المساندة للمغرب

في سياق التوتر الحالي بين المغرب والبرلمان الأوروبي، بسبب التصويت على قرار يدين المغرب على مستوى حقوق الإنسان، وجهت أصابع الاتهام إلى فرنسا وللدول التي ظهرت عليها أعراض العداء ضد المغرب. لكن التاريخ يروي لنا كيف سقطت فرنسا مرارا في امتحان حقوق الإنسان.

كتب التاريخ سطورا في صراع فرنسا ضد الدول التي استعمرتها واعتقدت أن الاستعمار مازال ساري المفعول. وجاء الرفض بغارات على سفارتها في بوركينا فاصو وعلى مقر مركزها الثقافي في البلد نفسه، ناهيك عن احتجاجات ضد الوجود العسكري الفرنسي في مالي والنيجر وغيرها من دول إفريقيا الغربية، التي رفضت الوجود الثقافي أيضا، ما يكشف حجم القلق الذي يستشعره المواطن الإفريقي من بلد لا يريد رفع اليد عن مستعمراته السابقة.

منذ سنوات، بدأت فرنسا تمارس وصايتها على المغرب، وتصر على إمساكه من الذراع المعنف، وفتحت جبهات اقتصادية وسياسية في البرلمان الأوربي، بين الفنية والأخرى تظهر بوادر توتر وأزمة بين الجانبين.

يستوقفنا التاريخ ليروي لنا قصص فرنسيين وقفوا في وجه بلدهم الأم، وأصروا على التصدي لجحوده وعدائه لبلدهم الثاني. شخصيات عديدة ضحت بالغالي والنفيس من أجل مبادئها، وقالت «لا» لجبروت فرنسا مع التذكير بمبادئ الجمهورية: «الحرية والمساواة والأخوة»، والتي أصبحت في مهب ريح السياسة.

في ملف «الأخبار»، رصد لمواقف شخصيات فرنسية أعلنت رفضها للجبروت الفرنسي وعرت مبادئ للاستهلاك، سنكتفي ببعض الأسماء رغم أن سجلا لا يسعنا لذكر كل الفرنسيين الذين كانوا في الخط الأمامي لمواجهة أبناء جلدتهم.

 

حسن البصري

 

مدير شركة «لوسيور» ينتهي جثة هامدة برصاص فرنسي

ولد جاك لوميكر دوبروي في سولينك الفرنسية يوم 30 أكتوبر 1894، لكنه عاش حياته في المغرب وتحديدا في الدار البيضاء، حيث اشتغل في قطاعات عديدة، وبعد أن تزوج من سيموني لوسيور، نجلة جورج لوسيور عام 1926، مؤسس شركة زيوت المائدة التي تحمل الاسم نفسه، أصبح رجل أعمال ناجح بقيادته لمجلس الإدارة وتطوير المصنع الذي حقق أرباحا كبرى.

على الرغم من مكانته الاجتماعية ونفوذه المالي، إلا أن جاك ظل مساندا للقضية الوطنية، مدعما لحركة المقاومة بأفكاره وماله، مما جعله «عدوا» للمحافظين الفرنسيين الذين اعتبروا وقوفه إلى جانب الطرح المغربي خروجا عن النص.

أثناء انعقاد المؤتمر الوطني لحل المشكلة الفرنسية المغربية، فاجأ جاك الحاضرين بكلمة ألقاها بنبرة غاضبة: «إنني رجل أعمال، وأنا لا أشاطركم إيديولوجيتكم. لكنني ألاحظ أن الحياة الاقتصادية في المغرب قد اختلت من جراء القلاقل».

نال تعاطف المغاربة حين قام ببناء قرية سكنية لعمال الشركة بجوار معملها في عين السبع تتكون من 300 مسكن إضافة إلى مدرسة من بضع حجرات، «وبدون شك فإن جاك لوميكر مدير هذه الشركة المعروف بارتباطه بالحركة الوطنية المغربية قام بدور كبير في هذا الإنجاز»، كما جاء في كتاب «جوانب من ذاكرة كريان سنطرال» للباحث نجيب تقي.

آمن الرجل بالقضية الوطنية، بعد أن تكون لديه وعي واضح بالوضعية المأساوية الذي كان بعيشها المغاربة، وأصبح يعلن عن مساندته في اتصالاته بالأوساط السياسية وفي الصحافة. ومن ذلك ما كتب في صحيفة «لوموند» ليوم 13 أكتوبر 1954، حين تناول المعاملة السيئة التي أصبح يلاقيها اليهود المغاربة فقط لأنهم أبدوا وفاء للسلطان المنفي.

آمن الرجل بدور الإعلام، فأنشأ صحيفة أغضبت المستعمر الفرنسي، دشن فيها افتتاحياته الجريئة، بمقال حول اغتيال التاجر البيضاوي الطاهر السبتي، أحد أصدقاء جاك لوميكر، في 2 يناير 1955 بطلقتين في الرأس، كان له أثر شديد في نفس لوميكر، فهذا الاعتداء بلغ مبلغا كبيرا من الجبن والجراءة في حق شخصية ذات مكانة رفيعة.

أثر اغتيال الطاهر في نفس جاك، وشرع في كتابة سلسلة من المقالات تكشف عن النوايا الإرهابية للمتطرفين الفرنسيين تجاه أصوات تنادي بالحق في العيش الكريم، خاصة بعد أن أصبح مالكا لجريدة «ماروك بريس» في نفس العام، والتي تحولت إلى منبر للفرنسيين الأحرار.

في مساء يوم السبت 11 يونيو 1955، قتل جاك لوميكر قرب مسكنه في عمارة الحرية، بالمكان الذي أصبح يحمل اسمه، تمت تصفيته برصاص فرنسي متطرف، وفي 14 يونيو دفن الرجل في الدار البيضاء بعد مراسيم التأبين بكنيسة «القلب المقدس».

قالت السلطات الفرنسية إن جاك مات منتحرا، وقال شاهد عيان إنه قتل، وظل التحقيق في القضية لسنوات قبل أن يتبين أن الجريمة من فعل فاعل فرنسي.

 

جان شارل لوغران.. محام منع من الترافع في فرنسا

ولد جان إيمانويل ماري، وهذا هو اسمه المدون في سجلات الحالة المدنية، بمدينة لانيو الفرنسية في 23 دجنبر 1900. تابع دراسته في العلوم السياسية، وحين تخرج اشتغل متعاونا في مكتب محام فرنسي يدعى ألكسندر ميليران، قبل أن يفتح مكتبا للمحاماة ويلفت الأنظار بتبنيه قضايا البسطاء في إطار ما بات يعرف بالمساعدة القضائية. لكن مرافعاته كانت تغضب النظام فتقرر التشطيب عليه من سجلات هيئة المحاماة في فرنسا.

حل جان بالمغرب رفقة زوجته المحامية جان روسبارس، واستقرا في الدار البيضاء حيث تقدم في عام 1948، إلى الإقامة العامة بطلب تسجيله في هيئة المحامين بالدار البيضاء، فتم الاستجابة لطلبه وأصبح يرافع في ملفات تهم المغاربة والفرنسيين والطائفة اليهودية، كما شرع في كتابة مقالات رأي في صحيفة «التحدي».

كان يقود المظاهرات ويحتج ضد الفساد، فأعفي من مهامه كمحام في هيئة باريس. وحين جاء إلى المغرب من أجل فتح مكتب في بلد يحتله الفرنسيون، واجه العديد من الصعوبات، لاسيما وأنه اقتنع بأفكار الحركة الوطنية ونسج علاقات مع النخب السياسية المغربية والفكرية.

في مدينة الدار البيضاء وتحديدا في الزقاق المفضي للقنصلية الفرنسية، وضعت لوحة تذكارية لهذا المحامي، هناك كان مكتبه الذي لطالما حاصرته مخابرات السلطة الفرنسية.

دافع عن الكثير من القضايا التي كان فيها المغاربة في قفص الاتهام، وعرف بمواقفه المساندة للمغرب. يقول صديقه محمد امجيد: «من مواقفه التي لازال التاريخ يذكرها له دفاعه عن مفجري قنبلة مرس السلطان ومارشي سانطرال بالدار البيضاء، وأيضا موقفه في قضية وجدة حين مات عشرات المغاربة في معتقل بكوميسارية وجدة اختناقا بعد أن وضع البوليس والعسكر الفرنسي عشرات المسجونين المغاربة في غرفة لا يزيد طولها عن مترين، حيث أدان الفرنسيين بشدة في زمن كان يصعب فيه توجيه اتهام إلى المستعمر».

عاد جان إلى فرنسا سنة 1965، وهو غاضب من المغاربة، لأنه بالرغم من النضال الذي ميز مسيرته كمحام مدافع عن قضايا الشعب المغربي، فإنه عانى من تنكر بعض الأشخاص له. ورغم انتقاله إلى بلده، فقد كان مصرا على إرسال حوالة مالية شهرية إلى خادمة مغربية تدعى هنية، كانت تشتغل في بيته طيلة مقامه في المغرب، وظل وفيا لهذه العادة لأنه كان يجعل سلوكه اليومي انعكاسا وترجمة لأفكاره الداعية إلى ضمان وصون الكرامة. توفي شارل عام 1982 في فرنسا.

رسالة تهديد تمهد لتصفية الطيار بيير كلوستيرمان

اعتزل بيير كلوستيرمان التحليق الجوي، وقرر في نهاية الأربعينات المغادرة الطوعية للمجال العسكري، حيث اختار المغرب وجهته. في شهر مارس عام 1950 استقر في الدار البيضاء بشكل نهائي رفقة أسرته الصغيرة، كان معجبا بالدار البيضاء التي زارها مرات عديدة حين كان طيارا. بنى مسكنا في منطقة أنفا الهادئة وأنشأ رفقة صهره رينودا ورشة للأشغال الكبرى في حي عين السبع.

كان الصهر يملك وحدة صناعية في مدينة ريمس، لهذا اعتبر ورشة الدار البيضاء فرعا لها، كما أنه وسع مجال اشتغاله ليشمل مستعمرات فرنسية في إفريقيا. شرعت الشركة في إبرام صفقات عديدة مكنتها من بناء العديد من المشاريع أبرزها القاعدة العسكرية الأمريكية ومد أعمدة الكهرباء ذات قوة الضغط العالية وغيرها من الأشغال. في هذه الفترة ربط بيير علاقة صداقة مع ولي العهد مولاي الحسن، بعد أن أظهر تعاطفا مع القضية الوطنية جعلته مقربا من الأمير، خاصة وأن مواقفه التي جهر بها وضعته تحت مجهر متطرفين فرنسيين جندتهم الإقامة العامة للتصدي لكل فرنسي أبدى تعاطفا مع الشعب المغربي.

لم يعر بيير اهتماما كبيرا لرسالة تهديد توصل بها في ماي 1954، حملت عبارات الوعيد: «فلتتجنسوا بالجنسية المغربية واكفونا شركم». والتي كان مصدرها تنظيم خلقه الجنرال غيوم لوقف حملات التضامن مع المغاربة. وتدعى «اليقظة للعمل على حماية المغرب والدفاع عنه»، حتى أن الأمر وصل إلى حد تهديد مجموعة من الفرنسيين الأحرار بالتصفية الجسدية.

سرعان ما تم تنزيل التهديد الكتابي على أرض الواقع، وأسفر عن أول استعراض له، وقد استهدفت به شقة أنطوان مازيلا، الصحافي في جريدة «ماروك بريس». تم استهداف أسماء أخرى، ففي يوم 28 أكتوبر ألقيت قنبلتان على شخصين يكنان للمغرب عطفا خاصا، ويتعلق الأمر بـ: جاك رايتزر، وأخرى على مسكن بيير كلوستيرمان. ولم تسفر القنبلتان على ضحايا في الأرواح، لكنهما خلفتا خسائر مادية.

في كتاب بعنوان: «حدثني والدي» لعز العرب محمد حسن الوزاني، نقرأ: «عمل رجل أمن فرنسي يدعى ألبير فورستيي أنجز تقريرا مفصلا حول محاولة التصفية الجسدية التي تعرض لها بيير في مقر سكناه بأنفا، ووضعه على مكتب مدير الأمن شوفويي، مشيرا إلى أنه تمكن من التوغل إلى إحدى خلايا الإرهاب الأوربي، وهو التقرير الذي نشرته صحيفة «تايمز» الأمريكية، لكن فورستيي لقي حتفه في حادثة سير بين الدار البيضاء والرباط بعد مرور عشرة أيام على تقديم تقريره الذي يدين فرنسيين متطرفين».

من أجل وضع أسرته بعيدا عن محاولات التصفية، قام كلوستيرمان ببيع ورشته لشركة بيرليي، وقرر الاستقرار نهائيا في ضيعة لأصهاره بسان تييري ضواحي ريمس، وحين نال المغرب استقلاله، عاد بيير إلى المغرب حيث عين في مناصب قيادية بكل من شركة الخطوط الجوية المغربية، وبعدها في شركة «رونو» المغرب.

لوكرين.. دافع عن وجديين ماتوا اختناقا بمخفر فحوصر بفندق

في السادس عشر من غشت 1953، خرجت وجدة عن بكرة أبيها للمشاركة في انتفاضة قادتها صفوة من الوطنيين من أبناء الجهة الشرقية، بعد اشتداد الأزمة بين القصر الملكي وسلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية. كان يوم التظاهر عطلة، ما أشعل فتيل التمرد الذي دشنه شباب وجدة بتخريب قضبان السكة الحديدية، وإحراق العربات والقاطرات، وإشعال النار في مخزون الوقود، وتحطيم أجهزة محطة توليد الكهرباء، ومداهمة الجنود في مراكزهم، ولا سيما بمركز القيادة العسكرية بسيدي زيان للاستيلاء على ما كان مخزونا به من عتاد حربي.

واجهت القوات الاستعمارية الوضع بوابل من الرصاص، وفي ليلة 18 غشت 1953، توفي مختنقا في إحدى زنازين الشرطة الاستعمارية، 14 وطنيا بسبب الاكتظاظ الذي نجم عن اعتقال المئات من الوطنيين.

يتحدث الباحث محمد أحمد عدة عن دور محام فرنسي في ملف اختناق 14 وجديا في مخفر الشرطة الضيق، إذ لفت المحامي الفرنسي شارل لوكران الأنظار، حين تبنى الدفاع عن الشهداء ورفع صوته في المحكمة مطالبا بالكشف عن حقيقة الأربعة عشر رجلا الذين وضعوا في غرفة من خمسة أمتار مربعة، وماتوا مختنقين، «ساد هرج كبير في المحكمة، وقال معمرون يجب أن يعدم لوكران، وانتشر الخبر بسرعة بفضل المراسلين، الذين كانوا يقومون بتغطية المحاكمة، وكتبت «لوموند» تعليقا على تلك المحاكمة أغضب فرنسا».

من جهته، يسلط الباحث عبد الرحيم حزل الضوء على هذه الواقعة من خلال ترجمة كتاب: «الفرنسيون الأحرار في المغرب المأزوم» لآن ماري روزيلي، فيقول: «هناك حفنة من فرنسيِي المغرب، ساندوا الوطن في الأزمة التي عاشها المغرب في السنوات الأخيرة من عهد الحماية، فقد تعرض الأستاذ جون شارل لوكران، محامي المتهمين الوطنيين، للاعتداء في منزله من طرف عصابة من الأراعن المسلحين. ونودي على الشرطة فتأخرت في المجيء، فتناول الأستاذ لوكران مسدسه ليدافع به عن نفسه، وأطلق النار. فقتل أحد المعتدين. فلما وصلت الشرطة بعد لأي، ألقت القبض على المحامي شارل لوكران».

تلقى لوكران تهديدا بالتصفية الجسدية، لأنه فجر قضية السجناء المخنوقين، «طارده عدد من المعمرين وحاصروا فندق تيرمنيس الذي كان يقيم فيه، وطالبوا برأسه واتهموه بخيانة فرنسا، بل إن مطارديه تظاهروا أمام الفندق وأنشدوا النشيد الوطني الفرنسي ورددوا أخرجوا الخائن».

دولانوي.. أغلق عيادته بالجديدة وأنشأ حركة «الوعي الفرنسي»

ولد غي دولانوي في مدينة الجديدة وترعرع فيها قبل أن يوارى الثرى في أحشائها، ولمازغان مكانة راسخة في وجدان هذا الرجل المنحدر من عائلة تنعم بحس إنساني أغلبها اشتغل في العمل التطوعي. كما جاء في كتابه: «ليوطي، جوان، محمد الخامس نهاية حماية»، حيث كشف عن دوره في التصدي للجشع الاستعماري، مبرزا دور بعض المغاربة في تكريس وتمديد عمر المستعمر في المغرب، خاصة الصدر الأعظم المقري الذي كان حسب غي «على استعداد تام للتعاون مع الفرنسيين إلى أبعد الحدود، وهو ما شجعهم على منحه ثقة كبيرة وصلاحيات أوسع».

ويضيف دولانوي بأنه مع دنو نهاية العمر السياسي للمقري، تم منحه مزيدا من الاختصاصات، كأن يشكل مجلسا مصغرا يضم وزيرين والكاتب العام للإقامة العامة الفرنسية والمدير المكلف بالشؤون الإدارية والمالية في الداخلية، ليتخذ القرارات والتدابير التي من شأنها ضبط الأوضاع وحماية مصالح الإقامة العامة.

اشتغل دولانوي في الجديدة وفي الدار البيضاء وظل حاضرا في صف الحركة المغربية بالرغم من المحن التي عاشها بسبب مواقفه. وفي سنة 1953، نشأت حركة مضادة تسمى «الحضور الفرنسي» المفتوحة في وجه كل الأوروبيين، وكان لها توجه موالي للإقامة العامة، ويترأسها الدكتور فرناند كوس. وفي مواجهة هذه الحركة التي تستقطب الأغلبية، لم يتردد بضع مئات من الأحرار في تأسيس حركة «الوعي الفرنسي»، برئاسة الدكتور غوي دولانوي بمساعدة الكاتب والمحامي بول بوتان.

انتقل الطبيب من العيادة إلى الكتابة الصحفية حيث أصدرت هذه الحركة يومية «ماروك بريس». وهي في ملكية جاك والتر، ومديرها ضابط سابق في الشؤون المدنية والكومندان هنري سرتوت، أما رئاسة تحريرها فقد أُسندت إلى أنتوان مازيل، مع هيئة تحرير تضم فريقا صغيرا من الصحافيين من بينهم كريستيان داربور. صنعت هذه الجريدة الحدث بنشر الرسالة الشهيرة المؤرخة في 11 ماي1954، التي عرفت باسم «رسالة الخمسة والسبعين». وقد قدمت إلى الرئيس كوتي يوم 18 ماي. احتج طبعا أعضاء «الحضور الفرنسي» بقوة ضد هذه الرسالة، والأدهى أن الموقعين عليها وعائلاتهم تعرضوا إلى مجموعة من المضايقات، فبعد ثلاثة أيام من تسليم الرسالة طرد الدكتور دولانوي من عمله بتهمة واهية، وحرم روبير أوران الذي كان يزود الإدارة بالمعدات من الطلبات التي كان متعاقدا عليها، وتمت مقاطعة مكتب بوتان للمحاماة. بعد شهرين بعث مائة وعشرون شخصية مغربية للمقيم العام لاكوست رسالة في نفس الاتجاه.

تابعت ابنته نيلساي النضال في نفس النسق، وهي أستاذة التاريخ في جامعة «نانتير» الفرنسية والمزدادة في الجديدة من صلب أب مشاكس اسمه «غي دولانوي» والذي لم يكن سوى رئيس حركة «الوعي الفرنسي» أحد الموقعين على ملتمس المطالبة بعودة المغفور له محمد الخامس من المنفى بمدغشقر.

لعبت نيلساي دولانوي دورا كبيرا في ملف المغاربة العائدين من فيتنام وجمعت شهادات عن تلك الفترة، وساعدت قدماء الجنود المغاربة، على الاندماج داخل المجتمع الفيتنامي، وظلت المخاطب الأول لسفارة المغرب في هذا البلد.

الفيلسوف الفرنسي ألان باديو يخاطب العقل الفرنسي

ولد ألان باديو في الرباط عام 1937. كان والده ريموند مدرسا لمادة الرياضيات في ثانوية مولاي يوسف بالرباط، أما والدته الفرنسية فقد كانت شاعرة، أنتجت خلطة بيولوجية من زواج عالم الرياضيات بشاعرة، ميلاد فيلسوف اسمه ألان يشغل البلاد والعباد.

لم يكن والده ريموند مجرد مدرس لمادة الرياضيات، لم يقتصر دوره على تفكيك المعادلات الرياضية، بل كان يحمل فكرا ثوريا، حيث عرف بمواقفه المضادة للنزعات الاستعمارية، فتحول إلى عنصر مقلق لنظام فيشي، خاصة حين نادى باستقلال المغرب ووقف اضطهاد الشعوب.

حاولت حكومة فيشي قدر الإمكان الضغط على الإقامة العامة الفرنسية لتدجين مدرس الرياضيات ومنعه من مزاولة مهمته، وتحويله إلى مجرد إداري لكنه رفض. ومن الصدف الغريبة أن يكون من بين تلاميذ رايموند شاب يموت عشقا في الرياضيات مهووس بالفكر النضالي الذي يسكن مدرسه. إنه المهدي بن بركة الذي كان من نجباء الفصل الذي يشرف على تدريسه باديو الأب، وحسب شهادة ألان فإن والده كان يشيد بنباهة المهدي ويتنبأ له بمستقل زاهر في علوم الرياضيات.

يروي ألان باديو عن طفولته في مدينة الرباط، عن نساء مغربيات يخفين ملامحهن كن يترددن باستمرار على بيت أسرته ويقضين ساعات في الحديث مع والدته التي كان يستهويها الحديث معهن حول كؤوس شاي من إعداد الجارات المغربيات.

شعرت السلطات الفرنسية بدور ألان الأب في تهييج التلاميذ ضد حكومة فيشي حين أصبحت فرنسا تحت حكم نظام المارشال فيليب بيتان، إثر الهزيمة التي لحقت بها من قبل ألمانيا النازية وحتى تحرير الحلفاء لها في الحرب العالمية الثانية، يوليوز 1940. وكتبت حول مدرس الرياضيات العديد من التقارير السوداء التي عجلت بإصدار قرار الترحيل خارج المغرب. يتذكر الفيلسوف وهو طفل كيف التف الجيران حول أسرته وهي تهم بمغادرة المغرب، ومدى التعاطف الذي جسده حضور العديد من التلاميذ إلى حيهم لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة على أستاذ الرياضيات الذي ربى تلاميذه على النضال ضد المستعمر الفرنسي، وكان من بين المودعين فتى يافع اسمه المهدي بن بركة.

حزمت الأسرة الصغيرة حقائبها وغادرت صوب فرنسا، استقلت القطار نحو طنجة ومنها إلى مارسيليا قبل الانتقال إلى تولوز. يتحدث ألان عن طرد والده من المغرب من قبل حكومة فيشي، وانخراطه في المقاومة بتولوز حيث أصبح عميدا للتحرير سنة 1956، وعمدة للمدينة لأزيد من 14 سنة..

أما ألان فأصبح من أشهر الفلاسفة الفرنسيين، وقد كتب أيضا روايات ومسرحيات عديدة، وهو إضافة إلى ذلك مناضل سياسي، يصنف ضمن أقصى اليسار، وقد درس الفلسفة بالجامعات الفرنسية، لكنه ظل يعترف بفضل والده عليه كما جاء في كتابه «مدح الرياضيات».

فيرجيس.. أطلق عليه الفرنسيون لقب «محامي الشيطان»

ولد جاك فيرجيس في التايلاند من أب ينحدر من جزيرة لاريونيون وأم فيتنامية، نشأ في جزيرة لاريونيون، وجاور وهو تلميذ ريمون بار الذي أصبح لاحقا رئيس وزراء، حيث كان والده نائبا شيوعيا وشقيقه التوأم بول مؤسسا للحزب الشيوعي في هذه المستعمرة الفرنسية، لكن جاك سيعلن انسحابه من الحزب لأن مواقفه لم تكن حازمة مع نضال دول المغرب العربي.

عين مستشارا للرئيس الجزائري أحمد بن بلة بعد استقلال الجزائر التي منحته جنسيتها، لكنه عاد إلى فرنسا وأنشأ مجلة «ريفولوسيون» ومجلة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وظل يتردد على المغرب بعد أن نسج شبكة علاقات مع سياسيين مغاربة، بل إنه ترافع تطوعا لفائدة معتقلين مغاربة ضد نظام بلاده بنفس الحماس الذي ميز دفاعه عن معتقلي الثورة الجزائرية، إلى أن أطلق عليه إعلام الجمهورية الفرنسية لقب «محامي الشيطان».

حين قرر الملك الحسن الثاني تبني قضية البستاني المغربي عمر الرداد، نصحه الفرنسيون بتسليم الملف للمحامي جاك فيرجيس، الذي سبق له أن ترافع عن ثوار الجزائر المعتقلين لدى السلطات الفرنسية خلال حرب التحرير، وهو ما كان حيث بدا الرجل واثقا ببراءة موكله، خاصة أن الرجل الذي ما أن يترافع في قضية، حتى تتحول إلى مادة إعلامية مشوقة ومثيرة، فهو المحامي الذي لا يتراجع.. محامي القضايا الصعبة والمستحيلة. لذلك عقد مؤتمرا صحافيا، بعد نحو الشهر على صدور الحكم، قدم فيه شاهدة غيرت مجرى القضية.

كان هذا المحامي مقربا من شخصيات سياسية عالمية، ونصب نفسه نصيرا للمقاتلين حتى ولو تعلق الأمر بمجرم الحرب النازي كلاوس باربي والدكتاتور اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسفيتش وقائد الخمير الحمر السابق كيو سامفان، كما أعلن نفسه محاميا لصدام حسين، ورفع قضية ضد الناتو حين قرر القيام بغارات ضد معمر القذافي.

ولأنه كان مناهضا للاستعمار بالقلب قبل النصوص القانونية، فقد تزوج المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد في جبهة التحرير الوطني التي حكم عليها القضاء بالإعدام، قبل أن تحصل على العفو وقد فرض نفسه مدافعا عن الشخصيات المدانة من التاريخ بمبرر أن «واضعي القنابل هم من يطرحون الأسئلة». لكن الغريب هو أن المحامي تزوج بموكلته جميلة بمجرد مغادرتها السجن، بعد أن أشهر إسلامه وأوصى بدفنه في مقبرة مسيحية أو إسلامية لا فرق.

توفي جاك فيرجيس في منتصف شهر غشت 2013، نتيجة سكتة قلبية عن عمر يناهز 88 سنة، وهو جالس في أحد المطاعم الباريسية، دفن في مقبرة «مونبرناس» ولم تحضر جميلة مراسيم دفنه، وبعد رحيله تم بيع مجموعة من كتبه في المزاد العلني بسبب ديون متراكمة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى