
دخل المغرب منذ أكثر من 20 سنة في تجربة التدبير المفوض للعديد من الخدمات العموميـة المقدمة إلى المواطنين، من قبيل النقل الحضري وتوزيع الماء والكهرباء، وكذلك تدبير النفايات المنزلية. وطوال هذه السنوات ظلت شركات أجنبية تستحوذ على معظم عقود التدبير المفوض لهذه القطاعات الحيوية بالمدن الكبرى، لكنها راكمت الفشل، من خلال تقديم خدمات عمومية متردية، رغم تخصيص ملايير الدراهم من خزينة المال العام، وأمام هذا الفشل بدأت الدولة تتراجع عن التدبير المفوض، كما هو الحال بالنسبة إلى توزيع الماء والكهرباء، من خلال تأسيس شركات جهوية ستتولى الإشراف على تدبير القطاع عوض الشركات المفوض إليها، وكذلك بالنسبة إلى قطاع النقل الحضري فقد وضعت وزارة الداخلية برنامجا جديدا لتدبير النقل الحضري بواسطة الحافلات للفترة 2029-2025، بكلفة مالية إجمالية للاستثمارات المخصصة لهذا البرنامج تبلغ 11 مليار درهم، سعيا منها إلى ضمان خدمة مستدامة وعالية الجودة للمرتفقين، كما قامت وزارة الداخلية بإعداد البرنامج الوطني لتثمين النفايات المنزلية للفترة الممتدة بين 2023 و2034، بغلاف مالي بقيمة 21.14 مليار درهم، وذلك بعد فشل المشاريع المبرمجة في إطار البرنامج السابق، الذي رصدت له الحكومة غلافا ماليا بمبلغ 40 مليار درهم، بالإضافة إلى تسجيل عدة اختلالات في تدبير المشاريع المخصصة لإحداث مطارح للنفايات تحترم المعايير البيئية.
إعداد: محمد اليوبي – النعمان اليعلاوي
مشاريع متعثرة لتدبير النفايات المنزلية كلفت 4000 مليار سنتيم
يعرف تدبير النفايات المنزلية العديد من الاختلالات البنيوية تستدعي فتح تحقيق حول مآل صرف ملايير الدراهم دون تحقيق النتائج المرجوة، فضلا عن فشل مخططات سابقة في الوصول إلى أهدافها، ومنها المشاريع المبرمجة في إطار البرنامج الوطني السابق لتدبير النفايات المنزلية والمماثلة لها، الذي رصدت له الحكومة غلافا ماليا بمبلغ 40 مليار درهم، بالإضافة إلى تسجيل عدة اختلالات في تدبير المشاريع المخصصة لإحداث مطارح للنفايات تحترم المعايير البيئية.
وقامت وزارة الداخلية بإعداد برنامج وطني جديد لتثمين النفايات المنزلية للفترة الممتدة بين 2023 و2034، بغلاف مالي بقيمة 21.14 مليار درهم، وتتمثل محاور البرنامج في إنجاز ما يقارب 50 مركزا إقليميا لطمر وتثمين النفايات، وإنجاز المشاريع الخاصة بإعادة تهيئة المطارح القديمة وإغلاقها (حوالي 233 مطرحا).
وأوضح عبد الوافي لفتيت، وزير الداخلية، أن النفايات المنزلية المخلفة بالمغرب تتميز بنسبة رطوبة مرتفعة، سيما بالمجال الحضري، حيث تناهز 70 في المائة، وبنسبة مرتفعة كذلك من المواد العضوية، حيث تصل إلى 60 في المائة، في حين لا تتجاوز المواد القابلة للتدوير من ورق وورق مقوى وبلاستيك وزجاج ومعادن أخرى نسبة 40 في المائة. وأكد الوزير هذه الخصائص والتركيبة تشكل عوامل غير مساعدة على إرساء نظام ناجع لمعالجة النفايات المنزلية والمماثلة لها المودعة بالمطارح، مشيرا إلى أن نسبة الفرز والتثمين المتوفرة على الصعيد الوطني ظلت محدودة لا تتجاوز نسبة 7 في المائة.
وكشف التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات فشل القطاع الوزاري المكلف بالتنمية المستدامة في تنزيل البرنامج الوطني لتدبير النفايات المنزلية والمماثلة لها، والذي بلغت كلفته 40 مليار درهم، من خلال تعثر العديد من المشاريع المبرمجة، وغياب المراقبة والتتبع.
وخلص تقرير المجلس إلى أن مستوى إنجاز الأهداف المسطرة في البرنامج الوطني الذي خصص له غلاف مالي قدره 40 مليار درهم ظل متواضعا، سيما في ما يتعلق بتأهيل المطارح غير المراقبة وإنجاز المطارح المراقبة وفرز النفايات وتدويرها وتثمينها، مسجلا في المقابل، تحقيق تقدم كبير على مستوى نسبة الجمع، ووقف المجلس على عدم إنجاز المحاضر والتقارير الضرورية لتتبع مختلف المشاريع من لدن قطاع التنمية المستدامة بصفتها جهة مانحة للدعم ووصية على القطاع، وفي نفس السياق، خلص افتحاص بعض الملفات الخاصة بتنفيذ البرنامج المذكور إلى وجود مشاريع متعثرة من بين تلك التي استفادت من الدعم المالي الجزئي أو الكلي، وبلغ عددها 24 مشروعا بقيمة 351 مليون درهم، وأرجع المجلس أسباب ذلك إلى غياب التقارير المرحلية لتقدم الأشغال والبرمجة المالية والزمنية للمشروع ومعايير الانتقاء والنتائج البيئية والاجتماعية المتوخاة.
وكانت المديرية العامة للجماعات المحلية بوزارة الداخلية، قد فتحت تحقيقا حول الاختلالات التي تعرفها مطارح النفايات بالعديد من المدن، وكذلك تعثر بعض المشاريع المدرجة في إطار البرنامج الوطني للنفايات المنزلية، الذي تقدر تكلفته الإجمالية ب 40 مليار درهم، تخصص منها 67 في المائة لخدمات الجمع والتنظيف و 17 في المائة لخلق مطارح مراقبة، وتساهم الجماعات الترابية ب 73 في المائة من مجموع تمويل البرنامج.
وجاء البرنامج الوطني لتدبير النفايات المنزلية في إطار اللجنة المشتركة بين وزارة الداخلية والوزارة المكلفة بالبيئة، من أجل سد الخصاص الحاصل في تدبير قطاع النفايات المنزلية، ويستهدف كل المدن المغربية بدون استثناء على مدى 15 سنة بهدف تحسين مستوى عيش المواطنين، ويروم على المدى الطويل إلى تعميم جمع ومعالجة النفايات المنزلية، تقليص المشاكل التي تسببها المطارح القديمة والعمل على دفن النفايات بطريقة مراقبة ومقننة وتشجيع تدوير النفايات، ومن بين الأهداف الأساسية للبرنامج، الرفع من نسبة جمع النفايات الى مستوى 85 في المائة سنة 2016 و 90 في المائة سنة 2022 والوصول الى 100 في المائة بحلول 2030، وانجاز مطارح مراقبة للنفايات المنزلية والمماثلة في كل المراكز الحضرية سنة 2022، إعادة تأهيل كل المطارح غير المراقبة بحلول سنة 2022، وتطوير عملية فرز وتدوير وتثمين النفايات عبر مشاريع نموذجية لرفع مستوى التدوير الى 20 في المائة بحلول سنة 2022.
وكشفت المصادر أن جميع الاتفاقيات التي تم توقيعها سنة 2015، بين وزارة الداخلية ووزارة الاقتصاد والمالية ووزارة البيئة والجماعات الترابية، عرفت تعثرا في التفعيل، وتهم نوعين من المشاريع، و هي المشاريع المبرمجة للإنجاز المباشر من طرف وزارة البيئة بكلفة إجمالية تقدر ب 200 مليون درهم وتهم تأهيل المطارح العشوائية ب 19 مدينة، والمشاريع التي تمت برمجة إنجازها من طرف الجماعات الترابية بكلفة إجمالية بلغت 502,53 مليون درهم، منها 77,53 مليون درهم خصصت لدعم تأهيل المطارح العشوائية وإنجاز مراكز الطمر والتثمين ب 12 مدينة، و 173 مليون درهم خصصت لدعم إنجاز مراكز الفرز وتهم 17 مدينة، و52 مليون درهم خصصت للمساعدة التقنية، والتواصل والتحسيس.
وكشفت المصادر، أنه من بين أسباب تعثر هذا البرنامج الذي يهم هذا القطاع الاستراتيجي، هو استحواذ شركة على أغلب الصفقات، نظرا لشبكة العلاقات التي تربطها مع مسؤولين، وأوضحت المصادر، أن طريقة اشتغال هذه الشركة، هي أنها تقوم بالمشاركة في طلبات العروض وتتقدم بأثمنة جد منخفضة وغير واقعية، وما إن تحصل على الصفقة وتنطلق في إنجاز الأشغال حتى “تشرع في ممارسة ضغوطات على الإدارة المعنية لتغيير مضمون الصفقة بحذف أثمنة غير مربحة لها أو الرفع من أثمنة أخرى وهو ما يتنافى ومبدأ المنافسة وكذا القوانين المنظمة للصفقات العمومية ولطلبات العروض”، حسب ذات المصادر، وفي حالة “رفض الإدارة الانصياع لطلبات هذه الشركة تنتقل هذه الأخيرة إلى مرحلة الضغط بالتهديد بوقف الأشغال”.
وأفادت المصادر، بأنه بهذه الطريقة، تمكنت الشركة “من إلغاء غرامات تقدر بالملايير كانت بذمتها كما أنها استطاعت من فرض صياغة العديد من طلبات العروض على مقاسها بتضمينها شروط تبعد المنافسين وتمكنها من الاستحواذ على أغلب الصفقات، ما كان له تأثير سلبي على تدبير العديد من المطارح العمومية التي تعيش حاليا مشاكل خطيرة بعدما أصبحت رهينة بين أيدي هذه الشركة وذلك في غياب أي رد واضح وحاسم من طرف القطاعات المعنية”.
8 سنوات بعد تقرير المجلس الأعلى للحسابات.. هل فشل التدبير المفوض؟
بعد مرور ثماني سنوات على التقرير المفصل والصادم، الذي أصدره المجلس الأعلى للحسابات سنة 2017، بخصوص واقع التدبير المفوض للمرافق العمومية المحلية، تتأكد اليوم، سنة 2025، ملامح إخفاق هذا النموذج الذي اعتمدته الدولة والجماعات الترابية منذ تسعينيات القرن الماضي. فقد أظهر التقرير المذكور حجم الاختلالات التي تنخر تدبير عدد من القطاعات الحيوية، وعلى رأسها توزيع الماء والكهرباء والتطهير السائل والنقل الحضري والنظافة، والتي وُكل تدبيرها إلى شركات خاصة، غالبها أجنبي، في إطار عقود التدبير المفوض.
تقرير المجلس الأعلى للحسابات، الذي استند إلى لقاءات مع مسؤولين وزاريين ومنتخبين ومدراء شركات التدبير وممثلي المكتب الوطني للكهرباء والماء، كشف حينها أن التدبير المفوض لم يحقق الأهداف التي راهنت عليها الدولة، بل ساهم في تكريس اختلالات جديدة على مستوى الحكامة وجودة الخدمات واستدامة المرافق.
في قطاعي الماء والكهرباء، أبان التقرير عن تباين صارخ في التغطية والخدمات، حيث احتكرت أربع شركات رئيسية، هي ليديك وريضال وأمانديس طنجة وأمانديس تطوان، تدبير هذه الخدمات لفائدة 46 جماعة ترابية، بمعدل استثمارات يفوق 32 مليار درهم، لكنها لم تنجز إلا جزئيا ما التزمت به من برامج استثمارية. كما سُجل استعمال غير قانوني لصناديق الأشغال المخصصة للبنيات التحتية، وعدم مراجعة العقود كما ينص القانون، مما أدى إلى خلل في التوازن المالي لتلك العقود.
وبالنسبة للنقل الحضري، فقد أوضح التقرير أن الشركات المفوض إليها لم تلتزم بتجديد الأسطول ولا بتطوير مرافق الخدمات مثل المرائب ومحطات الصيانة، واستعملت حافلات ملوثة ومتقادمة، ما ساهم في تدهور الخدمة وزيادة زمن الانتظار، بينما ظل العجز المالي البنيوي يطارد المجالس الحضرية، خصوصا في الرباط والدار البيضاء، حيث بلغ 2,1 مليار درهم مع نهاية سنة 2013.
أما في قطاع النظافة، فقد سجل التقرير غياب فرز النفايات وضعف إعادة التدوير، رغم بلوغ عدد السكان المستفيدين من هذه الخدمات 13,5 مليون نسمة، وتشغيل حوالي 15 ألف عامل. واعتبر المجلس أن التدبير المفوض لهذا القطاع مكّن من توسيع التغطية، لكنه فشل في إرساء ممارسات مستدامة بيئيا واقتصاديا، ودعا إلى إغلاق المطارح غير المراقبة وتنظيم أنشطة إعادة التدوير ودمج العاملين في القطاع غير المهيكل.
ورغم كل هذه التحذيرات، لم تشهد السنوات الموالية لتحرير التقرير تحركات إصلاحية جذرية. إذ استمرت معظم الجماعات الترابية في تجديد العقود أو التمديد لها دون تقييم حقيقي، في ظل ضعف الخبرة التقنية والإدارية. وظلت لجان التتبع شكلية في أغلب الحالات، ما فسح المجال لاستمرار الأعطاب السابقة.
غير أن التحول النوعي لم يبدأ سوى ابتداء من سنة 2023، حين قررت الحكومة المغربية، بتنسيق مع وزارة الداخلية، إطلاق مشروع الشركات الجهوية متعددة الخدمات، كمقاربة جديدة تقوم على توحيد تدبير الماء والكهرباء والتطهير على مستوى جهوي، وتوزيع المهام بين الدولة والجماعات الترابية والقطاع الخاص. ويأتي هذا التوجه بعد إقرار فشل نموذج التدبير المفوض في ضمان جودة الخدمات وعدالتها المجالية ونجاعتها الاقتصادية.
بموجب القانون الجديد، ستُحدث اثنتا عشرة شركة جهوية تخضع لمبدأ التدبير القريب من المواطن، وتتوفر على تمثيليات محلية بكل عمالة أو إقليم. وستُنقل إليها صلاحيات المكتب الوطني للكهرباء والماء في ما يخص التوزيع المحلي، كما سيتم تحويل مستخدمي المكتب وشركات التدبير المفوض إلى هذه الشركات، مع ضمان كامل لحقوقهم ومكتسباتهم.
وينتظر أن تخرج شركات مثل ليديك وريضال وأمانديس من المشهد نهائيا بعد انتهاء آجال عقودها، دون تجديد، وهو ما يمثل عمليا نهاية تجربة التدبير المفوض التي انطلقت من الدار البيضاء في التسعينات، إثر فيضانات شلت المدينة، وأفضت إلى منح صفقة التدبير لشركة فرنسية دون مناقصة أو استشارة المنتخبين.
اليوم، في سنة 2025، لا أحد يجادل في أن نموذج التدبير المفوض، كما طُبق في المغرب، لم ينجح في تحقيق تطلعات الدولة والمواطنين، رغم ما رافقه من دعاية حول الشراكة بين القطاعين العام والخاص. فالخلاصات التي صدرت سنة 2017 عن المجلس الأعلى للحسابات، والتي تجاهلتها عدة جهات حينها، تتحول الآن إلى أرضية مرجعية لإعادة هيكلة منظومة تدبير الخدمات الأساسية.
ومع إحداث الشركات الجهوية، ينتظر المواطن المغربي أن تشهد خدمات الماء والكهرباء والنظافة والنقل تحسنا ملموسا، شريطة أن يتم التفعيل الجيد للقانون، ومواكبة الجماعات الترابية بأطر كفؤة وإمكانات لوجستيكية وتقنية، وأن تُفعل آليات الرقابة والشفافية والمحاسبة، حتى لا يتكرر سيناريو العقود السابقة.
في المحصلة، يمكن القول إن تقرير 2017 كان إنذارا مبكرا لواقع التدبير المفوض، وبينما تأخر الإصلاح لسنوات، فإن الإرادة السياسية التي ظهرت بعد 2021 تبشر بمرحلة جديدة، أكثر عقلانية ونجاعة، لكنها تظل رهينة بمدى قدرة الفاعلين المحليين والمؤسسات على تجاوز منطق العجز والتواكل، والانخراط في نموذج جديد يخدم المواطن ويُعلي من شأن المرفق العام.
صفقات بالملايير لتدبير النقل الحضري تسيل لعاب الشركات الأجنبية
من بين القطاعات التي تسيل لعاب الشركات الأجنبية قطاع النقل الحضري، خاصة بالمدن الكبرى، حيث تم تفويت صفقات لفائدة شركات أجنبية بمدن الرباط وسلا وتمارة، وكذلك بالدار البيضاء والمدن المجاورة لها، في انتظار تفويت صفقة تدبير القطاع بمدينة مراكش.
والمثير في الأمر أن رؤساء المجالس الجماعية يفرضون شروطا تعجيزية يتم بموجبها إقصاء جميع الشركات الوطنية المتخصصة في النقل الحضري، ولو اجتمعت هذه الشركات كلها لتأسيس “تجمع شركات” فإنها تجد نفسها خارج المنافسة، التي تكون مفتوحة فقط في وجه الشركات الأجنبية، حيث يتضمن دفتر التحملات الخاص بهذه الصفقات شروطا ومعايير تعجيزية في وجه الشركات الوطنية، من بين هذه الشروط أن تكون للشركة تجربة تدبير قطاع النقل الحضري لمدة خمس أو سبع سنوات بمدن لا يقل عدد سكانها عن 800 ألف نسمة، رغم أن هذه الشركات على قلتها استطاعت أن تراكم تجربة وخبرة من خلال تدبيرها لقطاع النقل الحضري بالعديد من المدن، كما يتضمن دفتر التحملات العديد من الحواجز في وجه هذه الشركات لكي لا تؤسس تجمعا بينها ” groupement” للمشاركة في الصفقة.
وهناك رغبة أكيدة لدى رؤساء مجالس المدن الكبرى التي تشرف على الصفقات، لجعلها رهن إشارة الشركات الأجنبية، وبالضبط الشركات الفرنسية والإسبانية، رغم وجود أربع شركات وطنية رأسمالها مغربي 100 في المائة، وهي شركات معترف بها على الصعيد الوطني في تدبير قطاع النقل الحضري بالعديد من المدن، إذن يتم تفصيل طلبات عروض على مقاس الفاعلين الأجانب، تهدف إلى إقصاء الفاعلين الوطنيين من خلال نوع من طلبات العروض يتم وضعها لأول مرة، في الوقت الذي كانت فيه جميع طلبات العروض العقود التدبير المفوض الخاصة بالنقل الحضري بواسطة الحافلات مفتوحة بشكل دائم على أساس معايير مبنية على التقييم التقني والمالي والتي تسمح لجميع الفاعلين بالمشاركة في جو تطبعه المنافسة وتكافؤ الفرص بين جميع المتنافسين.
وكان مجلس المنافسة قد فضح عدم احترام قواعد المنافسة على مستوى التدبير المفوض للنقل العمومي الحضري والرابط بين المدن بواسطة الحافلات، مبرزا أنه في إطار التحليل التنافسي، ومـن أجـل تقييـم حـدة المنافسـة فـي سـوق التدبيـر الـمـفـوض للنقل العمومي الحضـري أنجـزت مصالح التحقيق تحليـلا بشـأن تطـور حصـص سـوق الفاعليـن النشطين في القطاع من حيث حجمها وقيمتها، حسب تقرير المجلس الذي خلص إلى أن السوق المذكورة تتسم بنسبة عالية من التركيز، حيث تستحوذ شركتان على حصة تراكمية تراوحت ما بين 80 و90 في المائة في الفترة الممتدة مـن 2018 إلى 2020، مع هيمنة واضحة لشركة “ALSA” الإسبانية التي انتقلت حصتهـا مـن 50 إلى 70 في المائة.
وكشف المجلس أن عقود التذبير المفوض لقطاع النقل الحضري تفرض حواجـز دخـول عاليـة جـدا، وتفـرض شـروطا تقنيـة وماليـة لـولـوج السـوق لا تحفـز إلا شـركات كبيرة الحجم، وتحول دون دخـول فاعليـن جـدد، كمـا لا تشجع كليـا علـى الابتكار والإبـداع كمعايير للانتقـاء، منبها إلى العـدد الضئيـل مـن طلبـات الـعـروض متعلقة بعقـود طويلة الأمد، والتي تبـرم لـمـدة تتراوح مـا بيـن 10 و15 سنة، ويجـري تمديدها بشكل عام بواسطة ملحـق عقد، يستفيد منه الفاعل صاحب عقد الاستغلال، بالإضافة إلى النسبة الضعيفـة بشـأن مشاركة الفاعليـن فـي طلبـات الـعـروض بالحواضـر الكبـرى بسبب محدودية قدراتهـم المالية والتقنية، فضـلا عـن تكلفـة الاستجابة لهذه الطلبات والتـي تفـرض علـى الشـركات متوسطة الحجم المشاركة فـي عـدد مـحـدود منهـا فقـط، بسبب تكاليفهـا غيـر القابلة للاسترداد.
وحسب المجلس، فإن تأثيرات التجربة والعـرض انصبت بدرجة كبيرة في اتجاه تعزيز موقع الشركة الرائدة في السوق. غيـر أنـهـا تعـد، فـي الوقت نفسه، بمثابة حواجز تثنـي دخـول متنافسين جدد إلى السوق سالفة الذكر، وقد اقترح مجلس المنافسة عدة توصيات منها إضفاء الطابع الجهـوي على الاستراتيجية الوطنية للتنقلات الحضرية الجديدة، وتخويل السلطات المفوضـة مزيدا مـن الصلاحيات فـي مجال التدبيـر المـفـوض للنقل العمومي الحضري والرابط بيـن الـمـدن، وتشمل التخطيط والمراقبة والتمويل.
كما اقترح المجلس وضع شبكة لتقييم محـيـن للـعـروض، يرتكز على معايير موضوعية، وبدرجة كبيرة، علـى خـطـط عـمـل المتنافسين، بدلا من استخدام شبكة تستند أساسا إلى الأسعار المحددة، والتي لم تعد تشكل عناصر تنافسية. ومـن الضروري أيضـا حسب المجلس تغييـر طبيعة عقـود التدبير المفوض، عبر الانتقـال مـن العقـود القائمـة على “التدفقات المالية” إلى العقود الموجهة نحو تحقيق الأهداف (جودة الخدمة ومعدل تغطيـة التراب وغيرها)، حيث يتم الاحتكام إلى حصيلة جودة الخدمة المقدمة كمعيار فـي إسناد طلب العروض. كما يجب أن تكون المعايير المتعلقة بتخطيط الأهداف في الوقت المناسب والعوامل المالية قابلة للتعديل لتحقيق الأهداف المذكورة.
برنامج جديد لتدبير النقل الحضري بالمدن بكلفة 11 مليار درهم
توصلت مصالح وزارة الداخلية بتقارير ونتائج افتحاص، كشفت وجود تلاعبات في الدعم الذي خصصته الدولة للشركات المفوض إليها تدبير النقل الحضري بالمدن، ومن المنتظر إحالة ملفات على القضاء. وأفادت المصادر بأن الوزارة خصصت اعتمادات مالية كبيرة لدعم الشركات التي تشرف على تدبير قطاع النقل الحضري بالمدن، من أجل تعزيز أسطول الحافلات، وتجويد الخدمات المقدمة لفائدة المرتفقـين.
وكشفت معطيات توصلت بها الوزارة أن عددا كبيرا من عقود التدبير المفوض لقطاع النقل الحضري بالمدن، تظهر عجزا ماليا يحول دون التطبيق السليم للعقود، وبالتالي جودة الخدمات المقدمة إلى المواطنين، ونتج هذا العجز عن صعوبة التوفيق بين حجم الاستثمارات المطلوبة من ناحية، والقيود المفروضة على التسعيرة الاجتماعية، وكذا محدودية إعانات الدولة من ناحية أخرى.
وأمام هذا الفشل، وضعت وزارة الداخلية برنامجا جديدا لتدبير النقل الحضري بواسطة الحافلات للفترة 2029-2025، سعيا منها إلى ضمان خدمة مستدامة وعالية الجودة للمرتفقين.
وأكد عبد الوافي لفتيت، وزير الداخلية، أن هذا البرنامج يشكل قطيعة مع كل التجارب السابقة، حيث تم الفصل ما بين وظيفتي الاستثمار والاستغلال مع التكفل الشامل للدولة، بكل مكونات الاستثمار واعتماد المنصات الرقمية لتتبع عقود الاستغلال، كاشفا أن الكلفة الإجمالية للاستثمارات المخصصة لهذا البرنامج تبلغ 11 مليار درهم، تخص 37 سلطة مفوضة، وتهم كافة مكونات التدبير المفوض من اقتناء 3746 حافلة وأنظمة المساعدة على الاستغلال وإعلام المرتفقين وأنظمة التذاكر، فضلا عن تهيئة المستودعات ومحطات توقف الحافلات وأعمدة التوجيه وتهيئة مراكز الصيانة.
ودعا وزير الداخلية إلى اعتماد الأفضلية الوطنية في طلبات العروض الخاصة بالنقل الحضري داخل المدن، وذلك بمنح الصفقات للشركات الوطنية عوض الشركات الأجنبية التي أصبحت تستحوذ على جل صفقات النقل الحضري بالمدن الكبرى.
وأكد لفتيت، في جواب عن سؤال كتابي للفريق الحركي بمجلس النواب، أن وزارة الداخلية تحث على إدماج الأفضلية الوطنية في طلبات العروض والتصنيع المحلي للحافلات، كلما أمكن ذلك، من أجل العمل على تطوير منظومة اقتصادية واجتماعية متكاملة للنقل الحضري بكل مكوناته من حافلات و«ترامواي» وغيرهما.
وأوضح الوزير أن المغرب انخرط منذ سنة 2008 في عملية عصرنة وتحديث قطاع النقل الحضري من خلال إنجاز وتفعيل الاستراتيجية الوطنية للتنقلات والنقل الحضري، والتي ساهمت بشكل كبير في تحسين مرفق النقل، وتعزيز القدرة التنافسية للمدن وتنمية الاقتصاد الوطني، ومن أجل ضمان استراتيجية تنموية فعالة للمدينة على المدى الطويل، تم اتخاذ مجموعة من التدابير، من أهمها الشروع في إعداد خارطة طريق للتنقلات الحضرية المستدامة في أفق سنة 2040، منبثقة من تفعيل الإجراءات الناتجة عن دراسات قام بها كل من البنك الدولي والوكالة الفرنسية للتنمية، تهدف بالأساس إلى تطوير منظومة نقل حضري شاملة ومندمجة تعتمد النقل الجماعي كوسيلة رئيسية وذات أولوية للتنقل داخل المدن وجعلها أكثر شمولية، خاصة من حيث تمكين ولوجية الفئات الهشة جسديا وماديا والمساواة بين الجنسين، مع الحرص على استحضار البعد البيني في مراحل إعدادها.
ومن بين التدابير المتخذة كذلك، التعميم التدريجي لمخططات التنقلات الحضرية المستدامة من خلال تقديم الدعم المالي والتقني للجماعات الترابية بهذا الخصوص، كما يتم خلال كافة مراحل إعداد هذه المخططات الحرص قدر الإمكان على توافقها مع مختلف وثائق التعمير والتخطيط الترابي، بالتنسيق مع كافة الفاعلين المعنيين، خاصة المصالح المختصة لوزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة، نظرا إلى الترابط والتلازم الذي يجمع بين منظومتي النقل والتعمير.
ونتيجة لذلك، يضيف لفتيت أصبحت عدة مدن تتوفر على مخطط للتنقلات الحضرية كالدار البيضاء، ومراكش، ووجدة، وأكادير، والجديدة، وتطوان، وآسفي، وبني ملال، والرباط، والقنيطرة، وسطات، وفاس، كما تواصل مدن أخرى كطنجة، ومكناس، وخريبكة والتجمع الحضري الرباط سلا تمارة، والدار البيضاء، والناظور، وأكادير، إنجاز دراساتها المتعلقة بمخططات التنقلات الحضرية المستدامة، وتستعد أربع مدن للانخراط في هذا النهج الذي يندرج في إطار الجيل الجديد لهذه المخططات، والذي يعتمد هو الآخر مقاربة جديدة وشاملة تأخذ بعين الاعتبار بعد الاستدامة.
وعلاوة على ذلك، تقوم وزارة الداخلية، في إطار توحيد المعايير المتعلقة بهذا القطاع، بإعداد مجموعة من الدلائل المنهجية ونماذج لدفاتر التحملات، وهي الآن بصدد إصدار الصيغة النهائية للدليل العملي حول مسطرة إنجاز مخططات التنقلات الحضرية المستدامة ونموذج دفتر التحملات المتعلق بها.
وأشار الوزير إلى وضع آليات للتمويل المستدام عبر إحداث منذ سنة 2007، صندوق مواكبة إصلاحات النقل الطرقي الحضري والرابط بين المدن، من أجل مواكبة الإصلاحات الهيكلية التي يعرفها هذا القطاع، وقد عرف هذا الصندوق تعديلا مهما بموجب قانون المالية لسنة 2014، وكشف لفتيت أنه بفضل الدعم المقدم من طرف هذا الصندوق، تم تمويل عدة مشاريع هيكلية، ومنها مشاريع خطوط «ترامواي» الرباط سلا والدار البيضاء، ومشروع في مرحلة انتهاء الأشغال لخطين للحافلات ذات الجودة بمدينة الدار البيضاء، ومشروع إعادة تأهيل شبكة وأسطول حافلات النقل الحضري بمدينة الدار البيضاء، ومشروع في طور الإنجاز للخط الأول للحافلات ذات الجودة العالية بمدينة أكادير، بالإضافة إلى إطلاق الدراسات المتعلقة بمشاريع خطوط الحافلات ذات الجودة العالية بعدد من المدن كمراكش، طنجة وأكادير.
وتحدث الوزير عن تطوير التدبير المفوض المرفق النقل الحضري من خلال وضع نموذج معدل لتدبير عقود التدبير المفوض، وذلك في أفق الفصل التدريجي للاستثمار عن الاستغلال، عن طريق المساهمة في مرحلة أولية في تكاليف الاستثمار، مما سيمكن من تخفيف الأعباء المالية وتحسين الجودة وضمان سلامة الوسائل والموارد والمستخدمين، وفي هذا السياق، يضيف لفتيت تمت بلورة عدة نماذج لتدبير عقود التدبير المفوض على مستوى مدن الرباط والدار البيضاء والقنيطرة، كما تم إطلاق دراسة لإنجاز نموذج اقتصادي للنقل الحضري وما بين المدن عبر الحافلات و»الترامواي» من طرف المديرية العامة للجماعات الترابية، وهو النموذج الاقتصادي الذي يأخذ بعين الاعتبار وسائل النقل العمومي المختلفة وحجم مدار التدبير المفوض، حيث إن المرحلة الأولى من هذه الدراسة والتي تحمل عنوان «دراسة مقارنة دولية من أجل القيام بنموذج تقييم اقتصادي واجتماعي لمشاريع النقل العمومي قد شارفت على الانتهاء، بالإضافة إلى إعادة هيكلة الشبكات للاستجابة للتوسع العمراني ولتلبية حاجيات المرتفقين.
وأبرز لفتيت أن وزارة الداخلية واعية كل الوعي بالضرورة الملحة التي يكتسبها توفير وسائل نقل عمومي للربط بين المدن وأحوازها، التي تعرف نموا عمرانيا وديموغرافيا تمخض عنه تزايد الارتباط وحركة التنقل بين المراكز الحضرية وضواحيها، وفي هذا الإطار، وبغية تقريب خدمات النقل العمومي الحضري بواسطة الحافلات من سكان ضواحي المدن، يتم تمديد خطوط للربط بين المدن ومراكز الجماعات المجاورة، وذلك من خلال ملحق اتفاقية شراكة مبرمة بين مجالس الجماعات المعنية، لتلبية الطلب المتزايد لسكان الجماعة والمراكز المجاورة، وخصوصا الطلبة الذين يتوجهون إلى الكليات والمدارس.
شركات الجهوية متعددة الخدمات تضع حدا
لعقود التدبير المفوض
تدخل تجربة التدبير المفوض في المغرب مراحلها الأخيرة، مع شروع الحكومة في تنزيل مشروع الشركات الجهوية متعددة الخدمات (SRM)، التي ستحل محل الشركات الأجنبية والمحلية المفوض إليها تدبير توزيع الماء والكهرباء والتطهير السائل منذ التسعينيات. ويُنتظر أن تُمثل هذه الخطوة نقلة نوعية في تدبير المرافق العمومية الحيوية، وتنهي مرحلة من التسيير أثارت الكثير من الجدل.
بدأت تجربة التدبير المفوض في المغرب سنة 1997، مع شركة «ليدك» الفرنسية بالدار البيضاء، في عهد وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، ثم توسعت التجربة إلى الرباط وسلا «ريضال»، وطنجة وتطوان «أمانديس». وتمثلت فلسفة هذا الخيار في الاستعانة بالقطاع الخاص لتحسين جودة الخدمات العمومية ومواكبة التحولات الحضرية المتسارعة.
لكن ومع مرور السنوات، تزايدت الانتقادات لتجربة التدبير المفوض، بسبب ضعف المراقبة، وغياب الشفافية في العقود، وارتفاع الفواتير، ومحدودية تأثير هذه الشركات على البنية التحتية والخدمات. واليوم، تستعد هذه الشركات لمغادرة السوق المغربية، حيث من المنتظر ألا تُجدد عقودها بعد انتهاء آجالها، كما هو الحال مع «ليدك» التي ستغادر بحلول سنة 2027.
تبنت الحكومة مشروع قانون رقم 83.21 لإحداث 12 شركة جهوية متعددة الخدمات، ستُعهد إليها مهام توزيع الماء والكهرباء والتطهير السائل، إضافة إلى الإنارة العمومية عند الاقتضاء. وستُحدث هذه الشركات تدريجيا، بمبادرة من الدولة، وتخضع لأحكام قانون شركات المساهمة، مع إمكانية مساهمة الجماعات الترابية، والمقاولات العمومية، وحتى القطاع الخاص في رأسمالها، مع ضمان ألا تقل مساهمة الدولة عن 10في المائة.
وتهدف هذه الشركات إلى توحيد وتحديث تدبير الخدمات الأساسية، وضمان قرب التدبير من المواطن، من خلال إحداث تمثيليات محلية بكل عمالة أو إقليم، مجهزة بالوسائل والصلاحيات اللازمة لتحسين جودة الخدمة.
مع دخول هذه الشركات الجديدة حيز التنفيذ، ستُنقل إليها كافة المهام والالتزامات والعقود التي كانت تتولاها شركات التدبير المفوض، والمكتب الوطني للكهرباء والماء، والوكالات المستقلة. كما ستؤول العقارات والمنقولات المستغلة في تقديم هذه الخدمات إلى الشركات الجهوية.
وسيتم نقل المستخدمين والموظفين التابعين للوكالات والمكتب الوطني إلى هذه الشركات، مع الحفاظ الكامل على مكتسباتهم من أجور وتعويضات وتغطية اجتماعية وتقاعد، كما ستتكفل الشركات الجديدة بالعجز المحتمل في صناديق التقاعد، وفقا لتعهد حكومي واضح وملزم.
ترى الحكومة أن هذا التحول ضروري في ظل الضغوط المتزايدة على خدمات الماء والكهرباء والتطهير، وارتفاع الطلب، وضرورة تحقيق استثمارات كبرى لتأمين الخدمة العمومية. كما أن تعدد المتدخلين في القطاع (شركات مفوضة، مؤسسات عمومية، جماعات) أفرز فوضى تدبيرية، بات من الضروري تجاوزها عبر تجميع الصلاحيات وتوحيد الفاعل الجهوي.
ويُنتظر من هذه الخطوة أن تُمكن من تحسين الحكامة، وتكريس النجاعة، وتدعيم التنمية الجهوية المستدامة، بما يتماشى مع توجهات الجهوية المتقدمة. كما يهدف المشروع إلى تعزيز الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة، خاصة بعد الجدل الذي رافق تجارب التدبير المفوض.
ورغم الضمانات التي قدمتها وزارة الداخلية بشأن حقوق المستخدمين، إلا أن بعض النقابات تُبدي تخوفات من المرحلة الانتقالية، خاصة في ما يخص شروط الإدماج، ونقل الأصول، وضمان استقرار الموظفين. كما أن نجاح هذا الورش رهين بمدى فعالية عقود التدبير التي ستُبرم بين الجماعات والشركات الجديدة، ومدى قدرة هذه الأخيرة على استقطاب الكفاءات والاستثمار في البنية التحتية.
وفي المقابل، يرى مراقبون أن هذا التحول يمثل فرصة تاريخية لتصحيح اختلالات الماضي، خاصة في المدن الكبرى التي عانت من سوء التسيير وغياب المحاسبة. كما يُعد المشروع جزءا من رؤية أوسع لتأهيل المرافق العمومية، وتجسيد التوجه نحو لا تمركز الخدمات العمومية.
ثلاثة أسئلة لعبد الحفيظ أدمينو* :
«التطبيق العملي للتدبير المفوض لا يخلو من إشكالات قانونية وتدبيرية تستدعي إعادة النظر في آلياته»
– ما الأسس القانونية التي ينبني عليها التدبير المفوض بالجماعات المحلية؟
لا بد من التذكير بأن التدبير المفوض قد بدأ منذ التسعينيات في مدن كبرى على رأسها الدار البيضاء، غير أنه خلال تلك الفترة لم يكن نص قانوني ينظمه، إلى حدود سنة 2006، حيث تم التنصيص القانوني على التدبير المفوض على أساس القانون رقم 54.05 المتعلق بالتدبير المفوض للمرافق العامة، الصادر سنة 2006، والذي يُحدد الإطار العام للعلاقة بين الجماعات الترابية والمفوض إليه، ويضع قواعد دقيقة تهم إعداد دفاتر التحملات، وشروط إبرام العقود، ومراقبة التنفيذ، وحقوق المرتفقين، وينص هذا القانون على أن التدبير المفوض يتم بموجب عقد إداري يُبرم لمدة محددة بين سلطة المفوض (الجماعة الترابية، أو إحدى مؤسساتها) وشركة أو اتحاد شركات، يمنحها الحق في استغلال مرفق عمومي معين مقابل أداء مالي، مع الالتزام بتحقيق جودة الخدمات، واحترام المعايير المحددة في دفتر التحملات.
وفي ظل التحولات التي عرفها تدبير المرافق العمومية المحلية بالمغرب، برز نظام «التدبير المفوض» كخيار قانوني وإداري أساسي أتاح للجماعات الترابية تفويض تدبير بعض خدماتها الأساسية لفائدة شركات خاصة، سواء وطنية أو أجنبية، مع الاحتفاظ بدور الإشراف والمراقبة. ويأتي هذا التوجه في إطار سياسة اللامركزية وتحديث الإدارة المحلية، إلا أن التطبيق العملي لهذا النظام لا يخلو من إشكالات قانونية وتدبيرية تستدعي إعادة النظر في آلياته وضمان فعاليته وشفافيته، وقد طُبّق هذا النظام في عدة قطاعات حيوية، مثل توزيع الماء والكهرباء، وتدبير النفايات المنزلية، والنقل الحضري، والإنارة العمومية. وشهدت مدن كبرى كالدار البيضاء، الرباط وطنجة، تجارب متعددة في هذا المجال، تفاوتت نتائجها بين النجاح النسبي والإخفاقات المثيرة للجدل.
ورغم الإطار القانوني المتقدم نسبيا، فإن عددا من التقارير الصادرة عن المجالس الجهوية للحسابات، وتحديد تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2014، وملاحظات المجتمع المدني، كشفت عن ثغرات متعددة تعتري هذا النموذج من التدبير، منها ضعف المراقبة الفعلية من طرف الجماعات، وغموض بنود بعض دفاتر التحملات، وتأخر تنفيذ الالتزامات التعاقدية، ومحدودية إشراك المواطنين في تقييم جودة الخدمات، وأمام هذا الوضع، تحركت الدعوات إلى ضرورة تحديث القانون 54.05 بما يتلاءم مع مستجدات دستور 2011، خاصة ما يتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة، والشفافية في إبرام الصفقات العمومية، إضافة إلى تقوية القدرات التقنية والقانونية للجماعات المحلية في التفاوض ومراقبة التنفيذ، عبر إحداث وحدات داخلية مختصة، أو الاستعانة بخبراء خارجيين.
– ماذا بخصوص التدبير المفوض وتأثيره على المسؤولية المحلية للمنتخبين داخل الجماعات المحلية؟
تجب الإشارة إلى كون الجماعات المحلية اعتمدت خلال العقدين الأخيرين على آلية «التدبير المفوض» كصيغة قانونية لتفويض تدبير عدد من المرافق العمومية الأساسية، من قبيل توزيع الماء والكهرباء، وتدبير النفايات، والنقل الحضري، والإنارة العمومية، لفائدة شركات خاصة، ورغم ما توفره هذه الصيغة من مرونة تقنية، ومساهمة محتملة في تحسين جودة الخدمات، إلا أن آثارها على مبدأ المسؤولية السياسية والإدارية للمنتخبين المحليين تبقى محل جدل متزايد.
لقد ساهم التوسع غير المتوازن في التدبير المفوض في إضعاف الدور الرقابي والتقريري للمنتخب المحلي، الذي أضحى في كثير من الأحيان خارج دوائر التأثير في قرارات استراتيجية تمس الحياة اليومية للمواطنين، في حين تنفرد الشركات المفوضة بإدارة ملفات حساسة، غالبا دون محاسبة فعلية من طرف المجالس الجماعية، وتبرز المفارقة، حينما يُحمَّل المنتخبون مسؤولية أعطاب خدمات لا يشرفون على تدبيرها بشكل مباشر، كما يحدث في قطاع النظافة أو النقل العمومي، بينما تمنح دفاتر التحملات غالبا صلاحيات واسعة للشركات، في ظل غياب الكفاءة التقنية والمؤسساتية داخل الجماعات لممارسة الرقابة، أو عدم تفعيل آليات التتبع والتقييم المنصوص عليها قانونا.
وأشارت عدد من تقارير المجالس الجهوية للحسابات إلى اختلالات في طريقة إبرام عقود التدبير المفوض، وضعف التنصيص على مؤشرات الأداء، وغياب المحاسبة الدورية، مما يُفرغ مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة من مضمونه على مستوى الجماعات، ويُحوِّل بعض المجالس إلى مجرد واجهات سياسية دون سلطة فعلية على تدبير الشأن المحلي، غير أن مسؤولية المنتخب لا تقتصر فقط على القرار السياسي، بل تشمل المتابعة والمراقبة والتقييم، وهي أدوار تراجعت بفعل «تكنوقراطية» التدبير المفوض، واحتكار الشركات للقرار التنفيذي، غالبا بشروط تفاوضية غير متكافئة.
وقد أدى هذا الوضع إلى اهتزاز ثقة المواطنين في قدرة مجالسهم المنتخبة على إحداث التغيير الملموس، بعدما باتت المطالب اليومية بخصوص النظافة، النقل، أو الإنارة، تُواجه بجواب واحد: «الأمر بيد الشركة المفوضة». وهو ما يعتبره البعض تملصا من المسؤولية السياسية التي انتخب المواطنون على أساسها ممثليهم، غير أنه مع تعاظم هذا التحدي، تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في النموذج الحالي للتدبير المفوض، من خلال ضمان شراكة شفافة، وآليات رقابة فعالة، ومأسسة دور المنتخب في إعداد دفاتر التحملات، وتتبع الإنجاز، وإشراكه في القرارات المفصلية.
كما أن التكوين المستمر للمنتخبين في الجوانب التقنية والقانونية بات ضرورة، حتى لا يبقى التعاقد مع الشركات الخاصة بابا خلفيا لتقليص النفوذ المؤسساتي للجماعات الترابية وتعليق الفشل على «المفوض إليهم»، دون تحمل المسؤوليات السياسية والأخلاقية، كما أن تحقيق التوازن بين النجاعة التدبيرية والمسؤولية الديمقراطية، يمر عبر إعادة الاعتبار للمنتخب المحلي، باعتباره الفاعل الأول في تجسيد الحكامة الجيدة على المستوى الترابي، وليس مجرد شاهد على قرارات شركات مفوضة تتحكم في دواليب المرافق الحيوية للسكان.
-هل اختلالات التدبير المفوض أبانت عن فشل تطبيق هذا النموذج؟
إن الرهان على آلية «التدبير المفوض» كخيار استراتيجي لتحديث تدبير المرافق العمومية المحلية، وتحسين جودة الخدمات من خلال تفويضها إلى شركات خاصة، وطنية أو متعددة الجنسيات، بموجب عقود تُبرمها الجماعات الترابية وفق القانون رقم 54.05، وما زالت نتائج التدبير المفوض محل جدل واسع.
عند انطلاقه، تم تقديم التدبير المفوض كحل لتجاوز ضعف الإمكانيات البشرية والمادية للجماعات المحلية، وتمكينها من تقديم خدمات ذات جودة في قطاعات حساسة كالنظافة، الإنارة العمومية، توزيع الماء والكهرباء، والنقل الحضري.
في الواقع، عرف المغرب تجارب ريادية في هذا المجال، خاصة في الدار البيضاء، الرباط، طنجة وأكادير، حيث تم توقيع عقود ضخمة مع شركات عالمية، تم بموجبها إحداث تغييرات تقنية وبنيوية في البنية التحتية والتجهيزات الأساسية.
لكن، بعد سنوات من التطبيق، بدأ النقاش يتجه من الانبهار بالكفاءة الخاصة إلى التحفظ تجاه الاحتكار، ضعف الشفافية، وتدهور جودة بعض الخدمات، ما جعل العديد من التقارير الرسمية، أبرزها تقارير المجلس الأعلى للحسابات، تُسجل اختلالات جوهرية في التدبير المفوض، خاصة على مستوى احترام دفاتر التحملات، وعدم الوفاء بالالتزامات الاستثمارية، وغياب مؤشرات التتبع والتقييم.
ومن بين أبرز عيوب هذا النموذج ما يسمى بـ«تفريغ الجماعات من دورها»، حيث تحولت الجماعات المحلية من فاعل مباشر إلى متفرج إداري، بسبب ضعف التكوين في التعاقد والتتبع، وغياب آليات المراقبة، مما كرس نوغا من الإفلات من المحاسبة بالنسبة إلى الشركات المفوضة، بل أكثر من ذلك، أدى الاعتماد المفرط على التفويض إلى ضعف موقع المنتخبين المحليين، وخلق مسافة بين المواطن والجهات المفروض أن تخدمه، حيث يُحمّل المواطن الجماعة مسؤولية التردي في الخدمة، بينما تُلقي الأخيرة باللوم على الشركة المفوضة.
ورغم هذه الانتقادات، لا يمكن الجزم بفشل مطلق للتدبير المفوض. ففي بعض المدن، ساهمت هذه الصيغة في تحسين ولوج السكان إلى خدمات حيوية، ووفرت استثمارات تقنية ضخمة لم تكن الجماعات قادرة على تمويلها. كما فرضت نوعا من العقلنة في تدبير المرافق، ورفعت من مستوى المهارة التقنية في بعض القطاعات، لكن هذا النجاح ظل جزئيا ومحصورا في تجارب محددة، بينما فشلت جماعات أخرى في مواكبة ومراقبة التنفيذ، ما أدى إلى تفاوت صارخ بين المدن، واستشراء الفوضى في التعاقدات، بل واحتدام الصراعات السياسية والاتهامات بين المجالس والشركات.
وبات واضحا أن استمرار العمل بالتدبير المفوض بنفس الآليات والذهنيات الحالية لم يعد مجديا. إذ يُطالب العديد من الفاعلين بضرورة مراجعة القانون رقم 54.05، من خلال إعادة الاعتبار لدور الجماعة، وتفعيل آليات الحكامة، وربط التمويل بالمردودية، وتشديد العقوبات في حال الإخلال بالالتزامات، كما أن الشفافية والحق في المعلومة، وتوسيع رقعة التقييم المدني والإعلامي لعقود التدبير المفوض، تعد من شروط نجاح هذه الصيغة أو بدائلها المستقبلية.
*أستاذ القانون العام بكلية الحقوق بالسويسي- الرباط