يونس جنوحي
تنظيم يوم دراسي في قاعة بالكاد تتسع لأقل من مئة شخص، في مدينة صغيرة، قد لا يُكلف أصحاب المبادرة أي شيء.. لكنهم في سبيل حجز قاعة أو استخراج ترخيص وطبع لافتة قد يعيشون دوامة من التماطل والتأجيل إلى أن يفقدوا الأمل.
هناك تراجع كبير في الأنشطة الثقافية التي تُعقد في نهاية الأسبوع. وبعد أن كان هناك إشباع في هذا النوع من التظاهرات في التسعينيات وبداية الألفية، صار هناك جفاف قاتل في الشأن الثقافي، حتى أن كلمة «الثقافة» صارت تُستعمل أخيرا للإحالة على الموسيقى أكثر مما تُستعمل للإحالة على الثقافة التي يعرفها بقية سكان العالم.
وبعض رؤساء الجماعات مُستعدون فورا لتنظيم سهرة مهما كلفّت «الجّرة»، لكنهم عندما يتعلق الأمر بنشاط ثقافي أو دعم إصدار كتيب للجيب يسلط الضوء على تراث منطقتهم أو تاريخها، يُصبح الوصول إليهم أشبه بالغوص بحثا عن ركام السفن.
إذا تأملتم، مثلا، لوائح مُدبري الشأن العام في أغلب الجماعات المحلية، ستستنتجون مباشرة أن أغلبهم جاؤوا إلى التسيير من أبواب أخرى غير باب الثقافة. وطبعا لا حاجة لأن نُذكر أن نسبة مهمة من المنتخبين ونواب الأمة لازالوا يعيشون كل سنة تحدي اجتياز امتحان «الشهادة»، وبعضهم يرسبون في الحصول على الشهادة الابتدائية الحرة، رغم أنهم يُسيرون جماعات تبلغ ميزانياتها ملايير السنتيمات.
كيف يمكن لمنتخبين من هذا النوع فهم المبادرات الثقافية والمشاريع التي يحملها الشباب في المدن الصغيرة والقرى المنسية لفك العزلة الثقافية عن أبناء المغاربة. لوائح طويلة من الجمعيات، تنشط في الشأن الثقافي والرياضي، لا تجد دعما ويضطر المُنتسبون إليها لجمع التبرعات لتسديد نفقات البنزين والطريق السيار لحضور تظاهرات ثقافية في المراكز الكبرى. في حين أن النقل الجماعي وأسطول سيارات الجماعات يتجول به الأعضاء لافتين إليهم الانتباه في الشواطئ والمنتجعات أثناء العطل.
النتائج المخجلة الأخيرة التي «مُنيت» بها جامعات رياضية كثيرة، مردها إلى غياب المبادرات على طول السنة. الجمعيات والأندية المنضوية تحت هذه الجامعات، لا تجد ما يكفي لتسديد نفقات نقل أبطال المستقبل لحضور المباريات والمنافسات الوطنية، فما بالك بالمشاركة خارج المغرب.
عُدنا بصفر ميدالية في رياضات يُفترض أن نحقق فيها نتائج مهمة نظرا لأننا نتوفر على هيكلة إدارية للرياضات عمرها أكثر من أربعين سنة، ولا يوجد مُبرر واحد لعدم تكوين الجامعات الرياضية لمنافسين باستطاعتهم الصمود إلى المنافسات النهائية.
كان هناك انتعاش ثقافي وانتشار لنوادي القراءة والتنقيب عن المواهب، والرياضات المدرسية، رغم أن الوضع الاجتماعي للمغاربة كان وقتها أقل بكثير مما هو عليه اليوم، في عصر الأنترنت «يا حسرة» وثورة الاتصالات.
مبادرات كثيرة دُفنت وولت أيامها إلى غير رجعة. مثل مبادرة المسابقات الثقافية على مستوى جهات المغرب. انقرضت الثقافة وبقيت «الجبهات» بارزة، وغاب التلاميذ المهووسون بالمطالعة، وحلت مكان الأنشطة الثقافية، المسابقات المُختصرة التي تختزل الشأن الثقافي في إصدار النكات السمجة التي قد تصل إلى حد التجريح والإساءة، وتُقبل على أنها «كوميديا».
أحد الباحثين ممن يحملون هم الإنتاج الفكري وتأثيث الخزانة المغربية، فقد الأمل في الحصول على دعم لإصدار دراسة مغربية رصينة. وحكى لي أنه بعد أكثر من خمس سنوات حاول خلالها التواصل مع جهة جادة لطبع العمل، ولو بدون شروط، قرر أن يراسل مؤسسة ثقافية في الخليج. لم يكلفه الأمر سوى رسالة إلكترونية مقتضبة ونسخة إلكترونية من العمل، ليُطبع ويخرج إلى الوجود في أقل من ثلاثة أشهر. وشارك بالعمل في مسابقة ثقافية عربية وفاز بالجائزة الأولى. وعندما اتصلت به صحيفة خليجية لتحاوره حول مضمون كتابه، سألته الصحافية عن الإضافة التي قدمها كتابه إلى «الخزانة المغربية»، فلم يتمالك نفسه ليضحك. فقد أدرك، بعد عشرين سنة من البحث الأكاديمي، أن الخزانة المغربية لم تعد تملؤها إلا صحون «الطاووس»، في حين أن الكتب غادرت نحو الأرصفة منذ أن أغلقت دور الشباب أيام الأحد.