شوف تشوف

الرئيسيةملف التاريخ

كيف خرج الإسلاميون من التاريخ؟

يونس جنوحي
«طالما حاولت أطراف كثيرة أن تصور الدكتور عبد الكريم الخطيب على أنه مهندس دخول الإسلاميين إلى السياسة على اعتبار أنه صديق للملك الراحل الحسن الثاني ورجل ثقة القصر.
لكن الأمر كان أكبر من ذلك بكثير. إذ إن مسار الدكتور الخطيب يكشف بوضوح، سواء من خلال كتاباته أو من خلال شهادات الشخصيات التي تعاملت معه من العالم الإسلامي منذ ستينيات القرن الماضي، أن الرجل كان لديه مشروع سياسي إسلامي منذ القرن الماضي وأنه عمل جاهدا لتنزيله على الأرض.
وحسب مقربين من الدكتور الخطيب، فإنه سبق أن طلب من الملك الحسن الثاني السماح له بالاشتغال على مشروع إدخال الإسلاميين إلى حزبه، لكن الملك الحسن الثاني اعترض وقال للخطيب ما معناه إن الملك سوف يساعده إذا أراد إنشاء «زاوية» وليس حزبا سياسيا.
بين قصة صعود العدالة والتنمية، وسقوطه المدوّي وليس «الحر»، قصة تستحق فعلا أن تُروى».

إسلاميو «ما قبل الميلاد»..
عندما قرر الدكتور الخطيب في نهاية التسعينيات وضع يده في يد فريق عبد الإله بنكيران كان إدريس البصري، وزير الداخلية القوي الذي يمسك ملفات أمنية عن الإسلاميين وأنشطتهم في المغرب، يراقب الرجل المقرب من الملك الحسن الثاني وهو يخوض مغامرة إدخال الإسلاميين إلى حقل السياسة.
وهكذا كانت سنة 1997 هي المحطة التاريخية الأولى التي شارك فيها «الإخوان» في الانتخابات. وقد راقب إدريس البصري، خصوصا وأن هناك اعترافات بتزوير تلك الانتخابات، الحملات الانتخابية لعبد الإله بنكيران ومن معه.
لكن المشكلة التي كانت لدى إدريس البصري لم تكن هي إخوان بنكيران بقدر ما كانت الدكتور الخطيب نفسه. والدليل أن البصري أعطى تعليمات صارمة لأعوانه لكي لا يتحكموا في مداخلة الدكتور الخطيب أثناء الحملة الانتخابية، حيث كان التلفزيون يبث وصلات القياديين السياسيين التي يدعون من خلالها المواطنين إلى التصويت لصالحهم. وكانت تعليمات إدريس البصري صارمة بخصوص مضامين خطب الزعماء السياسيين ومدتها بل وحتى لباسهم أمام الكاميرا. وقد كان الدكتور الخطيب استثناء عن تلك القاعدة.
كانت بعض الفعاليات الحقوقية، في اليسار على وجه الخصوص، تعارض بشدة دخول الإسلاميين إلى العمل السياسي. خصوصا وأن عبد الإله بنكيران كان وقتها معروفا بدروسه الدينية التي يلقيها في بعض المساجد بين الدار البيضاء والرباط، وترويج بعض أشرطة الدروس التي يسجلها فريقه ويعملون على توزيعها على أوسع نطاق.
بل عندما كان يملك مكتبة في حي العكاري في الرباط، كان يأتي إليه بعض أصحاب الكتب الدينية الذين وجدوا صعوبات في ترويجها بسبب مضمونها وكان بنكيران يقبلها منهم لكي توضع في رف مكتبته.
كان ملف أعضاء الشبيبة الإسلامية الذين حُكم عليهم بالإعدام سنة 1983 في طريقه إلى الحل، أو قد حُل نسبيا مع اقتراب سنة 1997. وهو ما جعل قيادات يسارية، خصوصا أسرة عمر بنجلون، تنتفض ضد وصول الأسماء التي ارتبطت بتهمة مقتل رمز يساري، إلى العمل السياسي، وصدور عفو على أتباع عبد الكريم مطيع وأعضاء الشبيبة الإسلامية السابقين.
بل إن بنكيران، من خلال الصحيفة التي كان يصدرها رفقة الإخوان، حاول مهاجمة أعضاء الشبيبة الإسلامية الذين استفادوا من العفو، في محاولة للتبرؤ من العلاقة معهم، رغم أنهم كانوا جميعا يسبحون في التيار نفسه قبل سنوات قليلة من ذلك التاريخ.
تأسس حزب العدالة والتنمية وخاض الدكتور الخطيب معارك على الأرض مع قيادات الحزب لكي يصبح قوة فاعلة سياسية. وظل الحزب يلعب على ورقة المنع والتضييق والإقصاء حاصدا تعاطفا كبيرا. خصوصا في سنة 2003 حيث حاولت أطراف سياسية تعليق العدالة والتنمية رغم أن التحريات أثبتت أن لا علاقة بين حزب العدالة والتنمية والسلفية الجهادية التي كان أعضاؤها مسؤولين عن التخطيط للتفجيرات الإرهابية.
نجا الحزب من ذلك المطب بأعجوبة، وفي استحقاقات 2007 اتهم الداخلية صراحة بإقصائه وكبح نجاحه الانتخابي، لكن في سنة 2012 كان الإسلاميون على موعد مع التاريخ لقيادة أول حكومة يترأسها حزب العدالة والتنمية الخارج من مؤتمر وضع عبد الإله بنكيران على رأس الحزب.
وُلد الحزب وفق تقويمه الخاص وقتها، وسرعان ما أثبتت التجارب والمحطات التي مر منها أنها لم تكن سهلة وأن هياكله بدأت تتداعى وتخرج عن المسار القديم الذي وضعه الدكتور الخطيب.
إذ إن تأسيس مؤسسة الدكتور الخطيب في عهد حكومة سعد الدين العثماني، عرف مشادة بلغت حد تبادل الاتهامات بمحاولة استغلال اسم الدكتور الخطيب وإقصاء بعض الأسماء التي كانت مقربة منه. وهكذا كان إسلاميو «ما قبل الميلاد» أقوى تنظيميا ممن يمكن أن نسميهم الآن إسلاميي «الشتات» الانتخابي والوزاري.

بـ«الأبيض والأسود».. ذكريات من زمن الالتزام
لا يوجد اليوم أكثر إحراجا من ترويج مقال قديم لقيادي مثل عبد العزيز الرباح يدعو فيه إلى إقامة شرع الله في الأرض وإلغاء تعويضات البرلمانيين وامتيازات رجال السلطة.
أو حتى صورة قديمة لرجل مثل مصطفى الرميد، وزير العدل ثم حقوق الإنسان السابق. إذ إن ماضيه في المجال الحقوقي سبب له إحراجا كبيرا عندما ذهبت الحكومة التي ينتمي إليها إلى منع التظاهر والاقتطاع من أجور المضربين، لأول مرة في تاريخ المغرب في اغتيال صريح لحق نقابي عريق في كل دول العالم. بينما صوره سواء بالأبيض والأسود أو تلك الأخرى الملونة كلها تشهد أنه كان واحدا من رواد التظاهر داخل الحزب، بل كان مهندسا للاعتصامات والصفوف الأولى في مواجهة قوات الأمن التي منعت مظاهرات سابقة للحزب قبل أن يترأس الحكومة.
شكّل هذا الماضي، الذي لا يزال مدونا في مقالات من أرشيف جرائد الحزب، موضوع إحراج كبير لأعضاء العدالة والتنمية. إذ إن مواقف الحزب في عدد من الملفات ومواقف فريقه البرلماني أثناء التصويت على قوانين الضريبة على الثروة أو تعويضات البرلمانيين وامتيازاتهم الاجتماعية والإدارية، كلها كانت نقاطا حاربها الحزب وبنى برنامجه السياسي والانتخابي عليها ووعد المغاربة بالقطع معها.
أما على مستوى الذراع الدعوي للحزب، فقد كان قياديون ينشرون مقالات يحاربون فيها التعاملات الربوية واللجوء إلى المديونية وتعويضات السياحة، التي حاربها مصطفى الرميد في مدينة مراكش وخاض حربا ضدها، بالإضافة إلى تعويضات الخمور وتنظيم رخصها.
لكن منذ وصول الحزب إلى الحكومة، عرف استهلاك الخمور ارتفاعا غير مسبوق ولجأت الحكومة في الحال إلى سن ضرائب إضافية على عائداته التي شكلت نسبة مهمة جدا من إجمالي عائدات الدولة.
ليس هذا فحسب، بل كان الحزب منذ 2012 متسامحا جدا مع مقترحات تعويضات المسؤولين ولم يحرك، رغم إشرافه على وزارات معنية بالموضوع، أي إجراء لمنع استغلال المال العام، بل ذهب إلى مهاجمة الصحافة، خصوصا «الأخبار»، على إثر كشف وفضح ملفات التلاعب ونهب المال العام من طرف مسؤولين بعضهم، للأسف، ينتمون إلى حزب العدالة والتنمية.
أمام مشكل المبادئ وأزمة الماضي الذي بنى عليه الحزب مواقفه، لم يجد عدد كبير من القياديين ما يبررون به ذلك التحول، سوى الصمت. لتكون النتيجة هذا التصويت «العقابي» الذي مارسه المغاربة ضد حزب العدالة والتنمية، في أعنف سقوط سياسي في تاريخ المغرب المستقل.

قصص زيارات إخوان مصر إلى المغرب
الأصول التاريخية للعلاقة بين بعض علماء مصر، خصوصا منهم خريجو الأزهر، مع العلماء المغاربة، تعود إلى زمن ما قبل ولادة الإخوان المسلمين.

إذ إن بعض وثائق الأرشيف ومخطوطات رحلات الحج التي أنجزها كُتاب وزراء مغاربة وعلماء خلال فترة حكم المولى الحسن الأول، وصولا إلى عهد المولى يوسف وبداية زمن الملك الراحل محمد الخامس، كلها توثق لعلاقات وطيدة بين علماء المغرب ونظرائهم في الشرق وليس في مصر وحدها.

أدى هذا التواصل الفكري إلى تبادل زيارات، إذ إن أرشيف الصحافة الفرنسية في المغرب، ما بين سنوات 1939 و1941 وثق لبعض الاستقبالات التي خصصها علماء مغاربة لنظرائهم المصريين، حيث كانت الصحافة الفرنسية قلقة بشأن ذلك التواصل، خصوصا وأن مصر شهدت وقتها ميلاد حركات القومية العربية الرافضة للاستعمار الأوربي للدول العربية والإسلامية.

لكن ما كان وقتها يشغل بال العلماء المغاربة هو ميلاد السلفية المغربية المعتدلة التي كان من بين روادها شيخ الإسلام الفقيه العربي العلوي وعلال الفاسي، وعبد الحي الكتاني بالإضافة إلى عبد الله كنون الذي كان وقتها من المجتهدين الشباب في باب الوسطية والاعتدال، خصوصا وأن الجيل الذي سبق، أي علماء عهد المولى الحسن الأول، كان قد سبق لهم تسجيل مواقف متشددة جدا بخصوص مظاهر الحياة العصرية التي غزت المغرب، حيث أفتوا بتحريم الهاتف والسيارة ووصل الأمر حد تحريم الشاي وطلب «تعزير» من يشربه من المغاربة. لولا أن ثلة من العلماء المغاربة المنفتحين على التيار السلفي قاموا بإجراء مجموعة من الأبحاث ودراسات الفتاوى للخروج من ذلك المأزق.

لقد كان مأزقا بالفعل لأن اشتداد النقاش بين العلماء أدى إلى بروز عداوات ونسف مجالس مستشاري القضاء الذين كان المولى الحسن الأول قد أسس لهم مجلسا داخل القصر الملكي بفاس ما بين فترة 1873 و1894.

التواصل بين المصريين والمغاربة أدى إلى ميلاد تيار جديد من العلماء المغاربة المنفتحين على الشرق، حيث عمدت أسر عريقة في العلم إلى إرسال أبنائها إلى الشرق لأول مرة، مثل ما وقع لعائلة الكتاني، التي كانت معروفة في فاس والرباط بتقديم أجيال من الدارسين للعلوم الشرعية خصوصا في مجال الحديث، حيث استدل عدد من المشارقة بمجهودات العلماء المغاربة في هذا الباب خلال القرن 19.

وعندما عاد الجيل الأول من الدراسة بالشرق، أصبحت عائلات أخرى ترسل أبناءها للدراسة في جامع الأزهر بالقاهرة، أو الاستفادة من التعليم العصري في العراق وسوريا. وكل هؤلاء عادوا إلى المغرب بأفكار جديدة بعد احتكاكهم بقوميين وسلفيين تأثروا كثيرا بميلاد الحركات التحررية في العالم العربي.

وهكذا وُلد النموذج المغربي الذي أسس لأول تيار سلفي في المغرب، قبل ميلاد حركة نهاية ستينيات القرن الماضي التي أدت إلى ميلاد تيار عبد الكريم مطيع الذي انفصل عنه إخوان عبد الإله بنكيران وعبد الله باها وسعد الدين العثماني والآخرين.

عبد الكريم مطيع.. مفتش أشرف على ولادة «إسلاميي» المغرب
جيل الطلبة المغاربة خلال بداية ستينيات القرن الماضي يتذكرون عبد الكريم مطيع بصفته أحد شبان الدار البيضاء الذين ينشطون بقوة داخل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، يساري الهوى والأفكار.

وقد تدرج مطيع جيدا في كوادر الحزب الداخلية خصوصا المرتبطة منها بتكوين النواة الأولى لمهنيي التعليم. إذ كان عبد الكريم مطيع من أوائل الذين زاولوا مهنة التفتيش في المغرب، وكان الحزب يفتخر بأن أطره أصبحت تتحكم في نواة قطاع التعليم في المغرب.

لكن الواقع أن عبد الكريم مطيع سوف يفاجئ الجميع، ويقرر انطلاقا من بداية سبعينيات القرن الماضي، المضي قدما في تجربة مضادة تماما للمسار الذي عرف به في الدار البيضاء.

أبناء سطات تحدثوا عن حياة منفتحة لعبد الكريم مطيع، ولم يصدقوا في البداية أن الرجل نفسه هو الذي صدم الجميع ذات موسم دراسي عندما ظهر مغايرا تماما، حيث أطلق لحيته وأصبح ملتزما دينيا، وسرعان ما حصد إعجاب المحافظين، لينخرط في مشروعه الجديد حيث جمع حوله، رفقة أسماء أخرى في نفس السياق، عددا كبيرا من المتحمسين لميلاد أول حركة إسلامية في المغرب، يطلقها الشباب.

وعكس ما روج له البعض، فإن هذه النواة الأولى لميلاد الحركة الإسلامية في المغرب، لم يكن يربطها أي اتصال مع نواة السلفيين المعتدلين الذين أسسوا للفكر الديني المعاصر في مغرب الاستقلال مثل عبد الهادي بوطالب الذي ساهم بمؤلفات في هذا الباب أو عبد الله كنون وحتى العلامة المختار السوسي.

كان تيار عبد الكريم مطيع مختلفا تماما، حيث تأثر بتجربة الإخوان المسلمين في مصر. إذ إن بعض الحجاج المغاربة، بداية سبعينيات القرن الماضي، لاحظوا استغلال الإخوان المسلمين المصريين لموسم الحج لتوزيع أشرطة ومنشورات تشجع على ميلاد التيارات الإسلامية في الدول العربية والإسلامية. وقد كانت هذه النقطة واحدة من المؤشرات التي ساعدت كثيرا في جمع عبد الكريم مطيع للنواة الأولى المؤسسة لتياره.

لم يعد سرا أن مطيع يتزعم الشبيبة الإسلامية منذ بداية السبعينيات، إذ تم استغلال الفراغ في تأطير الحقل الديني، وأصبحت منابر المساجد فرصة لخطاب جديد يدعو إلى «الصحوة الإسلامية» وسرعان ما أصبح هذا الخطاب الأكثر شعبية خصوصا في المساجد المعروفة في الدار البيضاء، وأصبح المغاربة يتسابقون على تلك الدروس.

لكن النقطة التي فجرت الوعاء الأول لإسلاميي المغرب، كانت اغتيال الصحافي والسياسي اليساري عمر بنجلون سنة 1975. إذ إن تلك العملية أدت إلى فوضى لا تزال تبعاتها مستمرة إلى اليوم. إذ فر على إثرها عبد الكريم مطيع خارج المغرب ولجأ إلى ليبيا والجزائر في البداية، ثم تحرك كثيرا في الشرق قبل أن يستقر في بريطانيا. ولا يزال إلى اليوم يتبرأ من دم عمر بنجلون. بينما يقدم الكثيرون شهادات مفادها أن دروس عبد الكريم مطيع وأشرطته هي التي كانت وراء تحمس الشبان الذين قتلوا عمر بنجلون لكي يتوجهوا إليه ويدخلوا في مشادة معه بسبب مقالاته الصحافية ويتطور الشجار إلى اغتياله.

اللافت في مسار عبد الكريم مطيع أنه لا يزال إلى اليوم يدافع عن أفكاره القديمة التي روج لها في مقالات أو أشرطة ويؤكد أنه لم تكن له يد في اغتيال عمر بنجلون، رغم أن الواقعة كانت وراء مغادرته المغرب قبل أزيد من نصف قرن دون أن يعود، رغم أن جل الذين تحملوا مسؤوليات معه أو إلى جانبه، بل وحتى الذين انشقوا عن «الشبيبة الإسلامية»، أخذوا مسارات أخرى.

الدكتور الخطيب.. الرجل الذي أدخل الإسلاميين إلى السياسة
طالما حاولت أطراف كثيرة أن تصور الدكتور عبد الكريم الخطيب على أنه مهندس دخول الإسلاميين إلى السياسة على اعتبار أنه صديق للملك الراحل الحسن الثاني ورجل ثقة القصر.

لكن الأمر كان أكبر من ذلك بكثير. إذ إن مسار الدكتور الخطيب يكشف بوضوح، سواء من خلال كتاباته أو من خلال شهادات الشخصيات التي تعاملت معه من العالم الإسلامي منذ ستينيات القرن الماضي، أن الرجل كان لديه مشروع سياسي إسلامي منذ القرن الماضي وأنه عمل جاهدا لتنزيله على الأرض.

وحسب مقربين من الدكتور الخطيب، فإنه سبق أن طلب من الملك الحسن الثاني السماح له بالاشتغال على مشروع إدخال الإسلاميين إلى حزبه، لكن الملك الحسن الثاني اعترض وقال للخطيب ما معناه إن الملك سوف يساعده إذا أراد إنشاء «زاوية» وليس حزبا سياسيا. وهذه المعلومة أوردها أحد مرافقي الدكتور الخطيب خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وأحد مهندسي لقاء الخطيب مع عبد الإله بنكيران ورفاقه عندما انشقوا عن عبد الكريم مطيع بعد واقعة اغتيال عمر بنجلون. ويتعلق الأمر بالدكتور محمد وراضي، الذي يعتبر واحدا من الذين سهروا على الاتصالات بين الدكتور الخطيب وعبد الإله بنكيران وعبد الله باها.

هناك وثائق في أرشيف الدكتور الخطيب تؤكد أنه كان مسكونا بالقضية الإسلامية، خصوصا خلال فترة الحرب في أفغانستان وفي عز أزمة القضية الفلسطينية، حيث كان من أوائل من دعوا إلى جمع التبرعات.

لكن السر في عدم وجود اتصال بين الدكتور الخطيب والسلفيين المتشددين وقتها أمثال الشيخ الفيزازي، والذي توجد إلى الآن أشرطة دروسه القديمة التي دعا فيها إلى غزو أوربا وسلب أموال النصارى، هو أن الدكتور الخطيب كان معتدلا ولم يربط أي اتصال مع السلفيين.

وبسبب دعوات الخطيب إلى نصرة القضية الفلسطينية وجمع التبرعات للمجاهدين، تعرض لهجوم سياسي شرس شنه ضده كُتاب مغاربة ومفكرون مثل المؤرخ عبد الكريم الفيلالي. لكن الوقائع أثبتت أن الدكتور الخطيب كان فعلا يسعى إلى إقامة حزب سياسي إسلامي في المغرب، وهو الأمر الذي تأتى له مع اقتراب نهاية التسعينيات حيث أدخل رفاق عبد الإله بنكيران معه في حزبه قبل أن يتم تأسيس حزب العدالة والتنمية.

لكن المتابعين، وبينهم منشقون عن حزب العدالة والتنمية مثل محمد الخالدي، الأمين العام لحزب النهضة والفضيلة حاليا، وآخرين، اتهموا القيادة التي يتزعمها عبد الإله بنكيران وسعد الدين العثماني بالتنكر لمجهودات الدكتور الخطيب والخروج على منهج تأسيس الحزب وذراعه الدعوي، خصوصا مع توالي الفضائح الأخلاقية لبعض المنتمين للحزب والحركة وهو ما أحرج عددا من القيادات. لكن الرصاصة التي أجهزت على المشروع، كانت هي تصريحات عبد الإله بنكيران سنة 2017 عندما نفى عن حزب العدالة والتنمية مرجعيته الإسلامية ملقيا تاريخا بأكمله إلى الظل، وهو ما تسبب في جملة من الاستقالات والانسحابات والانتقادات أيضا، خصوصا في صفوف الذين شهدوا ميلاد الحزب وحضروا دروس عبد الإله بنكيران في المساجد وقرأوا مقالاته ومقالات القياديين الآخرين، وهم يدعون إلى إقامة شرع الله والعودة إلى الدين الإسلامي وإحياء السنة النبوية الشريفة والالتزام بأخلاق الدين الإسلامي في المعاملات.

أشرطة التشدد التي غزت مغرب السبعينيات
سبق وأن تناولنا في «الأخبار» موضوع انتشار الفكر «الإخواني» في المغرب، وكيف أن وزارة الداخلية من جهة، على عهد الدكتور بنهيمة، أيام كان إدريس البصري منتصف السبعينيات لا يزال موظفا في مكاتب الداخلية، ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية من جهة أخرى، قد انتبهوا إلى هذا الأمر وكان موضوع مراسلات انتبهت إليها السفارة الأمريكية في الرباط ما بين فترة 1973 و1982، حيث كان السفير الأمريكي مهتما جدا بمعرفة أسرار العلاقات بين بعض الأسماء من المغرب وأسماء أخرى من الشرق، خصوصا من تنظيم الإخوان المسلمين، ثم لاحقا في حرب أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي، حيث ظهرت في المغرب دعوات إلى الجهاد لمساعدة المسلمين الأفغان للتصدي للعدوان السوفياتي الذي تسبب في مجازر حصدت آلاف الأرواح.

كان هناك تعاطف كبير للإسلاميين المغاربة مع القضية وصل حد جمع التبرعات، ودعوات لاقتناء مجلة كانت تصدر من لندن، لتشجيع جمع التبرعات للأفغان. وكان السفير الأمريكي في الرباط، حسب ما كشفت عنه الوثائق الأمريكية التي رفعت عنها السرية سنة 2012، مهتما بكل تفاصيل الموضوع.

بدأ الفكر الديني الوهابي يغزو المغرب عبر أشرطة «كاسيت» خلال سبعينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى منشورات كان يأتي بها بعض الحجاج المغاربة، سرعان ما وجدت من يتحمس لها، قبل زمن تأسيس الشبيبة الإسلامية التي خرجت منها أسماء كثيرة ساهمت في انقسامات الإسلاميين المحافظين في المغرب، إذ إن فريق عبد الإله بنكيران الذين استهدفهم الدكتور الخطيب لتأسيس حزب العدالة والتنمية نهاية التسعينيات، لم يكونوا في الحقيقة يشكلون إلا فريقا فقط من الفرق التي نتجت عن انقسام شبيبة مطيع بعد اتهامها بالضلوع في قتل المعارض الاتحادي عمر بن جلون.

كان مقتل هذا المعارض الاتحادي سنة 1975 أول ناقوس للخطر يتم دقه، رغم اختلاف الروايات واتهامات للأجهزة السرية سنوات الرصاص بالتورط في العملية واستعمال الأصوليين المتعصبين كغطاء، وهي الرواية التي لا زال الإسلاميون يتمسكون بها إلى اليوم.

كانت هذه العملية أول ناقوس للخطر الذي تسبب فيه الخطاب المتعصب في المنابر. وهذا الأمر اعترف به متشددون تائبون اليوم، حيث أكدوا أن خطب المنابر يوم الجمعة كانت تخطط لثورة على الفقهاء التقليديين، واستبدالهم بعيدا عن ظل وزارة الأوقاف في أواسط السبعينيات، بآخرين يلقون خطبا عن ضرورة الجهاد والدعوة إلى «صحوة» على شاكلة الصحوة التي كانت تتقد في الشرق، خصوصا في المملكة العربية السعودية.

كان من بين مشاهير هؤلاء «الفقهاء» الجدد، عبد الإله بنكيران الذي رغم اشتغاله في التدريس، إلا أن هذا الأمر لم يكن يمنعه من إلقاء خطب الجمعة ودروس في المساجد، كان يحضرها أصدقاؤه الذين من بينهم من صاروا وزراء في حكومته وبعدها أيضا.

الخطاب كان حماسيا ويدعو إلى نصرة المسلمين وقتها في أفغانستان، بالإضافة إلى انتقاد الوضع السائد في المغرب ودعوة المغاربة إلى «العودة» إلى الطريق والالتزام بالسنة. وهو ما أوقع هؤلاء في فخ التشدد وإطلاق الأحكام على بقية المغاربة.

هذا الخطاب وجد متلقين متحمسين في الجامعات المغربية وفي الشارع أيضا، وسرعان ما أصبحت البلاد أمام موجة من المتأثرين بالمد المشرقي، وظهر في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات جيل من المُلتحين المغاربة الذين صاروا يسفهون شيوخ المغرب وكبار علماء القرويين وغيرهم من المعتدلين المغاربة، بالإضافة إلى نساء بلباس مشرقي أو «أفغاني» لم يكن له أي ظهور سابق في المجتمع المغربي. والمثير في الموضوع أن هذا المد الجديد سرعان ما أصبح هو الأصل، وكأن المحافظين المغاربة لم يكن لهم أي وجود في السابق.

لقد بدأ الأمر كله بتوزيع المنشورات والأشرطة، والنتيجة كانت فكرا متشددا كان هو البؤرة الأولى لميلاد «نادي» المتشددين والتكفيريين الذين لا تزال أفكارهم تعشش بيننا إلى اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى