شوف تشوف

الرئيسيةملف التاريخ

ماذا وقع بالضبط في «إكس ليبان» ؟

في مثل هذا الأسبوع قبل 65 سنة.. كواليس ساخرة من المحادثات
«هنا إكس ليبان» هذه الجملة كان يبدأ بها الصحافي محمد بن ددوش مراسلاته في الراديو أثناء تغطيته للمحادثات الشهيرة. الجلسات التي استمرت أسبوعا ما بين 22 و27 غشت 1955، تحولت إلى ما يشبه مسرحية مملة حتى أن خبرا كاد يتسرب إلى الصحافة الفرنسية لتسفيه اللقاءات لولا أن إدغار فور تدخل من خلال مستشاريه لثني الصحافة عن السخرية من كواليس تلك اللقاءات، حيث إن الفرنسيين كانوا يتثاءبون كثيرا خلال الجلسات، بينما كان جل الأعيان المغاربة شاردين وينصرفون فور انتهاء الجلسة إلى دورات المياه وقضوا أغلب وقتهم في التجول في المنطقة السياحية المطلة على بحيرة على الحدود الفرنسية السويسرية.
إدغار فور طلب من، أنطوان بيناي، وزير الخارجية اللقاء مع ممثلي التيارات المغربية. لم يكن الأخير متحمسا نهائيا للقاء المغاربة. راوغ في البداية واعتذر عن اللقاء بالوفد المغربي وقدم مبررا مضحكا. كان قد خطط مع عائلته لقضاء العطلة الصيفية في جزيرة «إكس ليبان». ظن أن رئيسه سيعذره. لكن المفاجأة كانت أنه أخبره باستعداد الوفد المغربي للمجيء عنده إلى مكان عطلته لبدء تلك المحادثات. ولم يجد وزير الخارجية إذن بُدا من الموافقة!

العطلة الصيفية التي «بللت» الأوراق بدموع ابن عرفة
كان اسم ابن عرفة هدفا لسخرية كبيرة في غشت 1955. ليس بسبب توالي محاولات الخلايا السرية الاعتداء على الموالين له واستهداف موكبه شخصيا في أكثر من مناسبة فحسب، وإنما أيضا بسبب خبر الاستغناء عنه من طرف الإقامة العامة الفرنسية.
كان المقيم العام الفرنسي في المغرب، «غيلبرت غراندفال»، قد وضع مقترحا للاستغناء عن ابن عرفة، ليس استجابة للضغوط السياسية التي مارستها الحركة الوطنية رغم نفي جل قادتها وإبعادهم عن الرباط، وإنما كان الهاجس أمنيا بالأساس. فقد كانت التقارير السرية التي ترفع له، تؤكد أن ارتفاع الاغتيالات والعمليات والتفجيرات في مدن المغرب وقراه، سببها الأساس هو الغضب الشعبي على نفي الملك محمد الخامس وتعويضه بابن عرفة.
تخلى الباشا الكلاوي عن ابن عرفة رغم أنه كان وراء توريطه في تلك المعمعة، فتسلمه السلطة تم فوق مكتب الباشا في إقامته بمراكش.
اقترح المقيم العام أيضا تقريب الملك محمد الخامس من المغرب عبر نقل العائلة الملكية إلى فرنسا، لامتصاص الغضب العارم في الشوارع. وهو ما تم الخروج به كأبرز قرار لمحادثات «إكس ليبان» لاحقا.
المثير أيضا أن خطة لتنصيب حكومة مغربية، كانت من بين نقط خطة المقيم العام. وقد ابتلع مغاربة الإهانة، وعلى رأسهم الفاطمي بنسليمان الذي كان ينحدر من أسرة عريقة في خدمة المخزن. وشارك في مشاورات قادها الباشا الكلاوي بنية إخراج المغرب من الأزمة وقيادة الحكومة الموعودة.
الفاطمي بنسليمان وجد الطريق معبدا أمامه ليجلس في كرسي الوزارة، ولم تكن بينه وبين الحاج المقري الذي كان صدرا أعظم، أي عداوة تبعده عن المنصب. إلا أن اختياره السياسي بعد نفي محمد الخامس، ليصطف إلى جانب الموقعين على ترحيله خارج المغرب واختيار خليفة مكانه، جعله يضع نهاية مساره بنفسه. غاب عن الفاطمي بنسليمان، الذي لم يكن مجرد وزير وإنما صانع قرار في دواليب الدولة، إمكانية عودة محمد الخامس إلى العرش، وكان قد غامر باسمه عندما تم اقتراحه رفقة أصدقائه، ومنهم الكتاني والمقري وآخرون، ليكون مشاركا في الحكومة التي كان مخططا تأسيسها في بداية الخمسينات، وكان الفاطمي بنسليمان قد تلقى ضمانات من أصدقائه ليكون على رأسها، لكن الخطة لم تتم، بسبب الضغوطات التي وجدها هؤلاء أمامهم وبداية تشكل الوعي السياسي في المغرب، لتتطور الأحداث وتقرر فرنسا طي الموضوع ورضخت لضغط الشارع والحركة الوطنية وعاد الملك الراحل محمد الخامس من المنفى. لكن مكانة الفاطمي بنسليمان لديه بقيت محفوظة بل وتقوت بعد الاستقلال.
فقد كان المحيطون بالملك محمد الخامس يعرفون أن مسألة مجلس الوصاية على العرش، كان أمرا حتميا وأول خطوات الانتصار، لأن تأسيسه كان أكبر دليل على فشل مخطط تنصيب سلطان آخر مكان محمد بن يوسف.
حزن ابن عرفة إذن في تلك الأيام من غشت 1955 (من 22 إلى 27) ففي الوقت الذي كانت فيه محادثات «إكس ليبان» على قدم وساق، كان هو يجمع أنفاسه في مدينة طنجة استعدادا لمغادرة المغرب نهائيا، خصوصا وأن أحداث شتنبر من تلك السنة كانت أليمة، ومؤكدة على ضرورة البحث عن حل بدايته رحيل ابن عرفة.

مشاركون ذهبوا إلى مدغشقر ليخبروا محمد الخامس بأخبار يعرفها مسبقا من الراديو!
نقل عن عبد الرحيم بوعبيد الجملة التي قالها له رئيس الحكومة الفرنسي إدغار فور، عندما أكد له بوعبيد أن الحركة الوطنية ترفض أي تفاوض مع فرنسا إلا إذا تم الحسم في نقطة عودة محمد بن يوسف من المنفى. وقتها قال إدغار فور: «لم أكن أعلم أنكم تقدسون السلطان إلى هذه الدرجة».
عندما انتهت أيام محادثات «إكس ليبان» التي عارضها بشدة علال الفاسي الذي كان بدوره يجتر مرارة المنفى ويدعو من القاهرة إلى عدم التنازل عن رمزية محمد بن يوسف بالنسبة للمغرب، توجه وفد ممن حضروا في «إكس ليبان» إلى مدغشقر لكي يخبروا السلطان شخصيا بما خلصوا إليه.
والحقيقة أنهم لم يخلصوا إلى أي شيء، وإنما فقط تم التأشير على المقترحات التي تقدم بها المقيم العام، الذي رمى استقالته للرئاسة احتجاجا على المحادثات. النقط التي تم التأشير عليها كانت مزيجا من اقتراحات المقيم العام الغاضب وتصور إدغار فور. لكن نقطة عودة محمد بن يوسف من المنفى، جاءت بعد المحادثات، بعدما تأكد لهم أن كل الحلول مستحيلة ما دام محمد الخامس سيبقى خارج المغرب.
عندما توجه الوفد لإخبار السلطان بأمر المفاوضات، كان الأمر أشبه بمضيعة للوقت، لأنه كان يعلم بكل مضامين اللقاءات.
سمعها على الراديو، خصوصا وأن «راديو المغرب» الذي كانت تتحكم فيه فرنسا، بث مضامين اللقاءات، كما أن راديو فرنسا بدوره اشتغل على الموضوع ونقل ما كتبته الصحف من كواليس لم تكن كلها إيجابية.
بالإضافة إلى تقرير أعده المهدي بن بركة واطلع عليه علال الفاسي، حيث تم نقل الرسالة شفهيا إلى الملك الراحل من خلال وسطاء الحركة الوطنية الذين كان بعضهم على اتصال بالسلطان في منفاه ومع ولي العهد أيضا.
كان المنظر «كاريكاتوريا» خصوصا وأن أولئك الأعيان الممثلين للنخب المخزنية سابقا، المؤيدة لابن عرفة، كانوا يحاولون الفوز بعفو السلطان المنفي بعدما تأكد لهم أن عودته مسألة وقت فقط، خصوصا وأن الفرنسيين وافقوا على إنهاء المنفى في مدغشقر وانتقال العائلة الملكية إلى باريس.
كان هناك اقتراح آخر، فرنسي أيضا، يقضي بانتقال الأسرة الملكية إلى مدينة نيس للإقامة بها. لكن عبد الرحيم بوعبيد الذي كان في فرنسا وقتها، أخبر رئيس الوزراء باستحالة الموافقة على هذا الوضع، وأن الحل الوحيد هو عودة السلطان محمد بن يوسف إلى الرباط وليس إلى أي مكان آخر.
حدث هذا في الوقت الذي كان فيه أعضاء الوفد الرسمي يهرولون إلى مدغشقر لإخبار السلطان بمعلومات كان يعرفها مسبقا، بل وكان يعرف أيضا مستجدات أخرى غابت عن الوفد عندما كان في طريقه إلى الجزيرة.

«إكس ليبان»: هرب إليها وزير الخارجية لقضاء عطلة والوفد المغربي تبعه
لماذا «إكس ليبان» السياحية وليس أي مكان آخر؟ ألم يكن المقيم العام في المغرب يدعو إلى إحلال مجلس وصاية على العرش وخلق حكومة مغربية من أصحاب الجلابيب لكي تتفاوض معها فرنسا؟ كان الأجدر إذن أن يتم اللقاء في باريس أو في الرباط، حتى يتسنى لممثلي الحكومة الفرنسية لقاء مختلف الفرق التي تؤثر في الرأي العام للشارع المغربي، وحتى في شعبية القرارات السياسية التي تطبخها فرنسا، تماما مثلما حدث مع قرار نفي الملك الراحل محمد الخامس والذي حشد له أتباع يمثلون الأقلية، لكن القرار طُبق دون تأخير في غشت سنة 1953، في سياق مختلف تماما عن سياق محادثات «إكس ليبان» التي جاءت محاولة لحل الاحتقان غير المسبوق للأوضاع في المغرب.
الجواب على السؤال يقتضي العودة إلى شخصية رئيس الوزراء، إدغار فور، الذي كان مُرحبا باقتراح الإصغاء إلى آراء السياسيين المغاربة والأعيان وممثلي مكونات المجتمع المغربي بشكل عام.
كانت التقارير السرية التي ترفع إلى الحكومة الفرنسية تقول إن الإقامة العامة في الرباط، منذ صيف 1953، تواجه أعمالا إرهابية غير مسبوقة واستهدافا للفرنسيين مواطنين ورجال أمن بالرصاص الحي الذي يطلقه أعضاء الخلايا السرية في كل اتجاه. بل إن تلك الاغتيالات طالت الأعيان المغاربة الموالين لفرنسا من مترجمين وباشاوات وقياد.
هذه المعطيات كان يُنتظر أن تجعل إدغار فور يؤيد خطة المقيم العام الفرنسي في الرباط، «غيلبرت غراندفال» التي رمت إلى إبعاد بن عرفة لتهدئة الشارع المغربي، وتعيين حكومة مغربية جديدة للتحكم بها، والأهم، إقصاء السياسيين التابعين للحركة الوطنية تماما من أي نشاط سياسي في تلك الحكومة مع تعيين مجلس وصاية على العرش. لكن الواقع أن إدغار فور طلب من وزير الخارجية اللقاء مع ممثلي التيارات المغربية.
وزير الخارجية الفرنسي أنطوان بيناي لم يكن متحمسا نهائيا للقاء المغاربة. راوغ في البداية واعتذر عن اللقاء بالوفد المغربي وقدم مبررا مضحكا. كان قد خطط مع عائلته لقضاء العطلة الصيفية في جزيرة «إكس ليبان». ظن أن رئيسه سيعذره. لكن المفاجأة كانت أنه أخبره باستعداد الوفد المغربي للمجيء عنده إلى مكان عطلته لبدء تلك المحادثات. ولم يجد وزير الخارجية إذن بُدا من الموافقة!

المقيم العام الفرنسي استقال احتجاجا على المحادثات
في الصور، يظهر المقيم العام الفرنسي «غراندفال»، غير راض عن أوضاع مغرب سنة 1954. هذا المقيم العام الذي كان يعتبر المقاومة المغربية منظمة إرهابية، وفي فترة اشتغاله في المغرب سجلت أكثر حالات نفي السياسيين المغاربة والتضييق عليهم، كان وراء اقتراح إبعاد ابن عرفة عن العرش، لحل الأزمة المغربية على طريقته.
صنفه الباحثون الفرنسيون على أنه أحد أبرز مهندسي «صد» الحركات التحررية التي تنامت وتعالى صوتها في شمال إفريقيا. وكانت سياسته صادمة، خصوصا وأن الأنباء وقتها كانت تقول إن فرنسا تريد بدء صفحة جديدة مع المغرب بعد انتهاء مرحلة المقيم العام السابق، السيد لاكوست، الذي كان بخلفية تميل للاستماع لكلام العسكريين أكثر من الساسة، ثم تبعه أوغوستين ويليام، وكان أبرز إنجاز له نفي الملك الراحل محمد الخامس وإدخال البلاد في حمام دام سقط خلاله آلاف الفرنسيين الذين كانوا يعيشون في المغرب.
لكن مع المقيم العام «غراندفال» كان يُتوقع أن تصبح الأمور أكثر مرونة، لكن الأخير صدم الجميع عندما طرح خطة أخرى تقوم أساسا على إعفاء ابن عرفة وإحداث مجلس وصاية على العرش، وحشد موافقة الأعيان المغاربة الذين كان يتزعمهم الباشا الكلاوي.
كان المقيم العام يريد أيضا إقامة حكومة جديدة، كان يتشاور مع الباشا بشأن تنصيب وزير أول لها، وكان الاختلاف وقتها حول كل من الفاطمي بن سليمان، الذي كان باشا في عهد الملك الراحل محمد الخامس، وعبد الحي الكتاني الذي كان زاهدا في المنصب، لكنه كان إلى جانب فريق الباشا الكلاوي الذي وافق منذ البداية على نفي الملك الراحل محمد الخامس وتنصيب ابن عرفة.
لكن أكثر ما فتح الحرب ضد المقيم العام «غراندفال» من طرف الوطنيين، كان يتعلق أساسا بفكرته الرامية إلى إحداث مجلس وصاية على العرش، بينما كان الشارع المغربي، ممثلا في الحركة الوطنية وحتى الخلايا السرية المسلحة للمقاومة تدعو إلى ضرورة عودة الملك محمد الخامس من المنفى ورفض كل الحلول الأخرى البديلة.
عودة السلطان الشرعي كانت أكثر من شرط، بل مبدءا لدى مكونات الحركة الوطنية، وهو ما زاد من احتدام العلاقة مع المقيم العام.
هذا الأخير لم يكن يملك إلا أن يعارض فكرة باريس الرامية إلى استماع وزير الخارجية الفرنسية أنطوان بيناي لممثلين لمختلف الاتجاهات في المغرب، باستثناء أعضاء المقاومة المسلحة بطبيعة الحال، فقد كانوا بالنسبة لفرنسا أعضاء مجموعات إرهابية لا يمكن التحاور معهم.
ما وقع أن باريس دعمت الفكرة، وقاد رئيس الوزراء الفرنسي إدغار فور، مبادرة دعوة وزير الخارجية الفرنسي، أنطوان بيناي، إلى الجلوس مع الوفد المغربي المكون من أعضاء من الحركة الوطنية بالإضافة إلى الأعيان المغاربة من الموالين للسلطات الفرنسية في المغرب.
الوفد المغربي، المكون من المهدي بن بركة عن حزب الاستقلال ومحمد اليزيدي الذي ترأس وفد الحزب نيابة عن علال الفاسي، مبارك البكاي ممثلا لشخصيات مستقلة، وأعيان مغاربة من أنصار ابن عرفة، بالإضافة إلى ممثلين للطائفة اليهودية في المغرب، كان يستعد للسفر، في الأسبوع الثاني من شهر غشت 1955، بينما كان المقيم العام «غراندفال» قد وضع استقالته احتجاجا على تفعيل المحادثات، لأنه ببساطة كان يرفض الحوار أساسا مع ممثلي الحركة الوطنية.

طرائف من قلب القاعة المغلقة..
كان المهدي بن بركة كلما تذكر أجواء محادثات «إكس ليبان» إلا وعض أصابع الندم على المشاركة فيها. لقد كان ضحية لفخ كبير كان السبب الرئيسي فيه ثقته الزائدة بالتقارير التي صاغها حزب الاستقلال والتي توقع فيها أن يمارس الحزب ضغطا كبيرا في تلك المحادثات التي خطط بن بركة لإدارتها على طريقة المفاوضات الساخنة.
لكن المفاجأة أن المهدي بن بركة، الذي كان يعرف جيدا وزراء فرنسيين وأعضاء قياديين في الأحزاب الفرنسية، اكتشف أنه ضحية مؤامرة داخلية من أغلب المشاركين، خصوصا التيار الذي مثل الأعيان.
هذا التيار كان يسير بأوامر الباشا الكلاوي، وكانوا على اتفاق مسبق مع الفرنسيين. وهكذا وجد المهدي بن بركة نفسه محاصرا في تلك القاعة لا يستطيع طرح أي نقطة من شأنها تسجيل النقط ضد وزير الخارجية.
وتحولت الجلسات التي استمرت أسبوعا ما بين 22 و27 غشت 1955، إلى ما يشبه مسرحية مملة حتى أن خبرا كاد يتسرب إلى الصحافة الفرنسية لتسفيه اللقاءات لولا أن إدغار فور تدخل من خلال مستشاريه لثني الصحافة عن السخرية من كواليس تلك اللقاءات،
حيث إن الفرنسيين كانوا يتثاءبون كثيرا خلال الجلسات، بينما كان جل الأعيان المغاربة شاردين وينصرفون فور انتهاء الجلسة إلى دورات المياه وقضوا أغلب وقتهم في التجول في المنطقة السياحية المطلة على بحيرة على الحدود الفرنسية السويسرية.
وحسب ما تم تناقله على لسان أصدقاء المهدي بن بركة لاحقا، فإن الحاضرين كانوا منشغلين بأمور أخرى غير التأثير في وزير الخارجية الفرنسي، بل كانوا جزءا من الأزمة، وكان ممثلو حزب الاستقلال وحزب الشورى، أمام معضلة كبيرة تتمثل في الجمود الكبير لبقية أعضاء الوفد، خصوصا وأنهم كانوا لا يقبلون عقد أي لقاء مع أعضاء الحركة الوطنية في الفندق الذي خصص لاستقبال الأعضاء المغاربة.
بعض المنتمين لفريق الأعيان، كانت تلك المرة الأولى بالنسبة لهم في فرنسا. كانوا يسمعون عنها من أحاديث الباشا الكلاوي والصور التي تنشر لجولاته خصوصا في باريس ولندن. كانت التجربة الأوربية جديدة على هؤلاء، ومنهم من كان ينتظر بحرقة لحظة انتهاء المحادثات في قاعة الفندق لكي ينصرف إلى الشوارع الكبرى والبحث في واجهات المحلات الزجاجية عن هدايا ثمينة وتذكارات للعائلة. خصوصا وأن هؤلاء الأعيان المغاربة كانت ثروتهم تقدر بملايين الفرنكات الفرنسية، وتم اختيارهم ليكونوا نخبة الأعيان المغاربة، على هذا الأساس.
لقد استغرق الأمر من المهدي بن بركة أياما طويلة لكي يستوعب «المقلب» الذي تعرض له، إذ لم يتمكن أبدا من الدفاع عن وجهة نظره ولا عن تصور الحزب بالنسبة لمفاوضات مقبلة مع فرنسا ومستقبل المغرب السياسي باستقلال أو بدونه.
حتى أن المقولة الشهيرة التي انتشرت للمهدي بن بركة معلقا على تعيين أول حكومة مغربية بعد الاستقلال، وربطها بنتائج محادثات «إكس ليبان» كانت على قدر كبير من العمق، ولخصت كل شيء بخصوص ما وقع.
فات ممثلي الحركة الوطنية أن يفرضوا تصورهم للسيناريوهات المقبلة، وبقي الأعيان المغاربة يمثلون الطرف الأقوى، والذي تمثلت سياسته في التخلي عن ابن عرفة والبحث عن شخصية أخرى غيره لكي تحترق، وتعيين أصدقاءهم في حكومة مغربية.
كانت الصحافة الفرنسية قد اهتمت بتلك المحادثات، وتحدثت صحف المعارضة عن هروب وزير الخارجية نحو المنتجع في «إكس ليبان» للاستجمام، ولحاق الوفد المغربي به. وهو ما أثار غضب رئيس الوزراء الفرنسي «إدغار فور»، خصوصا وأن الصحافة المعارضة تناولت خبر معارضة علال الفاسي لتلك المحادثات ورفضه مبدأ الجلوس مع الحكومة الفرنسية لأي نقاش إلا بعد إعادة الملك محمد الخامس إلى المغرب.
من طرائف ما روي أيضا عن محادثات «إكس ليبان» أن الأعيان المغاربة حاولوا التسويق لها على أنها مفاوضات مع فرنسا لتهدئة الشارع المغربي، لكن ما وقع كان مخالفا لتلك التوقعات، وصدرت منشورات سرية ترفض الوضع بل وصنف الحاضرون فيها خونة، خصوصا وأن المكان الذي تم اختياره لعقدها صيفا، أي أثناء العطلة الحكومية، كان مثيرا للسخرية، وتناقل المغاربة بسخرية تساؤلات عما إذا كان أصحاب الجلابيب، يقصدون الأعيان من أصدقاء الباشا الكلاوي، يستطيعون السباحة في البحيرة الشهيرة هناك، دون نزع جلابيبهم.

«مجموعة شتنبر».. أبرياء حوكموا وقُتل أغلبهم لأنهم احتجوا ضد المحادثات
يقول الحسن المانوزي في مذكراته التي صدرت السنة الماضية، والتي أرّخ فيها لكواليس مثيرة لاشتغال الخلايا السرية في الدار البيضاء وكيف تم قيادة مظاهرات احتجاجا على «إكس ليبان»:
«في مارس 1955 اعتقل الفكيكي والتجأ بوشعيب الدكالي والمدني المغراني وسعيد المانوزي وعباس المسعدي إلى منطقة الاحتلال الإسباني وأعلن الإعلام الاستعماري نهاية الإرهاب.
كانت السلطات الاستعمارية صارمة وحريصة على القضاء النهائي على المقاومين وتفكيك هذه الشبكات من المقاومة المسلحة الحضرية. وكانت أغلبية الأحكام الصادرة في حقهم عبارة عن أحكام إعدام. جرى تنفيذ أغلبيتها الساحقة. والغريب في الأمر أن المحاكمات وإصدار الأحكام وتنفيذها قد جرى في الفترة ما بعد انطلاق مشاورات إكس ليبان 20 غشت 1955».
الأحداث التي دارت على الأرض، كان الهدف منها ليس فقط تضييق الخناق على الإرادة الشعبية، وإنما ارتكاب مجازر إنسانية ضد المقاومين المغاربة. ويزكي أقوال الحسن المانوزي في هذه الفترة من التاريخ، بعض الإشارات القليلة، بحكم أن جل الجرائم المرتكبة ضد المغاربة في 1955، حاول الإعلام الفرنسي في المغرب ألا يوثقها، لكنها بقيت مسجلة في الأرشيف الرسمي للدولة الفرنسية والذي رفعت عنه السرية بفعل التقادم، واطلع عليه باحثون أصيبوا بالذهول عند مطالعة بعض تفاصيله.
كانوا ينظمون إضرابات احتجاجا على مجموعة من الأحداث. فإذا كان المقاومون يلجؤون إلى رد فعل عنيف وإلى تخطيط يردون به على اعتقالات فرنسا وتجاوزات الجيش في فرض بنود معاهدة الحماية، فإن الحرفيين كانوا يلجؤون إلى طريقة «الإضراب» رغم أن المغرب وقتها لم يكن قد شهد بعد تنظيما نقابيا رسميا.
برز تيار وطني بعد “إكس ليبان”، يعتبر أن جلوس بعض العينات السياسية والأعيان مع السلطة الفرنسية إلى طاولة واحدة يبقى «خيانة» للمغرب. وهكذا قرروا الرد بطريقتهم على فرنسا، وجرت خطة واسعة لشن ضربات متلاحقة تقرر أن تستهدف ميناء الدار البيضاء وفيلات يقطنها ملحقون عسكريون فرنسيون في المغرب، اشتهروا بتورطهم في مقتل آلاف المواطنين المغاربة من الأربعينات، في إطار العمليات العسكرية في منطقة الأطلس.
فشلت الخطة بعد أن ألقي القبض على بعض المنخرطين في العملية، وألقي عليهم القبض في نقطة تفتيش طرقية من طرف رجال الدرك الفرنسي بعد أن اشتبهوا في حمولة شاحنة صغيرة، ليطلبوا من السائق فتح الغطاء بالقوة. وعندما رفض الامتثال للأمر، تحولت النقطة الأمنية للدرك إلى مسرح معركة صغيرة بين السائق و3 مرافقين له، وخمسة من رجال الدرك، وتم اعتقال المقاومين الأربعة وفتشت العربة ليجد الدركيون أنها محملة ببعض قطع السلاح ومواد متفجرة. واعترفوا تحت التعذيب في مخفر الدرك بالوجهة التي كانوا ينقلون إليها الحمولة، وهكذا تم اعتقال بعض أصدقائهم أيضا.
ومع بداية شهر شتنبر، كان مخططا أن تتم محاكمتهم بتهمة الإعداد لعملية «إرهابية» خطيرة. كل هذا وهم يؤكدون موقفهم العدائي من الوجود الفرنسي في المغرب، ويعيدون في المحضر جملة «محاربة فرنسا» حتى الرمق الأخير.
لم يتم تسليط الضوء كثيرا على محاكمة هذه المجموعة في شهر شتنبر. وللأسف، لم تتوفر بقية المحاضر المرتبطة بهذا الموضوع. لكن الأرجح أن البت في القضية انتهى بإصدار الأحكام، خصوصا وأن محمد الخامس مباشرة بعد عودته من المنفى دعا إلى إطلاق سراح الأحياء منهم.
بينما مات آخرون بالرصاص في الشوارع في عدد من المدن المغربية، التي اشتعلت احتجاجا على تلك المحادثات التي سُميت أيضا «المفاوضات» رغم أنها لم تكن كذلك في الحقيقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى