
تصريحات الرئيس الفرنسي بشأن الإسلام وإصراره على الدفاع عن الحق في استفزاز مشاعر مليار ونصف مليار مسلم عبر العالم لا يمكن سوى أن تثير لدينا كمسلمين مشاعر السخط والاستنكار.
وما عبر عنه المغرب عن طريق بلاغ وزارة الخارجية هو عين الدبلوماسية، إذ عبر عن رفضه للإصرار على نشر الرسوم المسيئة كما عبر عن شجبه للجرائم التي يقترفها بعض المنتسبين للإسلام باسم الإسلام والمسلمين، دون أن يسمي فرنسا، وليس مثل ما صنع الرئيس التركي الذي وصل إلى حد اتهام رئيس فرنسا بالجنون، وهو موقف متشنج لا يليق برؤساء الدول.
البعض طالب بمقاطعة المنتجات الفرنسية عقابًا لماكرون على مواقفه، طبعا تكفي متابعة المنصات الرقمية الممولة من قطر وتركيا لكي نفهم أن فكرة المقاطعة تتعدى الأسباب الدينية العاطفية، وتتعلق أساسًا بدوافع اقتصادية واستراتيجية تتصارع حولها فرنسا وتركيا في أكثر من رقعة على الخريطة.
وليس عبثًا أن باريس استدعت سفيرها في أنقرة بعدما طلب أردوغان من ماكرون التأكد من سلامته العقلية، فأصدر الإليزي تصريحا أمهل فيه أردوغان شهرين بالتمام لتغيير مواقفه بما يضع حداً لـ”مغامراته الخطيرة” في شرق المتوسط و”سلوكه غير المسؤول” في ناغورني قره باغ، مما يعني أن الصراع سببه مصالح جيواستراتيجية وأن الإسلام مجرد ذريعة لدى الطرفين.
بالنسبة إلينا في المغرب فقد شعر الجميع بحجم الألم والضرر الذي تسببت فيه تصريحات ماكرون، فبقدر ما ندين ونستنكر الأفعال الوحشية الفردية المعزولة التي يقترفها بعض المنتسبين إلى الإسلام باسم الدين بقدر ما ندين ونستنكر رغبة البعض في تحميل الإسلام وجميع المسلمين وزر ما اقترفته أيادي هؤلاء الجهلة.
أن تقاطع قطر أو تركيا أو الكويت منتجات فرنسا فهذا لن يضر اقتصاديات هذه الدول في شيء، لأن معاملاتها التجارية مع فرنسا ليست ذات قيمة. بالنسبة إلى المغرب الأمر يختلف، فرنسا هي ثاني أكبر شريك تجاري للمغرب وراء إسبانيا، وهي ثاني أكبر زبون للمملكة وثاني مصدر لها وأول مستثمر أجنبي فيها.
لذلك فقبل أن ينساق بعض أتباع أردوغان عندنا في المغرب وراء حربه التجارية ضد فرنسا عليهم أن يضعوا في حسابهم احتمال معاملة الفرنسيين لمنتجاتنا بالمثل، آنذاك سيكون علينا أن نبحث عمن يشتري منا منتجاتنا الفلاحية وبقية الأشياء التي نصدر إلى فرنسا.
عندما تريد أن ترفع شعار مقاطعة المنتجات الفرنسية احتجاجا على تصريحات الرئيس الفرنسي بخصوص الإسلام يجب أن تكون قد حققت الاكتفاء الذاتي الذي يجعلك في غنى عن فرنسا ومنتجاتها.
أنت تفطر بحليب فرنسي تنتجه شركة Centrale Laitière، وتركب للذهاب إلى عملك ترامواي من صنع شركة فرنسية اسمها Alstom تديره شركة فرنسية اسمها RATP، وتستعمل ماء شروبا وتنير بيتك بتيار كهربائي تبيعك إياه بسعر باهظ شركة فرنسية اسمها Lydec يتلكأ مجلس مدينتك المنتخب منذ خمس سنوات في مراجعة بنود العقد الذي بموجبه تنهب الشركة الفرنسية جيوبك كل شهر، وعندما تريد أن تخرج في المساء للقاء حبيبتك في مقهى Paul الفرنسي تتصل بها مستعملًا شبكة شركة Orange الفرنسية وترش إبطيك بعطر فرنسي، وعندما تجلس في المقهى تطلب الكرواسون الفرنسي وتجد راحتك في التعبير عن مشاعرك لحبيبتك بالفرنسية أكثر من أية لغة أخرى. وعندما تهم بمغادرة المقهى تدفع للنادل ببطاقة بنك SGMB فرع البنك الفرنسي la Société Générale، أو بطاقة BMCI فرع بنك Paris bas الفرنسي، أو بطاقة CREDIT DU MAROC فرع بنك LCL الفرنسي، وقبل أن تعود إلى البيت تعرج على محطة Total الفرنسية لملء خزان سيارتك بالبنزين.
يلا فيك ما يقاطع هادو كاملين تفضل، ويلا ما قادرش تكمش، واش هيا بقات فتقاطع la vache qui rit كيما دارو خوتنا فالكويت؟
ثم إن هذه ليست هي المرة الأولى التي نسمع فيها عن حملة مقاطعة منتجات دولة انتصارا لقضية عادلة. دعا العرب إلى مقاطعة إسرائيل ومنتجاتها بسبب جرائم الاحتلال، وبعد عشرين سنة من هذه الدعوة زادت صادرات إسرائيل نحو بلدان العرب بعشرات المرات.
دعا العرب إلى مقاطعة أمريكا ومنتجاتها بسبب احتلالها للعراق، وبعد عشرين سنة صار العرب أكثر إقبالًا على الفاست فود الأمريكي والكوكاكولا وأصبحوا أكثر سمنة من الأمريكيين أنفسهم.
دعا العرب إلى مقاطعة الدنمارك والسويد والنرويج ومنتجاتها بسبب نشر صحفها لرسومات مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد عشرين سنة صار منتهى ما يحلم به العربي هو العيش في واحدة من هذه الدول التي تحتل سنويا مقدمة الترتيب في قائمة البلدان الأكثر احتراما لشعوبها.
من حق قطر وتركيا أن تقودا حملة لمقاطعة المنتجات الفرنسية لأن ماكرون قرر إغلاق المؤسسات الإسلامية الممولة من طرف أنقرة والدوحة، والتي بدأت تتقوى داخل فرنسا بعدما انحسرت موجة الدعم الذي كانت تقدمه المملكة العربية السعودية للجمعيات والمنظمات التي كانت ترعى وتنشر الإسلام الوهابي داخل المساجد والأحياء الهامشية حيث يقطن العرب والمسلمون.
فرنسا وتركيا لديهما حسابات ومصالح في ليبيا وسوريا وحوض البحر المتوسط، ماكرون يريد تحجيم وتقزيم الإسلام السياسي التركي في فرنسا المدعوم بالمال القطري، وأردوغان يريد إعادة بلده إلى موقعه الريادي ويريد أن يسوق عن نفسه صورة الخليفة الذي ينصر الإسلام ويعلي رايته في بلدان النصارى.
هذا صراع مصالح بين دول تمارس لعبة لي الأذرع، ومن لا يفهمون هذه الخلفية ينساقون بعفوية وراء الخطابات الرنانة التي تدغدغ عاطفتهم الدينية.
الإسلام ليس في حاجة إلى غضبكم وبصاق صرخاتكم المتناثر من أفواهكم في المظاهرات والمسيرات، الإسلام في حاجة إلى عقولكم وأفكاركم ونور قلوبكم وصلابة إيمانكم بعدالة قضيتكم، هذا ما يحتاجه الإسلام منكم، أما الزعيق والصراخ والضجيج فالجميع يستطيع القيام به.
المقاطعة هي أن نحقق الاكتفاء الذاتي في كل شيء، وأن نمتلك السيادة على مناهجنا التربوية لكي نصنع جيلًا لديه هوية وجذور ومستقبل.
المقاطعة الحقيقية هي أن تقاطع الجهل بحقيقة الأمور والأمية السياسية والتبعية العمياء.

