شوف تشوف

الرأي

إنما الأمم أغانيها إن ذهبت!

انتهت سيدة الطرب العربي أم كلثوم من أداء أغانيها، على غير التصفيقات التي اعتادتها. وصادف أنها مكثت أطول وقت فوق الخشبة وأعادت مقاطع من إحدى روائعها مرات عديدة.
لم تكن أم كلثوم تلتفت إلى الوراء، وهي في أوج الانسجام. كانت تكتفي بشد منديلها بقوة، فيدرك عازفو الموسيقى أنها ستردد المقطع. وقد سئلت يوما عن السر وراء احتفاظها بمنديلها في يدها أثناء الغناء، فأجابت بأنه يمنحها شحنات تبقي عليها واقفة في مكانها لا تتمايل. فهم سائلها أنها تغمز بطريقة مهذبة لجهة المطربات المتمايلات اللواتي كان عددهن قليلا في تلك الفترة.
أي قامة تستطيع الصمود أمام الأهرامات الثلاثة: محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش، وقد غطت أم كلثوم على مطربات جيلها اللواتي كانت تقدرهن أمثال نجاة الصغيرة وأسمهان. ولعل السر في منديلها أنه كان يحجب عنها شرور العيون الحاسدة، كما قالت في إحدى المرات، قبل أن تعاود النظر في الوصف، موضحة أن الغناء مثل الأرزاق تفضل بعضها على بعض، وينعم غير الحاسدين بالقناعة والحمد والشكر.
لماذا إذن كانت سيدة الطرب تلتفت قليلا إلى الوراء؟ في حكاية أنها كانت تبادل عازف القانون عبد الوهاب العواشري تحيات تقدير. فقد سحرتها أنامله التي كانت تعزف في مثل كتابة قصيدة رائعة، وأدرك الفنان المغربي الذي اشتهر من بين عازفي الجوق الملكي أن العزف في حضرة كبار المطربات والمطربين يرقى درجات، تماما كما ينزل إلى أسفل الدرج مع المبتدئين أو الأشباه الذين يزعقون ولا يطربون.
كانت التصفيقات التي تخللت وقائع الحفل حارة وكثيفة، على رغم أن عدد الحضور كان قليلا اختير بانتقائية تناسب طقوس حفلات القصر الملكي. وكان الراحل الحسن الثاني أول من ينجذب إلى تحية سيدة الغناء الذي يضفي حضورها هالة من التقدير على صورة الطرب الأصيل. ولم يفته أن يلحظ كيف كانت أم كلثوم تلتفت إلى جهة عازف القانون المغربي.
من تفاصيل الحفل الذي أقيم في القصر الملكي في مراكش، أن أم كلثوم استأذنت الملك الراحل في أن تنقل معها إلى القاهرة هدية ثمينة من المغرب. وفي لحظة صدق وانبهار أسرت له بالقول إن الهدية تخص التحاق عازف العود المغربي عبد الوهاب العواشري بجوقها السمفوني. رد الحسن الثاني بأنه لا يستطيع أن يقرر في أي نوع وأي مستوى من الغناء يهفو إليه، لكن هذه المسألة تبقى من اختصاص العازف ذاته. فالفنانون أحرار في اختيار رفقتهم.
روى لي أحد أبناء العازف الراحل أن الحسن الثاني، الذي كان يقدر والده كثيرا، اقترح عليه الذهاب إلى القاهرة، وأشفع ذلك بأنه سيحتفظ براتبه الوظيفي في الجوق الملكي. كان الاختيار صعبا، ورد العواشري بأنه لا يمكن أن يرفض طلبا للملك الراحل، لأن ذلك أمر يتعين تنفيذه في الحال، إلا أنه يفضل أن ينهي حياته الفنية داخل المغرب.
من بين ما سمعته من تفاصيل أن أحدهم شبه هجرة الفنانين المغاربة إلى القاهرة، بأنها مثل تجارب لاعبي كرة القدم الذين كانت تستعيرهم فرق أجنبية كبيرة في إسبانيا وفرنسا. كانوا يبرعون في الأداء، وحين يعودون إلى بلادهم تكون فترة ذروة عطائهم قد نامت بالنسبة للبعض.
لم يلتحق العواشري بجوق أم كلثوم، كما تمسك العازف صالح الشرقي بالموقف ذاته حين جادله الموسيقار محمد عبد الوهاب في صعوبة مقامات الألحان المغربية. فقد كان الشرقي يكتب موسيقاه لحنا وتوزيعا، ويعتبر من القلائل الذين أصدروا بعض الكتب في هذا الميدان. وسئل الملحن عبد القادر الراشدي عن أسرار ملكته الفنية، فقال إنه يلحن بخشوع، وإن البحر عادة ما يكون رفيقه أثناء متعة صيد السمك على ضوء القمر.
بيد أن المطربة نعيمة سميح ستواجه موقفا مماثلا، فقد عرض عليها أكثر من ملحن شرقي أداء أغنيات بالعامية المصرية أو اللبنانية، وفي كل مرة كانت تتذرع بأسباب وأعذار. وعندما انتهت يوما من الغناء في حفل استضافه القصر الملكي، واجهها الحسن الثاني بنفس السؤال، فردت على طريقتها التي لا تخلو من عفوية بأنها مغربية المنشأ والهوى والروح. وسجل ضمن محاسنها التي جعلت مغربيات يتعاطفن معها أثناء محنة المرض، على أيام «ياك أجرحي جريت وجاريت»، أنها ظلت أكثر تمسكا ببحة صوتها الذي شرب من أنهار مغربية.
كان الموسيقار عبد السلام خشان، الذي قاد الجوق الملكي في سنوات مجده، يردد دائما أن الألحان مثل الجلباب والقفطان، فهما لا يشبهان أي لباس آخر، وبارتدائهما يعرف المغاربة ذكورا وإناثا. غير أن القفطان خضع بدوره لتعديلات فنية تكاد تفقده سماءه، إلا في ما ندر من التقليعات التي حافظت على أصالته، وكذلك هي الأغاني، قبل أن يأتي من يمزج قفطانها بـ«الميني جوب»، أو يفصل سروال «قندرسية» على شاكلة بنطلون «الجينز».
إنما الأمم أغانيها وألحانها وتراثها إن هي ذهبت ذهبوا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى