شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرثقافة وفن

الأدب في متاهات الجنون

إعداد وتقديم: سعيد الباز

مقالات ذات صلة

 

كانت المعرفة الإنسانية منذ القديم قد أولت أهمية قصوى لموضوع العقل ومركزيته في التفكير واعتباره شرطا أساسيا في تحقق المعرفة وتطورها. لكن التجربة الإنسانية أفضت في النهاية إلى الاهتمام بما هو نقيض للعقل والمتمثل في ظاهرة الجنون وبالتحديد المرض العقلي. ومن خلال هذا المنظور العام تمّ الانتباه إلى العلاقة المترابطة أحيانا والمتوترة أحيانا أخرى بين الإبداع والجنون أو الحدود الملتبسة بينهما. لذلك لم تكن النماذج الممثلة لهذا التماسّ بين حدّين متناقضين، لتعوز أيّ دارس لهذه الظاهرة يمكن أن نذكر منها على سبيل المثال: من نيتشه إلى أنتونان أرطو وفانسان فان غوغ من الأدباء والفنانين. في الأدب العربي المعاصر نجد حالة استثنائية في شخص المفكر والروائي العراقي خضير ميري الذي عانى من اضطرابات نفسية وسلوكية حادة دفعته إلى الانصراف بكليته إلى الكتابة عن الجنون من مستويين فكري وإبداعي. كما يقدم الكاتب المغربي محمد أسليم في كتابه «كتاب الفقدان مذكرات شيزوفريني» زاوية أخرى لهذه الظاهرة وتحديدا لمرض الشيزوفرينيا  من خلال مذكرات ونصوص سردية تمنحنا إضاءة لعوالمه المعتمة. إضافة إلى ذلك نسجل الكثير من الإبداعات في هذا المجال مثل الروسي نيكولاي غوغول في «يوميات مجنون» أو الياباني جونيتشيرو تانيزاكي Junichiro Tanizaki  في «يوميات عجوز مجنون» أو الروسي ليونيد أندرييف Leonid Andreiev  في «كتاب الجنون» أو تجارب حياتية لأدباء مثل مي زيادة ونجيب سرور.

نيكولاي غوغول.. يوميات مجنون

 

11 نوفمبر

… اليوم، على كل حال، لمعت في ذهني فكرة، تذكرت ذلك الحديث الذي سمعته يدور بين الكلبتين في شارع نيفسكي. وقلت لنفسي: «الآن سأعرف كل شيء، يجب أن أخطف الرسائل التي كانت تتبادلها الكلبتان الحقيرتان. وأعتقد أنني سأعرف شيئا ما. بل وأعترف أنني ذات مرة دعوت «ميدجي» إلى غرفتي، وقلت لها: «اسمعي، يا ميدجي. نحن الآن وحيدان. وإذا شئت قفلت الباب حتّى لا يرانا أحد. خبريني بكل ما تعرفينه عن الآنسة، ماذا وكيف؟ أحلف لك بالرب أنني لن أكشف شيئا لأحد».

ولكنّ الكلبة الماكرة صكّت ذيلها، وانكمشت إلى النصف، وخرجت من الباب كأنّها لم تسمع شيئا. منذ زمان وأنا أعتقد بأنّ الكلبة أذكى من الإنسان بكثير. بل وكنت موقنا بأنّها تستطيع أن تتكلم، ولكن عنادها وحده يحول دون ذلك. إنّها سياسة حاذقة تلحظ كل شيء، كل نيات الإنسان. على كلّ حال سأذهب إلى بيت «زفركوف» غدا، مهما يكن من شيء، وأستجوب فيدل، فقد أنجح في اختطاف كلّ الرسائل التي كتبتها ميدجي لفيدل…

13 نوفمبر

حسنا لنر، الرسالة واضحة إلى حدّ ما. ومع ذلك فإنّ في الخط شيئا كلبيا، كما يبدو. نقرأ:

عزيزتي فيدل، أنا لا أستطيع أن آلف اسمك العامي. وكأنما لم يكن في ميسورهم أن يختاروا اسما ألطف. فيدل، روزا، أية لفظة مبتذلة !  على كل حال. سأترك ذلك جانبا. أنا مسرورة جدا بأننا فكرنا في أن نتراسل.

الرسالة صحيحة جدا من الناحية النحوية. النقاط في مكانها، وحتّى أدق العلامات. رئيس قسمنا نفسه لا يقدر أن يكتب بهذا الشكل، ولو أنه يردد أنه درس في الجامعة في وقت ما…

يوم خارج الشهور

كنت أتمشى متخفيا في شارع نيفسكي. مرّ صاحب الجلالة الإمبراطور. الناس جميعا رفعوا قبعاتهم، وأنا أيضا، إلا أنني لم أُظهر أية علامة على أنني ملك إسبانيا. وجدت من غير اللائق أن أكشف عن نفسي الآن، أمام الملأ، فقد كان يجب أن أقدم نفسي إلى البلاط. ولم يكن يوقفني عن ذلك إلا كوني لا أملك حلّة الملوكية حتّى الآن. على الأقل لو أحصل على عباءة الملوك. أردت أن أُوصي عليها أحد الخياطين، ولكن هؤلاء حمير تماما، كما أنهم يستهينون بعملهم كليا ويمهدون الطريق. قررت أن أصنع عباءة من سترة رسمية جديدة لم ألبسها غير مرتين. ولكي لا يفسد هؤلاء الأراذل السترة، عزمت على أن أخيط العباءة بنفسي، وأغلقت عليّ، حتى لا يراني أحد. قصصت السترة كلها بالمقص لأن التفصيل يجب أن يكون مختلفا تماما.

لا أتذكر اليوم، وكذلك الشهر. والشيطان يعرف متى كان ذلك، العباءة جاهزة تماما ومخاطة… إلا أنني لم أقرر بعد تقديم نفسي إلى البلاط. لم تصل البعثة من إسبانيا حتّى الآن، ولا يليق أن أفعل ذلك بدون مبعوثين، لن يكون لمقامي أيّ وزن. أنا أنتظرهم من ساعة إلى أخرى.

يدهشني كثيرا إبطاء المبعوثين. أية أسباب يمكن أن تحول دون وصولهم؟ أيعقل أن تكون فرنسا؟ أجل، إنها دولة معرقلة للغاية. أردت التوجه إلى البريد أسأل عن وصول المبعوثين الإسبان. ولكن مأمور البريد بليد للغاية، لا يعلم شيئا. يقول: لا وجود هنا لأي مبعوثين إسبان…

شاكر عبد الحميد.. الأدب والجنون

 

انطوائية كافكا

… إنّ كافكا عُومل كثيرا بقسوة من قبل والده، فكثيرا ما عنّفه وضربه ووضعه في شرفة المنزل حتى يمنعه من البكاء أو إحداث الضوضاء ليلا، وفي الأجواء الباردة. وظلت ذكرى هذه الأيام المبكرة تحوم في ذاكرة كافكا وكتاباته، وقد تضخمت لديه صورة أبيه لتصبح بديلا رمزيا لكل صور السلطة التي شعر بالانسحاق أمامها وأراد أن يهرب منها متحولا إلى حشرة، كما يبدو في قصة (المسخ) إنها رغبة داخلية في الاختفاء والانزواء والهروب من عالم شديد القسوة يحاصر الفرد ويضطهده ويقلب حياته جحيما، وفي الكثير من أعماله الروائية يصف كافكا هذا العالم الكابوس الغريب. ففي رواية (المحاكمة) يصف كافكا كيف تمّ القبض على (جوزيف ك) وأُخذ متهما بجريمة لا يعرف عنها شيئا وكيف تمت عملية إحضاره ومحاكمته أمام محكمة غريبة شديدة الغموض تعكس غرابة وغموض العالم النفسي والاجتماعي الذي عاناه كافكا، وأراد أن يصوره بشكل رمزي.

… هذا الإحساس الشامل بالضعف والخوف وعدم الجدارة ظهر في العديد من كتابات كافكا وفي مذكراته أيضا، فقد كتب كافكا في مذكراته يقول: (إنني عاجز تماما عن النوم، تعذبني الأحلام وتقضّ مضجعي كما لو كانت تنبش بأظافرها بداخلي، بحثا عن مادة صعبة عسيرة المنال مطمورة هناك في الأعماق، إنّ هناك ضعفا ونقصا خاصا بي يكمن بداخلي، إنه واضح ومميز بدرجة كافية لكنه يصعب وصفه. إنه مركب من الجبن والتحفظ والثرثرة وانكسار القلب، ومن خلال ذلك أحاول أن أحدد شيئا خاصا بي. إن مجموعة عوامل النقص التي أعانيها والتي تتجمع معا لتقوم بتشكيل مكون واحد بارز وواضح للنقص الذي أعانيه، والذي لا يستطيع أن يفعل شيئا في مواجهة النقائض المثيرة للأسى مثل الكذب والتفاهة. هذا المكون هو ما حفظني من الوقوع في براثن الجنون، ولكنه منعني أيضا من القيام بأية مبادرة أو حركة للأمام، ولأنّه حفظني من الجنون فقد قمت بتهذيبه وتشذيبه، وبعيدا عن الخوف من الجنون فقد ضحيت بكثير من الفرص التي أُتيحت لي وقد كنت الخاسر بالتأكيد في كثير من الصفقات. لأنه ليس من الممكن عقد أية صفقات أو اتفاقيات عند هذا المستوى من الخوف، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ هذا التراخي والكسل لم يمنع أو يتداخل مع العمل الشاق الذي كان يتم ليلا ونهارا لتحطيم كل عقبة ولإضاءة الطريق. وبالنسبة لهذا الأمر فإنني أكاد أُصاب بالجنون، لأنه كي تقوم بمغامرة أو حركة للأمام يجب أن تكون لديك الرغبة في القيام بذلك. وأنا لم تكن لدي هذه الرغبة من قبل).

إنّ أعمال كافكا المختلفة مثل (المحاكمة) و(القلعة) و(أمريكا) و(المسخ) و(الرسائل والمذكرات) و(مستعمرة العقاب) وغيرها يبدو العالم فيها باردا غامضا مهددا للذات الضئيلة المحاصرة الهاربة الخائفة التي تهاجمها أشباح شيطانية ويحيط بها العبث من كل جانب.

… إنّ العين الإبداعية الراصدة لدى كافكا تتجه من الخارج إلى الداخل… أما التكوين أو التصميم الفني لدى كافكا فهو تكوين مركزي أو انفرادي أشبه بالعزف الانفرادي حيث تقوم الشخصية الوحيدة المنفردة المنعزلة الخائفة بتنفيذ مقطوعة خاصة بلحن مأساوي حزين.

 

ليونيد أندرييف.. كتاب الجنون

… عند البروفيسور «ت» جرى كل شيء على النحو الذي توقّعته. لقد كان شديد الحذر، معتدلا في الكلام، ولكنّه جدّي. فقد سألني عمّا إذا كان عندي أقرباء أستطيع أن أطلب إليهم رعايتي، ونصحني بالتزام البيت، وبالراحة والهدوء. واعتمادا على كوني طبيبا خالفته الرأي قليلا. إذ لئن كان ما يزال باقيا عنده بعض شكوك فإنه لم يلبث، عندما تجرأت على معارضته، أن عدّني مجنونا بيقين لا رجعة فيه. طبعا، أيّها السادة الخبراء، إنّكم لن تولوا هذه المزحة البريئة مع واحد من زملائنا اهتماما جدّيا، لأنه ما من شك في أن البروفيسور «ت» جدير بالاحترام والتقدير.

كانت الأيام القليلة التي أعقبت ذلك من أسعد أيام حياتي. كانوا يعطفون عليّ كمريض معترف به، وكانوا يزورونني، ويتحدثون معي بلغة مكسّرة، سخيفة، ولم يكن أحد غيري يعرف أنّي أكثر عافية من كل من سواي، وأتمتّع بما يقوم به ذهني من عمل جبّار شديد الجلاء. إنّ الذهن البشري أكثر الأشياء العجيبة والعصيّة على الفهم بين كل ما تزخر به الحياة من أشياء عجيبة وعصيّة على الفهم. ففيه الألوهية، وفيه عربون الخلود والقوة الجبّارة التي لا تعرف العقبات. والناس يصعقهم الإعجاب والذهول عندما ينظرون إلى ذرى الجبال العظيمة المكللة بالثلوج، ولو كانوا يعرفون أنفسهم لكانوا صُعقوا بمقدراتهم الذهنية على التفكير أكثر ممّا بالجبال، وأكثر ممّا بكل ما في العالم من عجائب وبدائع. إنّ فكرة بسيطة لعامل مياوم حول أنسب طريقة لوضع قطعة قرميد لهي أعظم معجزة وأعمق سرٍّ.

وكنت أتلذذ بفكرتي. ذلك أنّ فكرتي البريئة في جمالها استسلمت لي بكل ولعها، مثل عشيقة، وخدمتني مثل أمة، وساندتني مثل صديق. لا تظنوا أنّي طول هذه الأيام التي أمضيتها في البيت بين أربعة جدران لم أكن أفكر إلا بخطتي. كلا، فقد كان كل شيء هناك واضحا، وكل شيء كان مدروسا. لقد فكرت بكل شيء. كأننا أنا وفكرتي، كنّا نلعب مع الحياة والموت. ونحلّق عاليا فعاليا فوق تلك الجدران. وقد توصلت في تلك الأيام إلى حلّ لمسألتين في الشطرنج مشوّقتين للغاية كنت أفكّر فيهما منذ زمن طويل، ولكن دون جدوى.

… ومنذ تلك الدقيقة التي كانت فيها حياة «أليكسي» قد وُضعت بين يديّ شعرتُ تجاهه بميل خاص. كان يطيب لي التفكير بأنّه يعيش، ويشرب، ويأكل، ويفرح، كلّ ذلك لأنني أسمح له بذلك. شعور شبيه بشعور الأب تجاه ابنه، وما كان يقلقني هو صحّته. فرغم هزاله كلّه كان عديم الحذر بطريقة لا تغتفر… ولكن «تتيانا نيكولايفنا» طمأنتني. إذ إنّها عرّجت عليّ لتزورني فأخبرتني بأن أليكسي معافى تماما، بل هو ينام جيّدا، وهذا نادرا ما يقع له. وفرحتُ فطلبت إلى تتيانا نيكولايفنا أن توصل منّي إلى أليكسي كتابا هو نسخة نادرة وقعت بين يديّ مصادفة وهو معجب بها منذ مدة طويلة. ربما كانت هذه الهدية، من وجهة نظري، غلطة. إذ في الإمكان أن ينظر إليها على أنها تضليل مقصود، غير أني كنت شديد الشوق لأن أقدم لأليكس ما يسرّه، فقررت أن أجازف قليلا. وقد استهنت حتى بكون هديتي، من منظور المستوى الفني لتمثيلي، شيئا كاريكاتوريا.

محمد أسليم.. مذكرات شيزوفريني

من أين كانت البداية؟ لم أدر بالضبط أيّ شيء طرأ على مجرى حياتي فجرفني إلى قعر البئر التي أقبع فيها الآن. لكن يسُودني اعتقاد شبه يقيني بأنّ كل شيء انطلق يوم أحالني طبيب على طبيب آخر مختص في الأمراض العقلية، وذلك عبر طلب فحص كتب فيه ما يلي: «اسمحوا لي أن أحيل إليكم هذا المريض الذي يبدو، من خلال المقابلة التي أجريتها معه أنّه يحمل أعراضا شيزوفرينية»، ثم ختمه بتوقيعه الشخصي وطابع المؤسسة.

لم تفاجئني كلمة «شيزوفرينيا» فمن قبل طالما خامرني الإحساس بأني كنت مصابا بهذا المرض بالضبط. لكن ما فاجأني هي الطريقة التي كان يعاملني بها الطبيب. لماذا كان يكلمني بالكيفية التي يُكلّم بها عادة الصبيان والأطفال؟ عفوا !! لماذا زرت الطبيب؟ بل أأنا الذي زرته أم أنّ شخصا ما هو الذي زوّرني إياه؟

لكي أختبر صحة ما قاله الطبيب بخصوص «مرضي» وأرى بنفسي أين تضعني صنافة الأعطاب العقلية والنفسية أمسكت معجما لمفردات التحليل النفسي، وأخذت أتفحص المصطلحات واحدا واحدا صحبة نصوص الشروح المرافقة لها. وكلما أنهيت قراءة مصطلح وفهمه شرعت مباشرة في البحث عمّا يمكن أن يقابله من وقائع في ركام أحداث حياتي. لكن، أيّ شيء عثرت عليه ! بل ماذا أقول؟ يا لغبني أم يا لغباوتي؟ ! فأنا لم أجد كلّ أسماء الأمراض والعقد النفسية تنطبق عليّ فحسب، بل وجدتني معجما يسع سائر مصطلحات الأمراض النفسية، ووجدت المعجم «الحقيقي» مجرّد نص يتضمن مفردات مبهمة يتعين على كل من رام شرحها أن يعود إليّ كي أقصّ عليه مجموع وقائع حياتي !

… لقد صار عقلي صورة مكسّرة للعالم وأصبح الناس يتظاهرون من حولي بمظهر مومياءات محنطة. فما من كلمة أفوه بها إلا وتثير الإحساس بالغرابة لدى الآخرين. في أقصى حالات التأدّب والمجاملة يعيرونني آذانهم، وفي حالات دنيا من التأدب يعرضون عن الاستماع مختلقين لذلك أعذارا أو مواعد يزعمون أنها في غاية الأهمية. وفي كلتا الحالتين لا أحظى بأيّ كلمة منهم. لا تعليق، ولا نقاش، ولا استفهام، ولا استفسار، ولا اعتراض… كأنني أحدثهم بلغة نزلت من كوكب آخر، علما بأنني أطرح وأناقش قضايا منهم وإليهم. قضايا لصيقة بأنوفهم وعيونهم، وإن كانت تبدو في حجم الكون. نعم، كثيرا ما يسخرون مني بطرق بارعة في المراوغات الذكية، لكن لي اليقين بأني أؤزمهم بالقدر الذي يؤزمونني به. كلانا أزمة للآخر ! عقولهم علب مغلقة وعقلي هواء طلق. معرفتهم محجمة بأحجام وموزونة بموازين، وأنا درجة صفر في المعرفة. لذلك لم يقبلوا أن أطرح عليهم أسئلة كثيرة، ورفضوا التعاون معي لفكّ قضايا نظرية عسيرة…

نجيب سرور.. ابن الشقاء وربيب الزريبة والمصطبة

 

نجيب سرور (1932-1978) شاعر ومسرحي وممثل مصري انتمى إلى الحركة الشيوعية، درس الإخراج المسرحي في الاتحاد السوفياتي. كان يعتبر الكلمة سلاحا ضدّ الظلم والاستبداد واستمدّ ثورته على الأوضاع من طفولته البائسة في قريته عبّر عنها في قصيدته الشهيرة (الحذاء) حيث يصوّر تعرّض والده الفلاح الفقير إلى الضرب من قبل عمدة القرية أمامه وهو ما زال صغيرا. عند عودته إلى مصر كتب وأخرج للمسرح أعمالا لافتة مثل (ياسين وبهية) و(يا بهية وخبريني) و(الحكم قبل المداولة) و(ملك الشحاذين) و(الذباب الأزرق)… وفي الشعر (لزوم ما يلزم) و(عن الوطن والمنفى) و(رباعيات نجيب سرور) وبرتوكولات حكماء ريش).

عرف نجيب سرور بالصلابة والثبات في الموقف، وجرأته الفائقة التي تصل إلى حدّ الهجاء البذيء على طريقة مظفر النواب، ممّا دفع بالنظام المصري، سواء أيام جمال عبد الناصر أو السادات، إلى اعتقاله وطرده من وظيفته أستاذا في أكاديمية الفنون، وأخيرا لتحطيم نفسيته أدخلته عدّة مرّات إلى مستشفى الأمراض العقلية، ما أثّر عليه نفسيا وجسديا وعجّل بوفاته مبكّرا وهو في سنّ ستة وأربعين عاما. ولسخرية القدر كان الوسط الأدبي في مصر يطلق عليه لقب شاعر العقل، رغم أنّ هذا العقل في حد ذاته كان هو السبب الأول في شقائه. وما يصور معاناة نجيب سرور الطويلة مع المصحات العقلية وحرمانه من وظيفته ونشر أعماله المسرحية والإبداعية، رسالته إلى الكاتب يوسف إدريس التي يقول فيها: «خرجت من مستشفى الأمراض العقلية بمعجزة حطاما أو كالحطام. خرجت إلى الشارع… إلى الجوع والعري والتشرد والضياع». كان نجيب سرور كاتبا متعددا، فقد مارس النقد والتأليف والإخراج المسرحيين، إضافة إلى كتابة الشعر الفصيح والعامي. اتسمت أعماله الإبداعية في مجملها بروح طليعية مبتكرة مع الاشتغال النقدي على موضوعات ذات بعد تراثي. كما كان مسرحه ملتزما على طريقة بريخت. وانتصر نجيب سرور دوما للبطل الهامشي الذي كان في العموم صورة لشخصه. وكما كان يقول دوما في أشعاره ذات النزعة التحريضية الواضحة والمباشرة أحيانا: «أنا ابن الشقاء، ربيب الزريبة، وفي قريتي كلّهم أشقياء».

 

لزوم ما يلزم (مقتطفات)

قد آن يا كيخوت للقلب الجريح
أن يستريح،
فاحفر هنا قبراً ونم
وانقش على الصخر الأصم :
«يا نابشا قبري حنانك، ها هنا قلبٌ ينام،
لا فرق من عامٍ ينامُ وألف عام،
هذي العظام حصاد أيامى فرفقاً بالعظام.
أنا لست أُحسب بين فرسان الزمان
إن عد فرسان الزمان
لكن قلبى كان دوماً قلب فارس
كره المنافق والجبان…

 

جونيتشيرو تانيزاكي.. يوميات عجوز مجنون

… لا يوجد لديّ اليوم شيء أكتبه، لذلك سأحاول أن أدوّن عددا من الأفكار التي تجول في خاطري.

لعلّ الجميع يصبحون هكذا في شيخوختهم، لكن، في الآونة الأخيرة، لا يكاد يمضي يوم إلّا وأفكّر فيه بموتي، مع أنه لم يكد يطرأ أيّ شيء جديد على حالتي. وكان ينتابني هذا التفكير منذ فترة طويلة، حتّى عندما كنت في العشرينات من عمري، لكن الأمر ازداد الآن. وكنت أردد لنفسي مرتين أو ثلاث مرات في اليوم: ربما متّ اليوم، وهذا لا يعني بالضرورة أنني أخاف من هذه الأفكار. فعندما كنت شابا، كانت هذه الفكرة تثير فزعي، أمّا الآن فقد أصبحت تمنحني سعادة أكيدة. وأطلقت العنان لخيالي لتصوير مشهد لحظاتي الأخيرة، وماذا سيعقب موتي. فبدلا من أن يقيموا الصلاة عليّ في قاعة المآتم في مقبر «أوياما»، أريد أن يضعوا تابوتي في الغرفة التي تقع قبالة حديقتنا. لأن ذلك سيسهّل الأمر على الأشخاص الذين سيأتون لحرق جثماني: إذ يمكنهم التوجه من البوابة الرئيسية إلى البوابة الداخلية، والهبوط على الدرجات الحجرية. ولا تهمني تلك الموسيقى من نوع «الشنتو» بالمزمار والناي. لكني سأطلب من أحدهم مثل «تومياما سيكين» أن ينشد أنشودة «القمر عند الفجر». إني أكاد أسمع صوته الآن…

يفترض أنني ميت، لكن يخيّل إليّ أنني أسمعه في جميع الأحوال، وأسمع صوت زوجتي أيضا وهي تبكي. حتّى أصوات «إتسوكو» و«كوغاكو» وهما تنشجان، مع أنني لم أتمكن من التوافق معهما. من المؤكد أنّها ستكون هادئة، أو لعلها ستفاجئ الجميع بالبكاء، أو على الأقل تتظاهر بأنّها تبكي. أتساءل كيف سيبدو شكل وجهي وأنا ميت. أريد أن يكون ممتلئا كما هو الآن، حتّى لا يكون منفّرا…

حتّى أصبحت في الخمسينات من عمري، لم يكن ثمة شيء يخيفني أكثر من هواجس الموت، لكن ذلك توقف الآن. لعلي تعبت من الحياة، لم يعد يهمني إن مت أم لم أمت. فقد أصبح الأمر سيّان بالنسبة لي.

… أعرف تماما أنني رجل عجوز قبيح تكسو وجهي التجاعيد.

عندما أنظر في المرآة قبل أن آوي إلى الفراش وبعد أن أنزع طقم أسناني، يصبح الوجه الذي أراه في غاية الغرابة، فلم تعد في فكيّ ولا حتّى سنّ واحدة، حتّى أنه لم تعد تكاد توجد لثة في فمي. وإذا أطبقت فمي، أصبحت شفتاي مستويتين معا، ويتدلّى أنفي إلى ذقني. أدهش عندما أفكر أنّ هذا هو وجهي. حتّى القرود لا تمتلك مثل هذه الوجوه القبيحة. وكيف يمكن لشخص له وجه كهذا أن يأمل في أن يغوي امرأة؟ لكن مع ذلك، فإنّ لهذا الأمر ميزة وهي أنّه لا يجعل النساء يحترسن منك، ويقتنعن بأنّك رجل عجوز يعرف أنّه لن يحظى بأيّ عطف منهن. لكن مع أنّه لا يحقّ لي أن أستغل هذه الميزة التي أتمتع بها، وأنني لست قادرا على ذلك، فإنّي أستطيع أن أتقرب من الحسناوات من دون إثارة أيّ شكوك لديهن. وللتعويض عن عدم قدرتي، يمكنني أن أجعلها تنهمك في حديث مع شاب وسيم، وأجعل البيت كلّه يغوص في حالة من الاضطراب، وأستمتع بذلك.

خضير ميري.. سارق حدائق الجنون

الفيلسوف والشاعر والروائي والناقد العراقي خضير ميري (1962-2015) ظاهرة فريدة في الأدب العربي والعراقي، كانت حياته القصيرة معاناة قاسية ودائمة جسديا ونفسيا. بدأت بإصابته مبكرا بمرض نادر من أهمّ أعراضه الأرق واضطراب سلوكه ونفسيته، حاول مواجهته بالقراءة المتعمقة في مجالات عدة من الفلسفة والنقد الأدبي جلبا للاسترخاء والنوم. لكن استفحال حالته دفع بالأطباء إلى الزجّ به في مصحة خاصة بالأمراض العقلية لم يغادرها حتّى تعمقت أكثر اضطراباته النفسية. التجربة الثانية والأكثر قسوة حين تعرّض للاعتقال وحتّى لا يواجه حكم الإعدام ظلّ يمثل دور المجنون أمام الدوائر الأمنية حتّى اقتنعوا بجنونه فرحّلوه إلى مستشفى المجانين حيث عكف على القراءة والكتابة. عقب الغزو الأمريكي والفوضى العارمة في العراق فرّ من مستشفى المجانين ليظهر في الوسط الثقافي كأحد ألمع الكتاب وأكثرهم تنوعا وغزارة في الفلسفة، أصدر (الإشكالية والمعنى في السؤال الفلسفي) و(الفكر المشتت تعقيب على فوكو) و(الجنون في نيتشه) إضافة إلى أعماله الروائية (صحراء بوذا) و(أيام الجنون والعسل) و(حكايات من الشماعية) و(الذبابة على الوردة)، فضلا عن كتب شعرية (تعديل ذيل الكلب)… وسردية (كتاب الجيب للمحكومين بالإعدام) و(دفاعا عن الجنون) و(دفاتر المصحة).

غادر خضير ميري العراق للإقامة في مصر حيث أصدر بعض كتبه، غير أنّ حادثة سير تعرض لها في القاهرة عجّلت بعودته إلى العراق بعد إجرائه لعملية جراحية غير ناجحة ظلّ يعاني خلالها من آلام مبرحة حتّى فارق الحياة. يصور لنا خضيّر ميري معاناته مع المرض منذ سنواته الأولي فيقول: «لا محطة من محطات حياتي كان بالإمكان أن تجعلني أغادر القلق، لأنني منذ طفولتي كنت أعاني من ما يمكن أن أسميه اليقظة المبكرة، والوسوسة، والهواجس، والأرق. ربما قليلون يعرفون هذه الحقيقة، إنّها كانت السبب الأول الذي راجعت من خلاله مصحة ابن رشد، وأنا في عمر 14 سنة، عندما اكتشفوا أنني مصاب بالأرق ولا أستطيع النوم بسهولة، فضلا عن أنّ الأرق كان سببا في تعلقي بهواية القراءة. كنت أستخدم الكتاب وسيلة للإجهاد والتعب والشعور بالنعاس والخلود للنوم… فأنا لم أولد نائما وإنما ولدت مفتوح العينين، وما زلت مفتوح العينين إلى يومنا هذا». وعن علاقته بالكتابة عن الجنون في أكثر أعماله الروائية مثل رواية «أيام العسل والجنون» و«حكايات من الشماعية» و«الذبابة على الوردة» يقول: «في أكثر من مناسبة أكدت أنّ هناك سمعة سريعة الانتشار في موضوعة الجنون ومبالغة قبل قراءتها. ساهم الجانب الإعلامي في ترويج التجربة قبل أن تُقرأ وتنضج… لأنّ هناك من يعتقد أنّ كلّ أعمالي تدور عن الجنون والمصحات، وهذا ليس صحيحا. لي أعمال عن فوكو وعن نيتشه… ولكن يبدو أنّ موضوعة الجنون أعطتني كسبا إعلاميا واستهلاكا تجاريا مبكرا… الآن عندما يطلعون على تجاربي وكتبي الأخيرة لا يجدون هذا الجنون بالمفهوم الفجّ. أنا أتكلم عن مصحات تحوي نماذج مختلفة من البشر ليس فقط المجانين، وإنما أيضا الحمقى وهم غير المجانين… السياسيين «المجننين» تمّ تجنينهم نتيجة التعذيب في المعتقلات… فليس الجنون بالمعنى الذي يحاول البعض أن يعدّوه سمة أساسية لشخصيتي. أنا أشتغل على الجنون بعقلانية ومهارة، وأحيانا يكون الجنون وسيلة من الوسائل التي أستطيع من خلالها أن ألعب على الحقيقة وأزعزعها وأفككها وأسخر منها». من أشعاره:

 

جنون العصافير

في شقته قرب سفارة أوزبكستان

حيث العلو يثبت براعة صمته

وتثاؤب الأثاث التجريدي من خشب الزان الثقيل الوزن

في ركنه الجمالي   كنت أمنح التيه سكونا جديدا

الظلمة تزحف بعيدة عن عينيه

والعود إله جديد

هل كنت متمرسا  في العبادات الجديدة أم أن ديدني قديم؟

 

مي زيادة.. أتمنّى أن يأتي بعد موتي مَن ينصفني

مي زيادة (1886-1941) كاتبة ومترجمة فلسطينية ولبنانية أتقنت عدة لغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وكانت من أوائل الكاتبات العربيات وصاحبة أوّل صالون أدبي. تحلّق حولها الكثير من الكتاب والمفكرين والشعراء والأدباء الذين فتنوا بجمالها وثقافتها الواسعة وسعوا إلى التقرّب منها ونيل الحظوة لديها. غير أنّ علاقتها العاطفية بالشاعر اللبناني جبران خليل جبران عن طريق المراسلة التي دامت عشرين عاما، كانت محور حياتها. بموت والدها ووفاة جبران المتكررة فقدت توازنها النفسي وبدأت تتردد على عيادات الطبّ النفسي لتتلقى العلاج. الأسوأ هو ما كان بانتظار مي زيادة حيث تكالبت عليها أطماع بني عمومتها فاستدرجوها إلى بيروت بدعوى الزيارة وألقوا بها في مستشفى المجانين وجرّدوها من ممتلكاتها وكتبها ومخطوطاتها. فهبّ كتاب لبنان ومن بينهم أمين الريحاني لإنقاذها من سجن المستشفى، لتعود إلى مصر، لكن خائرة القوى ولتعتزل الناس حتى استسلامها أخيرا للموت… كما كتبت سابقا بأنّها تجهل ما في هذا البشر من دسائس، ومن خلال رسائلها إلى جبران خليل جبران نلمس صدى معاناتها الصامتة من العزلة الخانقة رغم ما كانت تحظى به من شهرة في الوسط الأدبي المصري، وربما كان لوفاة جبران خليل جبران المفاجئة وتحطم آمالها في اللقاء والاقتران به، كما هو الشأن في هذه الرسالة:

صديقي جبران

لقد توزّع في المساء بريد أوروبا وأمريكا، وهو الثاني من نوعه في هذا الأسبوع، وقد فشل أملي بأن تصل فيه كلمة منك. نعم، إنّي تلقيت منك في الأسبوع الماضي بطاقة عليها وجه القدّيسة حنّة الجميل، ولكن هل تكفي الكلمة الواحدة على صورة تقوم مقام سكوت شهر كامل.

…لا أريد أن تكتب إليّ إلّا عندما تشعر بحاجة إلى ذلك أو عندما تنيلك الكتابة سرورا، ولكن أليس من الطبيعي أن أشرئب إلى أخبارك كلّما دار موزّع البريد على الصناديق يفرغ فيها جعبته !… أيمكن أن أرى الطوابع البريدية من مختلف البلدان على الرسائل، حتّى طوابع الولايات المتحدة وعلى بعضها اسم نيويورك واضح، فلا أذكر صديقي ولا أصبو إلى مشاهدة خطّ يده ولمس قرطاسه.

… ولتحمل إليك رقعتي هذه عواطفي فتخفّف من كآبتك إن كنت كئيبا، وتواسيك إن كنت في حاجة إلى المواساة، ولتقويك  إذا كنت عاكفا على عمل، ولتزد في رغدك وانشراحك إذا كنت منشرحا سعيدا.

مي زيادة

قصّتي مع الترجمة

عزالدين عناية*

قيل في الترجمة الكثير، وفي عرفي، كما نقول في تونس، هي “صنعة اللّي ما عندو صنعة”، أي “عمل لا طائل من ورائه”. لماذا أقول ذلك؟ أذكر قبل ثلاثة عقود خلت، لما تخرّجت من الجامعة الزيتونية وكنت أبحث عن شغل، اقتربت مني الوالدة وقالت ماذا تفعل؟ فقلت: أترجم من الفرنسي إلى العربي، فلم تع قولي. فأوضحت “أقلب الكلام من السوري إلى العربي”، و”السوري” في الدارجة التونسية هو مرادف الفرنسي، فردّت ساخرة “صنعة اللي ما عندو صنعة!”. اكتشفت لاحقا أن أجرة الترجمة في لغتي، لا سيما مع دور النشر الخاصة، لا تزال بـ “بارك الله فيك!” و “شكر الله سعيكم!” في معظم الأحوال. مع هذا سكنتني الترجمة منذ ذلك العهد البعيد في الجامعة الزيتونية في تونس، لما كنت طالبا في دراسات الأديان، ثم لاحقا لما التحقت بالجامعة الغريغورية في روما أثناء دراسة اللاهوت المسيحي. استبانت لي الحاجة إلى قول الآخر، من خلال إدراك النقص الحاصل لدينا في الاطلاع على المناهج العلمية في دراسة الظواهر الدينية. أقصد سوسيولوجيا الدين وسوسيولوجيا الأديان، والأنثروبولوجيا الدينية، وتاريخ الأديان، وعلم النفس الديني، وما شابهها من العلوم الحديثة في مقاربة المقدس والظواهر الدينية. اطلعت حينها، لما كنت طالبا في تونس، على كتاب الفرنسي ميشال مسلان “Pour une science des religions” الصادر عن دار سوي (1973)، فأغراني مقوله فقررت ترجمته لذاتي لا غير. كنت لا أفقه فنّ النشر ودهاليز الناشرين. بعد بضع سنوات لما استقر بي المقام في روما أرسلته إلى “المركز الثقافي العربي” فقبل مدير الدار حينها، حسن ياغي، بنشره في التو، اكتسبت ثقة لا توصف في شخصي وقدراتي. ولكن حلمي الجميل بتطوير المناهج العلمية في دراسة الظواهر الدينية والمقدس والأديان لازمني من الزيتونة إلى روما في ظل تشظّي المقدّس في عالمنا العربي.

ترجمت أعمالا أخرى لعالم الاجتماع الإيطالي إنزو باتشي منها “علم الاجتماع الديني” و”سوسيولوجيا الأديان” و”الإسلام في أوروبا”، و”الإسلام الإيطالي” لستيفانو أليافي ولا زلت في ذلك المسار بحثا وترجمة.

لكن الشيء العرضي، وربما الجميل، في رحلة الترجمة انزلاقي نحو الرواية، ولذلك أقول دائما عن نفسي “وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى” (نحو الرواية). فقد كنت في قراءاتي وأبحاثي غارقا في عوالم التوراة والإنجيل والقرآن، وكانت الرواية عرضا بالنسبة إليّ كسائر قرّاء الرواية العابرين. وجدتني أتابع الروايات التي تُتَرجم من الإيطالية، ناهيك عن أعمال أخرى في تخصصات شتى وذلك مع “مشروع كلمة” في أبوظبي. أقصد انشغالي بمتابعة ما يُتَرجم وتقويم ما اعوجّ من ركيك الكلام. وقد ذكّرني شغلي هذا إلى جانب شغل التدريس في جامعة روما، بأني أسلافي الزواتنة قد سبقوني إلى صنعة المراجعة من الإيطالية. فلما أسّس أحمد باي “مدرسة باردو الحربية” (1840) وتكفل بها جهاز أغلبه من الإيطاليين. كانت المدرسة تحتاج إلى نصوص معرّبة فجاءت الترجمة مثلّثة. يترجم الأستاذ الإيطالي رفقة طالب تونسي إلى الدارجة التونسية أو إلى عربية ركيكة، ثم يتولى زيتوني تقويم العربية وتنقيتها من الشوائب. للذكر بلغت تلك الترجمات في ذلك العهد ما يربو عن المئة نصّ، بقيت مخطوطة في المكتبة الوطنية في تونس.

قلت جئت إلى عالم الرواية من باب المراجعة والتصحيح والمتابعة لِـما يصدر بالإيطالية، لا سيما الأعمال التي تهمّ القارئ العربي وتتعلق بالثقافة العربية.

وقد بقيت أترجم في العلوم الإنسانية والاجتماعية من اللغة الإيطالية تحديدا، لسببين: أولا لأني أومن بالتخصص في الترجمة، وثانيا لأني أعتبر إيطاليا مجهولة ثقافيا بالنسبة إلينا كعرب، وهو أمر يحزّ في نفسي، وكأنّ تاريخ صقلية وإمارة باري لم يكن. في البدء، أقصد مع سنوات الإقامة الأولى في إيطاليا، كنت قد نقلت شعرا عربيا إلى الإيطالية لعبد العزيز المقالحي ومحمد الخالدي، وقمت بالعكس أيضا بنقل أعمال شعراء إيطاليين إلى العربية. غير أنّ الكلف بعوالم اللاهوت لدينا ولديهم غالبني مجددا. فما زلت أومن أن إخراج الثقافة العربية من الرتابة الطاغية على مقولاتها، ومن هشاشة طروحاتها، ومن وَهَن نظرتها في حقول متنوعة، لن يتأتى هذا التجاوز سوى بتحويرات بنيوية تشمل قطاعات عدة، ومنها تكثيف نقل تجارب الآخرين عبر الترجمة. أحيانا يراودني حلم أن انكبّ على الترجمة من الإيطالية، وأخصّص لها وقتي وجهدي، دون غيرها من أصناف الفنون الأخرى التي تهدر طاقتي؛ ولكن المترجم العربي ليظفر بعيش كريم، يجد نفسه مكرها على تنويع مصادر الدخل، على طريقة تنويع مصادر السلاح، حتى لا يقع في ضائقة، وإلا داهمته الخصاصة والحاجة، فالترجمة وحدها في لغتي لا تكفي لسدّ الرمق. ولذلك لا تزال الترجمة لدى كثيرين صنعة عابرة.

أحيانا أودع ترجمة لدى مؤسسة وتبقى سنوات لتُنشر، وأحيانا تُنشر ويسقط منها اسمي سهوا أو عمدا، ومع ذلك أصرّ على الترجمة حُبّا وطواعيّة.. سرّا وعلانية، قياسا على قول ذلك الشاعر.

(شهادة عن الترجمة ألقيت بـ “دار تونس” في باريس بمناسبة الاحتفاء بأسبوع الرواية العالمي بتاريخ 13_14 أكتوبر 2022)

*  أستاذ تونسي بجامعة روما

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى