شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

أيام «بونسو»

يونس جنوحي

 

في يوليوز 1933، خرجت كل الصحف التي كانت تُنشر في المغرب لكي تُهنئ السفير والدبلوماسي الفرنسي، السيد «هنري بونسو»، بتعيينه «رئيسا للحماية» في الرباط. وهذا المنصب الذي كانت أغلب صلاحياته عسكرية أكثر منها سياسية، كان لا يقل أهمية عن منصب وزير دولة داخل التراب الفرنسي، رغم أن الحكام الفرنسيين الفعليين في المغرب كانوا عسكريين يتبعون لوزارة الدفاع، ولم يكن المقيم العام يملك سوى التوقيع لتفعيل التعليمات القادمة من باريس.

هذا المقيم العام كان سفيرا فرنسيا في سوريا، وكان عارفا بثقافة المشرق واحتك بشخصيات بارزة في الشام، لكنه عندما جاء إلى المغرب وجد أن الأمور قرب المحيط الأطلسي مختلفة تماما عن الشرق.

أما قصة وصوله إلى هذا المنصب، فتعود إلى أن المقيم العام السابق في الرباط، والذي كان سابقا عضوا في مجلس الشيوخ، وقع في حالة تناف لا يمكن معها التجديد له، فقررت الإدارة تعويضه بهذا الدبلوماسي.

جل المغاربة وقتها لم يكونوا يعيرون اهتماما لمثل هذه التفاصيل، ولم يكن يهمهم أبدا تعيين مقيم عام جديد. لا يفرحون بمجيء جالس جديد على كرسي الإقامة العامة، ولا يحزنون لرحيل القديم.

حتى النخب المغربية وقتها لم تكن تهتم بمثل هذه التفاصيل. في سنة 1933 كان الوعي الوطني يتشكل بقوة، وأصبح المغاربة مهتمين بالسياسة. لكنهم لم يصبحوا بعدُ مؤثرين في المشهد السياسي، وبالكاد كانت الإقامة العامة الفرنسية تعرف بوجودهم.

وحتى عندما تقوت الحركة الوطنية وأصبحت أكثر حضورا، كانت الإقامة العامة الفرنسية تتجه نحو احتضانها في البداية بدل تشتيتها، وأدت ضريبة ذلك لاحقا.

مُناسبة هذا الكلام ما يُنشر في بعض الدراسات التي تدعي أن السياسة صُنعت في الشرق وليس في المغرب، وأن المغرب لم يعرف أي حضور وازن لشخصيات دبلوماسية أجنبية. إذ راجت أخيرا صور لوثيقة للدولة العثمانية، لا يوجد دليل على صحتها، تستثني المغرب من تصنيف «الإيالات» التي يتشرف باشوات القاهرة بتهنئتهم بحلول المناسبات الدينية. والحقيقة أن المغاربة كانوا حاضرين في الشرق بقوة. إذ إن محمد بن الحسن الوزاني، في السنة التي عين فيها هذا السفير الفرنسي مقيما عاما، كان هو يضع اللمسات الأخيرة على رسالة الدكتوراه في العلوم السياسية، والتي نُشرت له احتفاء بمجهوده في الجامعة الفرنسية، حيث تعرف هناك على أبرز الشخصيات المصرية والسورية، واستطاع أن يربط معها صداقات متينة، تكللت بمساعدته على طرح القضية المغربية في اجتماع الأمم المتحدة، قبل استقلال المغرب. بالإضافة إلى أن علال الفاسي ومحمد عبد الكريم الخطابي والدكتور الخطيب، كلهم كانوا يترددون على القاهرة أكثر مما كانوا يترددون على غيرها من العواصم، أثناء الترويج للقضية المغربية وتدويلها، بعد نفي الملك الراحل محمد الخامس.

يحتاج هؤلاء الذين يريدون إسقاط المغرب من الخريطة السياسية إلى مزيد من الجهد، خصوصا بعد معركة تحديد هوية الزليج المغربي، الذي يشهد التاريخ أنه تصميم مغربي خالص. إذ إن وصف المغرب بأنه بلد غير مؤثر في الخريطة السياسية خلال ثلاثينيات القرن الماضي، أو أن الشخصيات العربية المرموقة لم تكن تعرف المغرب ولا النخب المغربية، لا يستند إلى أي دليل ولا يتعدى أن يكون مجرد تفريغ لأحقاد سياسية.

يكفي أن يعرف هؤلاء أن أشهر «ثائر» في القرن العشرين، وهو تشي غيفارا، رمز أمريكا اللاتينية، حل في القاهرة فقط لكي يلتقي بمحمد عبد الكريم الخطابي، الذي يروج اليوم أن هناك عملا سينمائيا سوف يتناول حياته.

أما السفير الفرنسي في دمشق، عندما حل في الرباط مقيما عاما، فقد أدرك منذ البداية أنه سوف يجد أمامه شخصيات مغربية من طينة نادرة، جعلت مقامه في المغرب مجرد نُزهة له ولزوجته التي كانت معروفة بريادة الأعمال الخيرية. وهو ما عجّل برحيله عن المغرب، وتعويضه بآخرين كانوا يفهمون في الرصاص أكثر مما يفهمون في الأمسيات وحفلات العشاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى