شوف تشوف

الرأيالرئيسية

الثنائية والديموقراطية عند إبكتيتوس

«ليس هناك من شر في العالم. هات أي شيء وسوف أحوله لك بعصا هرمز إلى خير. كل ما في العالم خير، بما فيه الفقر والمرض والعوز والألم والموت»، هذا ما قاله الفيلسوف الرواقي إبكتيتوس، في القرن الثاني للميلاد. ويمكن تطبيق هذا القانون على كل شيء، بما فيه ما جرى في الشرق الأوسط مع الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان، ثم الانسحاب منهما. وينقسم الناس في زاوية الرؤية إلى فريقين، من يرى في أمريكا استعمارا جديدا، ومن يرى أنها فاتحة الديموقراطية. وهذه الرؤية (الحدية) ضارة، لأنها تنبعث من خطأ منهجي أن الألوان ليس فيها سوى أبيض وأسود، وأن الكون مركب على الثنائية. أو أن الشيء حار وبارد، وساكن ومتحرك، وحامض وقلوي. فنمارس خطأ علميا من حيث لا ندري. ومنبع الخطأ يأتي من تصور أنفسنا مركزا للقياس ومحورا للكون. ولم يقع العلم في خطأ أفدح من تصوره أن الأرض مركز العالم، وكل من حولها يدور في حلقات دائرية مكتملة؛ حتى تبين أن الأرض ليست مركز الكون، وأن الدوران ليس على شكل دائرة، بل على شكل إهليلجي؛ بما فيها دوران الإلكترون حول البروتون. ويمكن لطالب ثانوي اليوم تلقين أرسطو حقائق الكود الوراثي، وميكانيكا الكم، ونظرية الانفجار العظيم، والفيمتو ثانية، وثابت ماكس بلانك، وسرعة الضوء أنها 299792458 كلم/ ثانية. وما ينطبق على الفلك يصح على الفيزياء. والضوء ليس أسود وأبيض، بل هو طيف متدرج من الألوان استطاع نيوتن تحليله بموشور زجاجي. كما أن الحار والبارد لا يزيد على الدرجات التي نشعر بها، ودرجة الحرارة 42 مئوية خطيرة على دماغنا، ولكنها عادية عند الطيور. واستطاع كالفن أن يصل إلى تحديد درجة البرودة القصوى، نزولا حتى 273,15 تحت الصفر. أما ارتفاع الحرارة فهي تصعد على سطح الشمس حتى 6 آلاف درجة، وتغلي في باطنها ببضعة ملايين. وما انطبق على الفيزياء يصح على الكيمياء، فالحموضة لا تزيد على درجة تركيز أيونات الهيدروجين في الوسط. والإلكترون يطير في غمامة حول قلب النواة، بسرعة تقترب من سرعة الضوء.

ويمكن نقل هذا القانون إلى عالم الفكر، بل والفقه، حينما تقسم الأشياء إلى صواب وخطأ وخير وشر. فكما توزعت درجة الحرارة على شكل طيف، وليس على شكل استقطاب حدي، وأن الانتقال من الحار إلى البارد وبالعكس هو انتقال في «الدرجة» وليس في «الحقيقة»، فيمكن فهم الوجود على هذه الصورة. والشر ليس قيمة موضوعية كما يرى عالم النفس «هادفيلد»، بل «وظيفة خاطئة». والوظيفة (الشريرة) «هي استعمال اندفاع (خيّر) في وقت خاطئ في مكان خاطئ، نحو غاية خاطئة». وفي الفقه وضعوا خمسة منازل تتدرج بين الحرام والحلال، فيأتي المندوب والمكروه والحلال، (حرام ـ مكروه ـ مباح ـ مندوب ـ حلال).

 ويذهب القرآن إلى عدم اعتبار الشر شرا، بل قد يكون خيرا «لا تحسبوه شرا لكم، بل هو خير لكم»، وفي الفلسفة حيرت مشكلة (الشر) العقول، ولكنها مسألة يمكن فهمها ضمن (بانوراما) كونية، وليس ضمن فكرة (الثنائية). فالشر ليس شرا كما يقول الفيلسوف «إبكتيتوس 55- 135 م»، بل درجة في الخير، حسب علاقتنا به، بما فيه الموت. فهذه الحياة مائدة عامرة دعانا الله إليها، فإذا انتهت وجب أن نشكر صاحب الوليمة وننصرف شاكرين حامدين لا باكين نادبين. وفي تحليل سياسي قام به «مالك بن نبي» في عالم الأفكار، ذهب إلى أن الضلال السياسي سببه الوقوع في ذهان «الاستحالة» و«السهولة»، والأشياء في طبيعتها ليست كذلك، بل تسبح في طيف من الممكن والصعب والمستحيل. والاستحالة تعني أن لا فائدة من بذل الجهد، ولكن الكثير مما نظنه مستحيلا هو صعب لا أكثر، ويتطلب بذل الجهد المكافئ. كما أن بعض الأمور المستحيلة تتحول إلى ممكنة مع الزمن، كما في نقل الصوت والصورة بالقوة الكهرطيسية. وحين نقع في رهان الزهد بالموجود والحلم بالمستحيل، نرسل عقولنا إلى إجازة مفتوحة.

وموقف العرب من إسرائيل هو من هذا القبيل فإما كانت إسرائيل «دويلة عصابات»، وإما «التنين النووي»، وهي ليست ذلك ولا تلك.  ويمكن فهم الزلزال الأمريكي خارج منظومة زرادشت بين «أهرمان»، إله الشر، و«أهرمزدا»، إله الخير. والاحتلال الأمريكي في جانب منه استعمار، وفي جانب منه خير. ولولا الآلة الأمريكية ما حطمت أصنام صدام جذاذا، وتفرق البعث أيادي سبأ. وكانت فرصة للعراق أن يبني نفسه كما فعلت ألمانيا، بعد تحطيم النازية وهتلر، ولكن العراق بعد صدام نبت من رماده ألف مصدوم، وهناك من يحن إلى أيامه، كما حن بنو إسرائيل بعد خروجهم من مصر إلى البصل الفرعوني ومعها السياط، كمطر الموسون الهندي في الصيف. 

وفي يوم احتلت أمريكا اليابان وألمانيا. وروى لي الفيلسوف فيندوف من مدينة آخن في ألمانيا، كيف جاع الألمان بعد الحرب، فأكلوا لحاء الشجر وطبخوا أعشاب الأرض، ولم يكن يملك أحدهم في جيبه ماركا واحدا. واليوم يحلق الأورو إلى سحب الغمام، وتملك اليابان أضخم احتياطي من الدولار 462 مليار دولار مقابل 80 مليار دولار تملكها أمريكا. وكان سقراط ينظر إلى ذباب الخيل أنه يطرد عنها الخمول. ورأى «توينبي»، المؤرخ البريطاني، مصيبة إسرائيل أنها رحمة للعرب كي تخلق عندهم تحدي النهوض. ولا تتحول الدودة إلى فراشة فتطير بدون معاناة. ولا أطهر من النار لتنقية المعدن من الشوائب. ولقد خلقنا الإنسان في كبد.  

 خالص جلبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى