الرأيالرئيسيةشوف تشوف

الدبلوماسية المغردة

 

 

 

بدأت تغريدة مقتضبة وسامة لسفيرة فرنسا بالرباط هيلين لوغال تكبر مثل كرة ثلج لتتحول إلى قضية رأي عام. فماذا كتبت السفيرة حتى تقوم كل هذه الضجة؟

قالت إنها تواصلت مع شكيب بنموسى، رئيس اللجنة الخاصة التي أوكل إليها الملك إعداد النموذج التنموي الجديد للمغرب، وأن بنموسى قدم لها تقريرا مرحليا حول عمل اللجنة.

التغريدة سقطت مثل حجر ثقيل في بركة آسنة وانقسمت حولها التعليقات، إلى حد أن البعض طالب بإقالة بنموسى من منصبه.

بعد ساعات سيغرد حساب اللجنة المكلفة بإعداد النموذج التنموي مؤكدا أن اللقاء فعلا تم بين بنموسى والسفيرة بطلب منها وأنه كان فرصة لتناول العلاقات بين المغرب وفرنسا، وبين إفريقيا وأوروبا بعد كوفيد 19 ونتائج هذه الأزمة والتحديات التي تطرح.

مما يعني أن لجنة بنموسى تنفي أن يكون رئيسها قدم لسفيرة فرنسا تقريرا مرحليا حول عمل اللجنة، وأن اللقاء كان عاديا.

السفيرة من جهتها تمسكت بتغريدتها ولم تنف ما كتبته بشأن توصلها بالتقرير المرحلي حول عمل لجنة بنموسى.

هناك بنظري تفسيرات مختلفة لما حدث تبقى مجرد احتمالات واستنتاجات وليست أخبارًا مؤكدة.

أولًا علينا العودة إلى السياق الزمني الذي طلبت فيه سفيرة فرنسا بالرباط اللقاء عن بعد مع شكيب بنموسى، ومن يتابع مجريات السياسة الفرنسية لا بد أنه تفطن إلى الخرجة الأخيرة للرئيس ماكرون يقترح فيها على الفرنسيين إعادة ابتكار نموذج تنموي جديد والتفكير جماعيا في هذا الابتكار. بمعنى أنهم في فرنسا هم أيضا بصدد وضع نموذج تنموي جديد بعدما حطمت جائحة كورونا صرح النماذج التنموية السابقة في العالم بأسره.

مهمة السفراء في كل دول العالم هي جمع المعلومات والأفكار التي ترى حكومات بلدانهم أنها ذات أولوية، ولذلك فليس مستبعدًا أن يكون الإليزي هو من طلب من السفيرة أن “تقلقل السوق” في المغرب لعل وعسى تكون هناك فكرة ما تصلح لهم في فرنسا، فالمغرب بالطريقة التي دبر بها جائحة كورونا والإعجاب الذي عبرت عنه الصحافة الدولية، بما فيها الفرنسية التي عادة ما لا تذكر المغرب سوى بالسوء، بدأ ينظر إليه كنموذج يحتذى به في تعاطيه مع الأزمات.

أتذكر عندما جمع فرانسوا هولاند جميع سفراء فرنسا وكلفهم بمهمة رئيسية هي أن يتحولوا إلى مندوبين تجاريين، أي أن مهمتهم الأساسية هي أن يجلبوا الاستثمارات لفرنسا وأن يدافعوا عن مصالح الشركات الفرنسية في البلدان التي يعينون فيها. لذلك فالسفراء يطبقون التوجه العام الذي تسير عليه سياسة بلدانهم.

أعتقد أن السفيرة هيلين لوغال أرادت أن تحقق السبق في معرفة بعض الأفكار حول النموذج التنموي من بنموسى لكي ترسل تقريرا حولها لرؤسائها، لكنها لم تكتف فقط بذلك بل أرادت أن تضيف بنوع من العجرفة والتبجح أمام سفراء الدول الأخرى بالرباط صيغة متعالية لخبر اللقاء تترك انطباعا عاما حول التعامل الخاص الذي تحظى به فرنسا لدى المغرب، كنوع من التباهي أو ترسيم للحدود أمام سفراء الدول المنافسة لمصالح فرنسا في المغرب.

وليست السفيرة الفرنسية هي أول من يغرد حول لقائه ببنموسى، فالسفير الأمريكي أيضا فعل ذلك، لكنه كان دبلوماسيا وهو يغرد ولم يترك أي نوع من الأستاذية تتسرب إلى عباراته.

الاحتمال الثاني هو أن يكون هذا الاحتمال الأول الذي ذهبت إليه خاطئًا تماما، وأن السفيرة الفرنسية كان هدفها من طلب الاطلاع على التقرير المرحلي، الذي تقول إن بنموسى أطلعها عليه، هو معرفة الاتجاه العام الذي يسير إليه التقرير النهائي، وهل ستكون هناك قطيعة مع النموذج الفرنكوفوني لصالح نموذج أنجلوساكسوني أو نموذج مغربي أو إفريقي أو غير ذلك من النماذج. بمعنى أن السفيرة أرادت أن تعرف موقع المصالح الفرنسية المستقبلية في هندسة النموذج التنموي الجديد.

وهذا طبيعي، فكل السفراء يحرصون على فعل الشيء نفسه، سوى أن ما قامت به السفيرة الفرنسية عندما غردت تلك التغريدة ألقت ظلالًا من الشك حول الهدف الحقيقي من ذلك التصرف الذي يخرق واجب التحفظ.

ومن هنا نأتي إلى الاحتمال الثالث الذي يقول إن السفيرة، وهي الدبلوماسية المدربة في إسرائيل لسنوات طويلة على فنون الحرب الباردة، أرادت أن تتصرف مثل فيل داخل دكان للخزف، أي أنها أرادت أن “تشريها” لبنموسى ولنفسها أيضا. هكذا تصبح شخصية غير مرغوب فيها ويتقدم المغرب بطلب إبعادها عن سفارة فرنسا بالرباط وإبعاد بنموسى عن سفارة المغرب بباريس، وتعيين سفيرين جديدين وطي صفحة الخلافات مع فرنسا التي لا يخفى على المتتبع الحصيف أنها تعمقت في الفترة الأخيرة، خصوصا عندما تصرف ماكرون قبل ثلاثة أشهر كمقيم عام وهو يعطي الأوامر للمغرب لتسهيل سفر الفرنسيين العالقين في المملكة بعد قرار إغلاق الحدود.

الاحتمال الأخير هو أن التغريدة كانت مجرد زلة لسان، ستنال عنها السفيرة الفرنسية استفسارًا من وزير خارجيتها، فيما بنموسى سيتعرض لعملية تجباد الودنين ونبينا عليه السلام.

لكن تغريدة السفيرة الفرنسية بالرباط يمكن أن يكون مفتاح قراءتها من جملتها الأخيرة حيث تقول “آفاق جد واعدة للعقد الاقتصادي الجديد”.

لفهم حديث السفيرة الفرنسية عن الاقتصاد وآفاقه الواعدة يجب أن نعود شهرين إلى الخلف لكي نتذكر ما طالب به الجواهري والي بنك المغرب البنوك. لقد طالبها بعدم توزيع أرباحها السنوية لأن الوضع المالي للمملكة لا يسمح بذلك.

المطلب كان هو ضخ الأرباح في الاستثمار لتحريك عجلة الاقتصاد والاستهلاك.

الذي حدث هو أنه قبل أربعة أيام أعلن بنك Crédit du Maroc  عن نيته توزيع أرباحه السنوية على المساهمين، ومن هو المساهم الرئيسي في هذا البنك؟ إنه بنك Crédit agricole s.a  الفرنسي الذي يملك 78,7 من أسهم البنك، مما يعني أن أرباحا بملايين الأورو ستخرج من المغرب لكي تذهب إلى خزينة البنك الفرنسي الأم.

لذلك بمجرد ما أعلن البنك عن نيته توزيع الأرباح تحركت الهواتف واضطرت إدارة البنك إلى إصدار بلاغ تقول فيه إن قرار توزيع الأرباح تم اتخاذه في الجموع العامة وأن الإدارة داخلة في حوار مع بنك المغرب للتوصل إلى حل.

نفهم من بلاغ البنك أنه متمسك بتوزيع الأرباح، وأن هناك مفاوضات لتحديد السقف.

فرنسا لديها حضور بنكي قوي في المغرب عبر فروع بنوكها الكبرى مثل BMCI Paris bas و CGو CA.

وهذه البنوك كلها حققت أرباحًا كبيرة برسم سنة 2019، وتريد توزيعها على المساهمين، الذين ليسوا سوى البنوك الأم في باريس.

وليست فروع البنوك الفرنسية في المغرب وحدها من تريد توزيع الأرباح وإرسالها بالعملة الصعبة لشركاتها الأم بفرنسا بل هناك شركات أخرى تشتغل في مجالات مختلفة، منها قطاع صناعة السيارات، الذي تعتبر عائداته بالنسبة لخزينة المغرب أكبر من عائدات الفوسفاط.

لذلك فهناك ما يشبه الضغط أو الابتزاز في الهواء، تريدون أن نبقي على وحدات إنتاجنا في قطاع السيارات مفتوحة تشغل حوالي 100 ألف مغربي فهناك مقابل وهو إخراج الأرباح بالعملة الصعبة. خصوصا وأن الشركات الفرنسية الأم العضوة في CAC 40 أعلنت تكبدها لخسائر تتراوح ما بين 20 إلى 30 بالمائة، فضلًا عن ارتفاع أصوات تطالب ماكرون بإعادة الصناعات الموطنة خارج التراب الفرنسي لتشغيل اليد العاملة المحلية، والمغرب يحضر في خطابات هؤلاء كبلد معني بهذا الأمر.

مطلب والي بنك المغرب كان هو أن مساهمة هذه الشركات الأجنبية في المجهود الجماعي ضد جائحة كورونا هو تخليها هذه السنة عن توزيع أرباحها وضخ هذه الأرباح في الاستثمار من أجل تحريك عجلة الاقتصاد.

يبدو أن هذه الشركات الأجنبية، خصوصا البنوك، لديها تعليمات أخرى من إدارات شركاتها الأم تطالبها بإرسال الأرباح بالعملة الصعبة لأنها هي أيضا تعاني من الأزمة.

في أبريل الماضي أكد الجواهري والي بنك المغرب وجود احتياطي 24 مليار يورو من العملة الصعبة كافية لخمسة أشهر مقبلة.

نحن اليوم في بداية يونيو وليس هناك أي تقرير صادر عن البنك المركزي حول احتياطي العملة الصعبة.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى